تصل إلى بيروت محملا بقصائد محمود درويش، إلى أرض التضحية لأجل الأرض، تصل محملا بأغاني مارسيل وأحمد قعبور، إلى جنة المقاومة والصمود المستدام أمام كل أنواع الغزاة، تصل محملا برخامة صوت فيروز ورزانة الرحابنة، إلى ينبوع الجمال الخالص والفن الأنيق. تصل إلى بيروت باحثا عن مقاهي المثقفين والشعراء، عن دور النشر، عن الشوارع والحارات، فلا تجد سوى "الهاي كلاص" وآثار رصاص الحرب الأهلية على الجدران. – أين هي بيروت؟ أجابت صديقتي، حين بدأت شركة "سوليدير"، بخوصصة كل شيء، بشراء الأراضي والدور القديمة وإعادة تعميرها.. لم تغير فقط صورة المدينة بل أيضا بدلت البيروتيين بأناس غيرهم، بيروت الآن هي الحديقة الخلفية لحريم أمراء الخليج… وراحت صديقتي تشرح لي كيف أن الشركة التي أسسها رفيق الحريري، محت أغلب الأماكن التي كانت تميز بيروت كالأسواق الشعبية وأهم ملامح الحياة الاجتماعية البيروتية.. حَكَت كيف أن النشطاء الشباب يشنون حملة أهلية واسعة لحماية "دالية الروشة" وهو آخر فضاء عام بقي كمتنفس وحيد للأهالي بيروت ورمز لبيروت في البطاقات البريدية… هي حملة من أجل حمايت هذا الفضاء من آلة العقار التي لا تُبقي ولا تدر.. وما خفي كان أبشع. حتى الأطلال التي يحلو لنا البكاء عليها مُحيت، جاء بدلها "الهاي كلاص". أسواق "هايكلاص". بنايات وفنادق"هايكلاص". إذن، قفا نبكي، أمام "الهاي كلاص". بيروت التي كانت تعُجّ بدور النشر المنذورة للثقيف والترقي الجمالي، أصبحت، بين عشية وضحاها، عاصمة لجراحة التجميل. انتقلت من العناية بالعقل والروح إلى العناية بالأنوف والشفايف. دور النشر لازالت متواجدة، لكن أصبحت مجرد مطبعات، تطبع أتفه ما يمكن أن يُكتب مقابل ليرات معدودات. قليلة هي دور النشر التي لازالت تحتفظ بلجان لقراءة الأعمال التي تفد عليها. كثيرة هي دور النشر التي أصبح هاجسها الأول في قبول أو رفض الأعمال المقدمة عليها وِفقَ ذائقة المتلقي البدوي- الأمريك، ذائقة السوق الخليجية، ولكم أن تتصورا ذائقة السوق الخليجية. رجل في الخمسينيات، صاحب إحدى الفضاءات الثقافية التي صمدت أمام عمليات المسخ والتجميل المتعاقبة على بيروت، والتي جعلت منها مدينة بدون ملامح كفنانة تخاف من الشيخوخة، لخّص لي الموضوع، حين سألته: – ما الذي حدث لبيروت؟ – إننا ندفع ثمن الذاكرة. – كيف ذلك؟ – بيروت ذاكرة فن المقاومة من المحيط إلى الخليج، إنهم يمحون ملامح هذه الذكرى؟ – من هم؟ – إسرائيل تخطط والسعودية تدفع. عندما سألته: ألا تبالغ؟ ابتسم وأخرج عوده، وراح يغني النشيدَ المرّ. أما انا فقد اكتشفت أن لا وجود لبيروت في بيروت. سقطت ذاكرتي فلم انتشلها. وسقطتُ قربي فتهت في المطارات بيروت خيبتنا، يا أصدقاء