في حزيران عام 1982 تحركت قوات الغزو الاسرائيلي بدعم من الامبريالية الأمريكية ، وشنت عدواناً بربرياً ووحشياً شاملاً على لبنان، استخدمت فيه طائراتها ودباباتها وبنادقها واسلحتها الفتاكة المحرمة دولياُ . واستهدف العدوان محاصرة الوجود الفلسطيني وضرب القرار الفلسطيني المستقل وتصفية منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة القائد الخالد ياسر عرفات. وقد تحولت سماء لبنان في ذلك الحزيران الى لهب أحمر يصب الحمم والقذائف ، وتحول البحر الى بركان يقذف الموت للأبرياء العزل ، وتحولت الأرض الخضراء وينابيع لبنان الى محرقة تنشر الدمار والخراب والهلاك ، وتحول الجنوب اللبناني النازف الى موت كامل . في حين وقف أبطال المقاومة الفلسطينية وأبطال الحركة الوطنية اللبنانية كالمارد في وجه العدوان الغاشم ، وحولوا النيران الى أمجاد ، والدمار الى عزة وكرامة . وحولوا البراكين الى كبرياء وشموخ ، وعلّموا العالم العاهر الداعر كيف تصنع الملاحم الأسطورية ، ملاحم الصمود والاباء والتحدي . وقلب المقاتلون حسابات وخطط الغزاة والمتآمرين ، الذي أخطأوا في حساباتهم وتقديراتهم وظنوا أن حربهم الهمجية عبارة عن نزهة قصيرة تستغرق ساعات معدودة ، ولكن الحقيقة أن القتال استمر زهاء ثلاثة شهور ، ولم تتحقق الأهداف السياسية والعسكرية الاسرائيلية المعلنة وغير المعلنة. وبيروت التي لا ولن تموت ،هي عاصمة وقلعة الصمود الفلسطيني واللبناني في الزمن العربي الرديء . انها ستالينغراد الفلسطينية ، التي وقفت أمام جحافل الغزاة تبتسم للموت وتنشد الأغاني والهتافات لأبطال المقاومة ، الذين سطروا بدمائهم الذكية الطاهرة صفحات مشرقة، وكتبوا تاريخاً مجيداً ناصعاً في الصمود والمواجهة ، وتمرّدوا على الموت والظلم والقهر والإذلال والسقوط والانهزام العربي. وطبيعي أن تتحول بيروت من مدينة عادية الى معبد للمعاني ، وموتيف للشعراء والكتاب وعشاق اللغة والكلمة الادبية ، وكيف لا تتحوّل الى ملحمة جلجامش والى قصيدة حب وعشق يتغزلون بها ، وهي المدينة الصامدة الصابرة الشامخة البطلة ، التي أضحت اسطورة الصمود الذي سجله التاريخ الفلسطيني واللبناني والعربي بأحرف من نور ومداد لن يجف أبداً ، وظلت أمينة لمعانيها ولدم مقاتليها الأشاوس . ان تجربة بيروت استلزمت كتابة ثورية جديدة بلون آخر من نوع آخر ، لأن ما جرى فيها هو أكثر من تجربة عادية في تاريخ شعب ذاق العذاب والمرارة والتشرد ، انه أكثر من زلزال . وكما قال الشاعر الفلسطيني الكبير الراحل محمود درويش ، الذي عاش تجربة الحصار ونجا من الموت ، وأحب بيروت وكرهها في آن، لأنها أحيته وقتلته : " كل شبر في بيروت مقدس الآن .. بيروت هي مريم المجدلية الجديدة ، كل تفاصيل بيروت ومعانيها السابقة لها قداسة ولم تتمتع بها مدينة من قبل. وبيروت أيضاً تطهرت ولم تعد عاصمة ". أو كما قال الشاعر والكاتب والصحفي الفلسطيني المرحوم عفيف صلاح سالم :"بيروت لا تستحم في البحر .. ولم تستجب لغزل البحر ذي المياه الزرقاء والشمس الحزيرانية اللافحة .. رفضت بيروت أن تعرض مفاتنها على رمال شواطئ العري العربي الممتد من الخليج الى المحيط ، واستبدلت ثيابها الناعمة كالحرير بثياب المقاتلين المموهة ، وتحولت زجاجات العطر و"البرفان" في يد ابنائها وأطفالها الى قنابل آر.بي. جي.. وخطت يد بيروت ، المدينة التي لا تموت ولن تموت ، أولى أحرف المقاومة الشعبية العامة في ظل حصار يتوئمها مع ليننغراد وستالينغراد". لقد وضعت معركة بيروت المثقف والمفكر والمبدع الفلسطيني واللبناني والعربي أمام تحديات جديدة ، وطرحت دور الثقافة والأدب في المعركة . وفي حينه قال طيب الذكر محمود درويش انه "يكتب صمته" ولكن سرعان ما تخلى عن ذلك وقدّم لنا قصائد ونصوص شعرية رائعة وجميلة ذات نفس ملحمي وروح قتالية بقالب فني وأدبي راق وجديد. وكان قد اجتمع في بيروت تحت القصف وهدير المدافع وازيز الطائرات أكثر من خمسين مثقفاً وأديباً وكاتباً وشاعراُ فلسطينياً ولبنانياً وعربياً ، وقرروا إصدار نشرة "المعركة" التعبوية التحريضية بهدف بث روح القتال والمقاومة والصمود والتحدي والأمل والتفاؤل الثوري في نفوس وقلوب المقاتلين والمحاربين الأبطال الصناديد ، المدافعين عن كرامة وشرف وحرية بيروت ولبنان . وعلى صفحات "المعركة" تجمعت أروع السمفونيات واللوحات الأدبية ، وأبدع الشعراء وأصحاب القلم في كتابة ملحمة بيروت من خلال المعايشة اليومية للحصار والحرب العدوانية الهمجية الشرسة ، التي خلفت المآسي والدمار والخراب . وخلال معركة بيروت استشهد الشاعر الفلسطيني المتمرد النقي والتقي الصافي كالزلال والماء ، شاعر الفقراء والصعاليك والمهمشين والمعذبين والبسطاء ، وصاحب "الرصيف" علي فودة ، الذي امتزج دمه بالشوارع والأرصفة والأزقة التي عرفته وعرفها ، وعشقته شاعراً مقاتلاً يجوب ويطوف من حي الى حي، ومن زقاق الى زقاق، ومن متراس الى متراس آخر ، حاملاً أعداد "الرصيف" ليوزعها على المقاتلين في قلب المعركة. وخلال معارك بيروت الدامية سقطت أيضاً الشهيدة الإعلامية الجنوبية نعم فارس ، صاحبة الصوت الحريري الملائكي المشبع بالانسانية وحب الحياة والحرية ، والمعطر برائحة برتقال يافا وزعتر الجليل والدم الفلسطيني القاني.هذا الصوت الذي كان ينبعث من أمواج "صوت فلسطين" التابع للاعلام الفلسطيني الموحد ، ليمد المقاتلين بروح النضال والمقاومة واكسجين الحياة وعبير الحرية . وكان نبأ استشهادها، بشظية قذيفة،هزّ كل من يحب فلسطين و"صوت فلسطين". وفي أوج الإجتياح الاسرائيلي كذلك أقدم الشاعر اللبناني خليل حاوي على الانتحار في غربته، احتجاجاً على الصمت والتواطؤ العربي وتآمر أنظمة الذل والعار والانكسار. وحين كانت قوات الغزو الاسرائلي تحاصر بيروت الوطنية أصرّ الكتاب والأدباء الفلسطينيون في الأراضي المحتلة على عقد المهرجان الوطني للادب الفلسطيني تحت شعار "الأدب في المعركة" تعبيراً عن التحامهم العضوي والتزامهم العميق بقضايا شعبهم الفلسطيني ، وتمسكهم بدور حركتهم الادبية على الجبهة الثقافية ، وتأييداً للمقاتلين ضد حرب الإبادة الجماعية، وتأكيداً لطليعية المثقف الفلسطيني ودوره المؤثر في المعركة الحضارية والثقافية الكبرى ضد الاحتلال والعدوان ، وفي سبيل الحرية والاستقلال. ومن قلب هذا المهرجان انطلق صوت المهندس والمناضل الفلسطيني ابن القدس الجريحة والذبيحة ابراهيم الدقاق هادراً مؤكداً أن "الصوت الفلسطيني من خلف حصار بيروت يعلن أنه حمل الرسالة وأضاء الطريق، وصراع الكلمات في الأوزاعي وبرج البراجنة وصيدا وشاتيلا ، يحقق اصابات. مات نيتشة ، وعاش الانسان الفلسطيني ليردد "الحق قوة". وان دمنا البيروتي يلتقي بنهر الدم الذي تفجر في دير ياسين وقبية وكفر قاسم ويوم الأرض ويعمد طريق الخلاص. وانتم جنود الكلمة ، وانتم امناء الأبجدية تعلمون أن الأبجدية لن تهزم في ساحة الرايخستاغ ولا امام مكتبة ليننغراد ولا على درج الكونغرس الأمريكي. فلماذا يريدونها أن تهزم امام مبنى جامعة بيروت العربية؟ لن تهزم الابجدية ولن يهزم الانسان ". وفي الواقع ان الكثير الكثير من القصائد الوجدانية والنصوص الشعرية والادبية كتبت في أثناء معركة بيروت وبعدها ،وتناولت أيام الحصار والبطولة في بيروت عام 1982 . ومن أبرز هذه الكتابات التي خطتها الأقلام ما أبدعته ريشة الروائي والقاص الفلسطيني يحيى يخلف في "عن العصافير الحنونة" ، وما كتبه الكاتب والشاعر الفلسطيني سامي الكيلاني الناهض من يعبد "من يوميات أحد عشاق بيروت" ، وكذلك رواية "آه يا بيروت" للروائي الفلسطيني رشاد أبو شاور ، المعروف بين الاوساط الشعبية الفلسطينية بأنه الاكثر التصاقاً بالشارع والمخيم والمكان الفلسطيني ، ويسجل في هذه الرواية يوميات الحصار في بيروت من خلال معايشته للاحداث .هذا بالإضافة الى ما جاد به الشاعر الفلسطيني الكبير الراحل معين بسيسو ، شاعر السنبلة والقنبلة والثورة ، الذي أعطى الشعر مع غيره من شعراء الطليعة النضالية مفهومه النضالي الطبقي من خلال الإبداع الشعري الحقيقي المقاتل ، الذي قدمه مع رفاقه وهو في الحصار ، ولم تنل من صوته الغارات الوحشية ، وأثبت بأشعاره ان القصيدة يمكنها أن تلعب دورها الرئيسي الهام في تطوير وعي الجماهير الفني ، وتطوير وإثراء وجدانها الذي يأتي المقاتلون من ضلوعهم أكثر فأكثر.. فيقول مخاطباً الغزاة في قصيدته "لن تدخلوا بيروت": لن تدخلوا بيروت لن تدخلوا بيروت ستموتون تحت شبابيك المدينة التي لا تموت ستسقطون تحت سقوفها متاريسها لن تدخلوا بيروت كل كيس رمل كل صخرة كل موجة في بحرها تابوت أما عندليب الجليل الذي صمت ، الشاعر الراحل شكيب جهشان فغمس قلمه في الجرح وفاضت روحه بقصيدة رقيقة صادقة لبيروت الصمود والحصار ، يقول في مطلعها : بيروت ، أنزف من جرحي ومن خجلي وتصمدين على الأشواك في المقل يا أخت صنين يبكي في يدي قلمي ويخرس الحرف في دوامة الدجل كل الخيانات شد في مدى عنقي والمارقون اكتظاظ في مدى نزلي أليت ، أبصق في وجه بلا شرف اعييت ، كل وجوه العار من جبلي الى حين يقول في خاتمتها: يا تاجر الموت خلف البحر من عصر جرب سلاحك في لحمي ولا تسل عمي نواظرنا ، صم مسامعنا غشى بصائرنا في المأزق العجل يا عزوتي ، مزقوا في التيه أشرعتي وزرعوا الموت في خطوي وفي سبلي صار الصديق عدواً من حماقتنا وأتقن الذئب افكاً لعبة الحمل يا طغمة وكعت دهراً وما تعبت هذا أوان رجال الجيد، فاعتزلي وقال الشاعر الفلسطيني عبد الرحمن عواودة ، القادم من بلد الرمان كفر كنا بلد عشيقة ابراهيم طوقان الذي كتب فيها أجمل قصائد الحب والغزل ، في قصيدته "أهلاً بأيام الصمود": لبنان مثل جباله ورجاله صلب مجيد ثواره اسطورة الذود العنيد وهتاف صبية يسد الأفق في هذا النشيد أهلاً بأيام الصمود أهلاً بأيام الصمود يا شعبنا يا قصة الأحياء يا أغلى رصيد انا رسمنا دربنا بدم الفدائي الشهيد بدم الصغار مع الكبار ليبزغ الفجر الجديد كما تفجرّت مشاعر الشاعر النصراوي فتحي القاسم في قصيدة رقيقة ناعمة بعنوان "صبرا عشقتك ظبية" يقول فيها: بيروت كانت بيرقي وعلى مرافئها أرحت زوارقي واجتزت بحر الموت في عمان.. منطلقاً لفجر البدء والحلم الشهي المورق أه من الأشواك في ليل الحصار أخيراً ستظل بيروت الفرح والانتصار ، رغم الآلام المستمرة ، والمخاض الذي يلد كل لحظة جيلاً جديداً يواجه الغزاة وآلات الدمار . وستبقى بيروت القصيدة والملحمة الأسطورية الخالدة مثلها مثل جلجامش ، ولنردد مع الصوت الملائكي فيروز :"لبيروت من قلبي سلام".