برحيل أحمد فؤاد نجم، يكون العالم العربي قد فقد آخر الشعراء الجذريين. كان نجم مثل زهرة عباد الشمس، جذره منغرس في تربة البلد ورأسه يدور مع شمس العقل والعدالة والحرية، في انتقالها الدائم من الشرق إلى الغرب. عندما عثر «الفاجومي»، لقب أحمد فؤاد نجم، على عازف العود الضرير الشيخ إمام عيسى، كان الأول مفتونا بالشاعر الشعبي بيرم التونسي، إلى درجة تجرأ فيها على القول إن بيرم أجدر بإمارة الشعراء من أحمد شوقي. وكان الثاني، الشيخ إمام، ملازما لشيخ الملحنين زكريا أحمد، يردد في إثره «الآهات» و»أهل الهوى» و»الأولة في الغرام».. قبل أن تغنيها أم كلثوم. مرة تناهى إلى «السِّت» أن ألحان زكريا أحمد لها تتردد على ألسنة «الصايعين» قبل أن تصل إليها، فاحتجت عليه بقوة: «لن أسمح لك يا شيخ زكريا بإسماع أغانيّ إلى أصدقائك الحشاشين». لفظ الشيخ زكريا أحمد نديمَه الشيخ إمام فتلقفه أحمد فؤاد نجم. ومثلما يحدث حال التقاء جسمين فيزيائيين متنافرين، كان لقاء نجم وإمام عنيفا، وانتهى بأن قلب كلاهما الآخر: سرى خدر الطرب في دم أحمد فؤاد نجم فهذب شخصيته وامتص شيئا من نزقه وفتوته؛ ولفح غضب الفاجومي الشيخ إمام فخفف من إيقاعه وألبسه بعض الحماس والسخرية، فأصبحت ألحانه أبعد من زكريا أحمد، أقرب إلى سيد درويش. هكذا صار الشيخ ونجم يرثيان تشي جيفارا «مات المناضل المثال.. يا ميت خسارة ع الرجال»، ويحولان هزيمة 1967 إلى نكتة «الحمد لله خبطنا.. يا ما أحلى رجعة ضباطنا»، ويشيدان بعودة الوعي الطلابي «رجعوا التلامذة يا عمّ حمزة للجد ثاني»، ويسخران من سلاطين «الفول والزيت» عند استقبالهم الرئيس الأمريكي نيكسون، صاحب فضيحة «الووتر جيت»، ويرحبان على طريقتهما بالضيف الفرنسي جيس كارديستان و«الستّ بتاعتو كمان»... إلى أن ضاق صدر النظام بهما فقادهما إلى السجن بتهمة ثقيلة: تعاطي «الحشيش». وجد الشيخ إمام، الذي كان يحلم بالغناء على خشبة تياترو الأزبكية، نفسه بين أربعة جدران، وبتهمة «وسخة». لكن الفاجومي، الذي سبق له أن اعتقل سنة 1959 على إثر مظاهرات عمالية ولفقت له تهمة أشد وساخة هي «الاختلاس»، سوف يخفف من وطأة السجن على رفيقه الضرير، الذي سيصبح شيئا فشيئا «ضيف المعتقل سنوي». حول نجم وإمام السجنَ إلى معهد لتأليف أغاني تحمل رسائل خاصة إلى هرم السلطة: «شيد قصورك ع المزارع.. من كدنا وعرق جبينا.. والخمارات جنب المصانع.. والسجن مطرح الجنينة.. واطلق كلابك في الشوارع.. واقفل زنازينك علينا». الانقلاب الذي حدث في حياتي أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام سيظهر جليا في أغنية «يا اسكندرية»، وبالضبط في المقطع الذي يقول: كأني فلاح في جيش عرابي مات ع الطوابي وراح في بحرك... كأني كِلمة من عقل بيرم كأني غِنوه من قلب سيد.. كأني جُوا المظاهرة طالب هتف باسمك». في هذا المقطع من القصيدة يتمنى نجم أن يكون فلاحا من جيش أحمد عرابي، وكلمة من عقل بيرم التونسي، وأغنية من قلب سيد درويش، وطالبا في مظاهرة، رابطا بين ثورة عرابي التي انطلقت في 1881 وبين تظاهرات الطلبة احتجاجا على فشل «ثورة» الضباط الأحرار، مع استحضار رمزين فنيين انطلقا نحو الشهرة دون أن يقطعا مع جذورهما الشعبية: سيد درويش وبيرم التونسي. إبداعيا، هل أنصفت تجربة نجم وإمام؟ لا أظن، فباستثناء بعض الإشارات النقدية الواعية التي تصدر من حين إلى آخر عن نقاد ومبدعين، من أمثال زياد الرحباني، فإن أغلب من تناول هذه الظاهرة كان ينظر إليها من الزاوية السياسية؛ فالتربة اليسارية التي نبت فيها أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، بقدر ما أعطتهما جمهورا عربيا وعالميا عريضا، اختزلتهما في بوتقة الأغنية السياسية الملتزمة، ومرد ذلك إلى اعتبارين اثنين، هما: ضعف التكوين الموسيقي والشعري لجمهور اليسار العربي الذي احتضن هذه التجربة وروج لها؛ وسقوط جزء كبير من الوعي النقدي اليساري في اختزال الفن في كونه مجرد أداة للتغيير، مهمته التحريض وإلهاب الحماس، بتعبير مكسيم غوركي في روايته «الأم»: «عندما تحين ساعة الصراع، لن يبقى لدينا متسع لتنظيف الأظافر»! الفاجومي بدوره كان يولي اهتماما للهم السياسي والاجتماعي في تجربته، أكبر من الجوانب الإبداعية. هل لأن الشعر والموسيقى يأتيان في سلم أدنى القهر الاجتماعي، قدرنا العربي؟ ربما. من هو الفاجومي؟ « شخص لا يستطيع كبح جماح مشاعره ومواقفه حتى لو ذهب ضحيّتها، وهذا تعريف أحمد فؤاد نجم»، يجيب أحمد فؤاد نجم.