إنّنا أمام علامةٍ فارقةٍ في الثقافة والفكر العربِيَيْن، وهذا بائنٌ في مُنْجَزه المتعدد. مُنْجَزٌ فكريٌّ، وآخرُ مُسائِلٌ للراهن العربي والعالمي، وآخرُ أدبيٌّ وإبداعيٌّ. فالنظر إلى هذه الأبعاد الثلاثة يلزم من متتبعه قراءة 46 كتابا إلى حدود الآن، والبقية قادمةٌ لا محالة. لذا حاولنا التحاور معه في هذه المجالات، إلا أننا حصرنا الحوار الأول في البُعد الأخير من مُنجزه، عسانا نُتابع الحوار معه في السنة القادمة، وكل ذلك من أجل تقريبٍ عامٍّ لهذه الشخصية المائزةِ في ثقافتنا المغربية والعربية للقراء. لقد حاولنا خلال سِتِّ لقاءات على مَدَى شهرين الحوار معه انطلاقاً من أسئلةٍ حول الكتابة الروائية، وحول الحرب في لبنان، والأفق السحري في نصيه «رائحة المكان» و«ليليات»، إضافةً إلى النوافذ التي فتحها لنا على ضفاف شخصيته، والظلال التي تحيط بها من قبيل الشعر، الغناء، الموسيقى، بيروت، وعلاقته بشخصيات سياسية وفكريةٍ تواصل معها بطريقة أو أخرى... وبالجملة فإن الإنصاتَ إلى عبد الإله بلقزيز يرفعك إلى مساءلة الجوانية فِيكَ/فينا: كما لو كان الإنصاتُ إليه يحملك إلى آخَرِكَ. هنا تكمن المتعة الفائقة، تستدرجك نحو عوالمَ أرحبَ، تكون فيها الكتابة التزاماً إن لم نقل الشرط الوجودي للكائن. لكن كيف ورطناه في هذا الحوار؟ علماً أنَّه لم يعطِ أيَّ حوار منذ ما يزيد عن عشرين سنةً باستثناء ما قدَّمته القنوات العربية كالمنار، والميادين.. لا أقول إنِّي كنت محظوظاً في تهريبِ صرامَتِه العلميّة إلى القراء. بل أقول له شكراً لأنّه فتح لنا نوافذه، مثلما أشكر الصديق محمد رزيق الذي ساعدني في تفريغ هذا الحوار. o نود أن تتحدث لنا عن الشيخ إمام. n اكتشاف أغنية الشيخ إمام عيسى، بداية السبعينيات، كان حدثاً كبيراً في حياتي، أنا شخصياً، وفي حياة الجيل الذي انتمي إليه. لن أقول إنني اكتشفت الاغنية الملتزمة للشيخ إمام، لأن هذه الأغنية عريقة في تراث الرحابنة والسيدة فيروز، لكن ما اكتشفته شخصياً في تجربة الشيخ إمام هي الدرجة التي انتقل فيها الالتزام السياسي و الوطني والقومي في تجربته الغنائية. وهذا كان غير مألوف في الإنتاج الغنائي العربي. ولعل درجة النقد العالية في أشعار أحمد فؤاد نجم و أغاني الشيخ إمام كانت هي القيمة المضافة لتجربة الغناء الملتزم الذي بَدَأَ منذ الخمسينيات مع الرحابنة. هذه واحدة، الثانية أطلّت علينا تجربة الشيخ إمام عيسى و أحمد فؤاد نجم بنكهة موسيقية مختلفة؛ غناء غير أركسترالي لم نتعوّدْه لا في أعمال الرحابنة ولا في أعمال محمد عبد الوهاب أو رياض السنباطي أو محمد القَصَبْجي أو محمد الموجي أو كمال الطويل أو غيرهم. فرقة أشبه ما تكون بالتخت الشرقي القديم، محمولة في الوقت عينه على نكهة المقام العربي الأصيل كما بلوره سيّد درويش منذ بداية القرن 20، وكما سار فيه الشيخ أبو العِلا محمد والشيخ زكرياء أحمد قبل انقلاب محمد عبد الوهاب على كل هذا التراث الأصيل. الشيخ إمام أعاد سيِّد درويش الى الحياة. تسمع أغنياته فتشعر فعلاً بأنك في قلب النص الدرويشي ممزوجاً بنكهة الأذان والترتيل. هذا كان بسبب أن الشيخ إمام عيسى بدأ حياته مقْرِئاً و مُرتِّلاً للقرآن الكريم، فأدخل هذا المناخ الديني في صلب الأغنية. تجد ذلك حتى حين يستعمل الموال؛ يستعمله على طريقة أقرب ما تكون إلى الأذان. بصوته الجَهْوري العميق والأصيل تشعر أنك تعود إلى البدايات الثقافية والبدايات الغنائية في مسار الغناء العربي الحديث والمعاصر. طبعاً أنا في حينها كنت ما أزال مراهقاً و مَهْجوساً بالأحلام الثورية الرومانسية، فكان يشبعني في غناء سيد درويش ذلك النفس الثوري التحريضي الذي كان يناسب النفسية الجماعية كجيلٍ رَبِيَ في أجواء اليسار والثورة الفلسطينية وغيرها. في الثمانينيات حينما بدأتُ أشعر ببعض البُرْءِ من النزعة التحريضية أصبحت علاقاتي بالسياسة نوعاً ما، أو أزعم أنها أصبحت متوازنة، انتبهت إلى أشعار أحمد فؤاد نجم غير السياسية؛ انتبهت إلى أغنيات الشيخ إمام غير السياسية، واكتشفت أن التجلي الإبداعي العميق والعظيم إنما كان فيها بالذات والازْوِرارُ عنها، في ما مضى، إنما كان مرده إلى أنها لم تكن تُشْبع الحاجة الثورية. فأغنيات مثل «أنا أتوب عنك» تُذكّرك، على الفور، بالشيخ زكريا أحمد في أغنياته لأم كلثوم الأولى في العشرينيات، مثل «هو صحيح الهوى غلاّب» أو حينما أسمع أغنية «حلُّوا المراكب مع المغرب وفاتوني»، أتدكر فوراً سيّد درويش. أو حين أسمع أغنية «نوارة بنتي» (كانت بنته نوارة وهي من قادة الثورة المصرية في 25 يناير قد ولدت في حينها، وكتب قصيدة عنها أحمد فؤاد نجم هي من أجمل قصائده) حينما أسمعها، اليوم، أكتشف هذا البعد الإنساني العاطفي العميق: في شعر أحمد فؤاد نجم، وفي غناء السيد الشيخ إمام. أعدت اكتشاف الوجه الآخر للشيخ إمام كملحن أصيل وكمُغَنٍّ أصيل بعيداً عن الإغراء التحريضي الذي كنّا نطلبه من أغنيات الشيخ إمام في سنوات السبعينيات. يكفيك أنه نجح في أن يخترق كل الحُجُب وكل الأستار وكل القيود التي كانت مضروبة على الأغنية الملتزمة طيلة النصف الأول من السبعينيات، فتحوَّل إلى أكثر من مغنٍّ يملك شعبية في كل الوطن العربي؛ من المحيط الى الخليج، ناهيك بأدوار قام بها في تعليم كثيرين العزف. لا شك أنك تعرف أن سيِّد مكاوي، الذي لحن «يا مسهرني» للسيدة أم كلثوم أحد تلامذة الشيخ إمام؛ تعلّم العزف على آلة العود على يد الشيخ إمام وتنكَّر له بكل أسف! وهذا التخت الشرقي مؤلف من مجموعة من الصعاليك؛ صعاليك حي الغورية وحي الحسين في القاهرة، على رأسهما الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم وبعض رفاقه من الشيوعيين المصريين بدرجة أولى أساس. وجد الشيخ إمام في شعر أحمد فؤاد نجم ضالته، تماماً كما وجد أحمد فؤاد نجم في غناء وفي صوت الشيخ إمام حامله. وفعلاً أشعار أحمد فؤاد نجم كانت مثالاً في ذالك الحين للشعر الزجلي الرفيع و الملتزم. أنا شخصياً لم أكن حينها قد تعرفت على أشعار زجّالين كبار أمثال طلال حيدر في لبنان، وإن كنت قد عرفت في ما بعد، أن بعض أشعاره غنَّتْها السيدة فيروز. وكنت أحفظها عن ظهر قلب، لكنني لم أكن أعرف أنها لطلال حيدر، أن لحَّن له، في منتصف السبعينيات، الفنان زياد الرحباني، ابن السيدة فيروز، بعض أشعاره خاصة قصيدته «وَحْدُن»، وهي قصيدة استتنائية في جماليتها. ولم أكن قد تعرفت أيضاً الى أزجال عمر الزّعَنِّي في لبنان، و لا الى أزجال الصديق الراحل جوزيف حرب ومحمد العبد الله...إلخ. كان أحمد فؤاد نجم يمثل بالنسبة إلي وبالنسبة إلى جيلي الرمز الأعلى للقصيدة الزجلية. وكنا حينما نقارنه إيجاباً ببيرم التونسي الذي غنَّى قصائده سيّد درويش، أو كنّا نقارنه بمجايليه: عبد الرحمن الأبنودي، سيِّد حجاب، أو صلاح جاهين. لكن في هذه المقارنة كان دائماً يبرز اسم أحمد فؤاد نجم باعتباره التمثيل الأجلى و الأعلى والأكثر والأظهر للقصيدة الزجلية الجديدة. للأسف الشيخ إمام عيسى إن كان قد لقي استقبالاً من الجمهور ومن الشعوب ومن جيل اليسار عموماً، لم يلْقَ من النقاد والباحثين الاستقبال الطيب الذي يليق به كأثر فني رفيع في تاريخ الثقافة العربية المعاصرة. باستثناء العمل الذي قامت به فريدة النقاش، الذي أنصف تجربة الشيخ إمام، لم أجد في الحقيقة الشيء الكثير الذي يناسب المكانة التي احتلتها تجربة الشيخ إمام عيسى في تاريخ الغناء العربي. الذي انتبه إليه من الموسيقيين انتباهاً طيباً هو الفنان الكبير زياد الرحباني، حتى أنه كان قد وضع له أغنيتين من افضل أغاني زياد على الإطلاق: «أنا مش كافر» و»شو هالأيام اللي وصلنا لها». لكن للأسف لم يتح للشيخ إمام أن يؤدي الأغنيتين فأداهما زياد الرحباني أداءً رفيعاً. فالشيخ إمام مؤسِّس، وكل الغناء الملتزم الذي بدأ في أواسط السبعينيات مع زياد الرحباني في أغنياته في مسرحية «سهرية» أو «نزل السور» ومع مرسيل خليفة ثم، في ما بعد، مع أحمد قعبور، وخالد الهبر، ومع غازي مكداشي، ومع الهادي قلّة في تونس، وسعيد المغربي في المغرب، هو في الحقيقة ينهل من مصدرين: المصدر الأول التجربة الرحبانية الكبيرة تجربة عاصي ومنصور والسيدة فيروز، والمصدر الثاني الشيخ إمام؛ هو ينهل من التجربة الرحبانية في ذائقتها الجمالية، وينهل من الشيخ إمام في قضايا الالتزام الوطني والاجتماعي والقومي. الشيخ إمام علامة فارقة في تاريخنا العربي الحديث؛ كان كبيراً، عاش فقيراً إلى درجة الصعلكة، وأوذِيَ ايذاءً شديداً من قبل السلطة: سواء في عهد الراحل جمال عبد الناصر، وخاصة في عهد محمد أنور السادات، ودخل السجون وعُذِّب وهو رجل طاعن في السن، ولكنه لم يساوم في أي لحظة على القضية التي انتدب نفسه للدفاع عنها بصوته و بعوده وبما ملكت أيمانه من إمكانيات متواضعة. عاش فقيراً ومات فقيراً، تماماً مثل رفيقه أحمد فؤاد نجم الذي فقدناه قبل نيِّفٍ وعام. o تحدَثّتم كثيراً عن الغناء والموسيقا الشرقية. ماذا عنهما في المغرب؟ n تجربتنا الموسيقية الحقيقية، في المغرب المعاصر، ولعلها الوحيدة في تاريخ المغرب كانت في الستينيات مع عبد السلام عامر. الأعمال التي قدمها عبد السلام عامر، وهو ما يزال في ريعان شبابه، حيث كان في الثانية والعشرين أو الثالثة والعشرين من عمره حينما وضع موسيقا أغنية «القمر الأحمر» التي غناها عبد الهادي بلخياط، وبعدها بعام أو عامين وضع موسيقا أغنية «الشاطئ» تم تتالت الأغاني: «ميعاد»، «سمعت عينيك»، «راحلة» لمحمد الحياني، «قصيدة الأشواق» لمحمد الحياني، و ما تلا ذلك من الأغاني. عبد السلام عامر موهبة موسيقية فريدة و نادرة في تاريخ الموسيقا، ليس فقط في المغرب، فحسب، وإنما في الوطن العربي. و بكل أسف بدأ يقدم أعماله في لحظةٍ كان قد بدأ فيها الضجيج الذي يُنْسَب نفسه الى الموسيقا والغناء. اختط لنفسه طريقاً التزمه، ولم يحِدْ عنه، إلى أن توفي في نهاية السبعينيات. وهو توفي صغيراً حيث لم يكن قد بلغ الأربعين. وطبعاً كانت له أزمة تعرفونها جيداً حين أُجْبِرَ على ان يتلو بيان انقلابيي الصخيرات سنة 1971 من مبنى الإذاعة والتلفزيون، و جر عليه ذلك تبعات كبيرة. ولم يُنتج كثيراً بعدها باستثناء عمل ملحمي وطني اعتقد في سنة 72 غناه عبد الهادي بلخياط (نسيت اسمه موكب النصر او موكب الخالدين). ولكنه عمل ملحمي جبار، بعده لم يعد يلحن. ثم كان للمرض دور كبير في تغييبه كل هذه الفترة إلى حين رحيله. عبد السلام عامر متشبع بالموسيقا العربية الأصيلة، ويُلحِّنُ على الأصول، والجملة الموسيقية عنده فيها قدرة تركيبية مذهلة بكل معنى الكلمة، ولكن فيها روح تجديد. إنه لا يجتر النسيج الموسيقي العربي السائد في ذلك الحين، وهو كان رفيعاً، وإنما كان يُجدِّد. وأنا كنت دائماً أشبهه بمحمد القصبجي في روائع أم كلثوم وروائع اسمهان. وَعبد السلام عامر يقصد، في أغنياته التي يلحنها، أن يُفْرِدَ المساحة الأكبر لا للصوت وإنما للموسيقا. لو تستمع إلى «القمر الأحمر» - وهي من أجمل قصائد الشاعر عبد الرفيع الجواهري - أو إلى «الشاطئ» أو إلى «ميعاد» تكتشف أن المساحة المفردة للموسيقا هي ضِعْف المساحة المفردة للصوت والغناء عَلى الرغم من أن أداء عبد الهادي بلخياط في ذلك الحين (في الستينيات) كان أداءً رفيعاً قبل أن يتجه اتجاهات لا ترضي تاريخَه بدْءً من سنة 72 فما فوق، إلى أن تحوَّل الى مطرب للأغنية الدينية في السنوات الأخيرة. لكن مساحة صوته كانت كبيرة في ذلك الحين، واستثمرها عبد السلام عامر استثماراً جيداً وكان يكتب له جملاً من الصعب تأديتها أداءً مناسباً إلا لصوت تتوفر فيه مساحة كبرى، بحيث يستطيع أن يتحرك في دائرة أوسع في الأداء وفي إتقان مخارج الصوت وتعبئته النَّفَس بين الجمل المُؤَدّاة، وما إلى ذلك. هذا في ما تعلق بالغناء، أي الكتابة الموسيقية للغناء، علماً أن عبد السلام عامر (وهذه أيضاً من العجائب والغرائب) في ما لم يكن يستطيع أن يكتب النوتة الموسيقية، وكان يلحن بصوته. وهذا شيء في مدار الخيال بالنسبة إلى الموسيقا. ولكن كان الى جانبه موسيقيون آخرون كتبوا موسيقا فقط؛ بعضهم كتب أغاني، لكنها قليلة مثل عبد الرحيم فنيش أو عبد النبي الجراري، وبعضهم تفرغ للإنتاج الموسيقي السمفوني مثل مصطفى بنيس، الذي اشتغل اشتغالاً سمفونيا رفيعاً على الطرب الأندلسي، وأنجز سمفونيات من وحي الطرب الأندلسي رائعة جداً، للأسف لا يعرفها المغاربة، تماماً كما لا يعرفون شخصاً مثل أحمد الصياد صاحب سمفونية «الماء». هؤلاء هم الذين نباهي بهم الخلق في مجال التأليف الموسيقي. من تبقى من عشرات أو مئات الأسماء ممن يسمون ملحنين او مغنين أنا استسمحك عذراً في عدم الحديث عنهم.