كانت بيروت، في سنة 1982، تستغيث طالبة النجدة، بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان، من أجل إخراج المقاومة الفلسطينية منه، وتدمير بنيتها التحتية على الأرض اللبنانية وفرض الحصار على أماكن ووجودها. ونظرا لتداخل قضية فلسطينولبنان، ونظرا كذلك لتداخل التطورات التي تشهدها المنطقة، لم نكن نفهم ما يجري هناك. كنا نتابع باندهاش ورعب، غارات العدو الصهيوني وطائراته، وتطبيق الخطة الإمبريالية-الصهيونية، وضرب الحليف الاستراتيجي للقوى المناضلة من أجل التحرر الطبقي، والوطني، والقومي في لبنان. جعلنا، ما حدث في لبنان، نعلم بما حدث في الأردن سنة 1970، رغم ما روج له البعض بكونه صراعا "بين أردني وفلسطيني". وبعد أن تبين لنا الحرص الإسرائيلي على التآمر على حركة التحرر العربية بالملموس، خاصة في ظل التغيرات التي كانت تشهدها منطقة الشرق الأوسط، امتدادا إلى آسيا والقرن الإفريقي (سقوط شاه إيران، ونجاح الأفغان في مواجهة الهجوم الأمريكي، وانتصار الحكم التقدمي في أثيوبيا... إلخ)، بدت لبنان الساحة التي تتحمل العبء الأساسي في مواجهة العدوين الأمريكي والإسرائيلي على الأمة العربية. كان شريط "بيروت خيمتنا" للمغني اللبناني الملتزم مارسيل خليفة يقتحم، في ضوء ما حدث، بيوت مئات التلاميذ، والطلبة والشباب المناضلين في الجمعيات والجامعات، وهو يغني قصيدة من قصائد الشاعر الكبير محمود درويش... الذي رحل في بداية هذا القرن كما تعلمون. «بيروت يا بيروت بيروت خيمتنا بيروت نجمتنا بيروت يا بيروت بيروت تفاحة والقلب لا يضحك وحصارنا واحة في عالم يهلك سنرقص الساحة ونزوج الليل سنرقص الساحة ونزوج الليل بيروت يا بيروت لن نترك الخندق حتى يمر الليل بيروت للمطلق وعيوننا للرمل في البدأ لم نخلق في البدأ كان القول والآن في الخندق ظهرت سمات الحمل بيروت يا بيروت بيروت يا بيروت بيروت خيمتنا بيروت نجمتنا». لم يكن محمود درويش ومارسيل خليفة يعلمان آنذاك أنهما تحولا إلى رمزين ناطقين باسم امة، وأن الفلسطينيينواللبنانيين لم يجمعوا على أمر أو شان، إلا على مثل ما قدَّماه من إبداع شعري وفني للأمة العربية جمعاء.. بعد انتهاء الموسم الدراسي لسنة 1982، غادرت وأصدقائي (الزمزومي، والعمراني، والناضوري، والخي، والزياني وآخرين)، داخلية مولاي سليمان بفاس متوجها إلى منزلنا العائلي بغفساي لقضاء عطلة رأس الموسم، ووجدته عبارة عمن يحتضن معرضا للصور، يضم معالم القضية الفلسطينيةواللبنانية ويعَرّف برموز الشهداء والمعتقلين وأنصار القضية.. أما "المعرض" فقام بتنظيمه الدرقاوي عبد الله، وعبدو الهواري، وعبد الحق البقالي، وأخوه عبد الله، ومحمد اعريبو، وأخوايَ جمال وعزيز. كان هؤلاء طلبة نشطاء بجامعة ظهر المهراز، باستثناء الدرقاوي عبد الله الذي كان طالبا نشيطا بكلية العلوم بالرباط. كانت علاقات قاعدية متينة تجمع هؤلاء جميعا، استمرت سنوات عدة، مخلفة وراءها تجربة رائدة، وإشعاعا قويا وملتزما، سرعان ما انطفأ بريقه مع الزمن، رغم الدور القيادي البارز الذي كان يلعبه عبد الله الدرقاوي (ابن عم عبد اللطيف الدرقاوي، وأحد رموز الحركة الطلابية القاعدية في السبعينات، إلى حدود المؤتمر 17) داخل المجموعة. كان الزوبير الشرفي من قرية القلايع، بضواحي غفساي، ذا علاقة وطيدة، من أيام قرية ابا محمد، بهؤلاء الغفساويين، الذين كوَّنوا مجموعة يسارية طلابية، كان أغلب أعضائها أهل مسؤولية داخل الأجهزة التحتية للاتحاد الوطني لطلبة المغرب، بجامعة ظهر المهراز بفاس ومحمد الخامس بالرباط، ضمن فصيل الطلبة القاعديين، وذلك ما بين الفترة الممتدة بين 1978 و1983، تعرض بعض عناصرها للمتابعة والتهديد والاعتقال، كما حصل لمحمد اعريبو، عضو تعاضدية كلية الحقوق، الذي اختطف من الحي الجامعي بفاس، مباشرة بعد أحداث 1984، ليؤدي ضريبة الاعتقال بالسجن المدني، عين قادوس بفاس، والزوبير الشرفي، الذي كان طالبا بمعهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة، ومناضلا مسؤولا في صفوف طلبته، حيث تعرض للاعتقال، ليزج به في غياهب سجن لعلو، دون أن أنسى محمد المجاهد، ابن المنطقة، الذي تعرض هو الآخر للاعتقال في نفس الفترة، بسبب انتمائه للنهج القاعدي، حين كان يتابع دراسته بكلية الطب بالرباط. تعلمت الكثير من هؤلاء المناضلين الذين كانوا مهووسين بالقضية الفلسطينية، من خلال الأدبيات التي كانوا يتوفرون عليها، ومن خلال حلقات النقاش التي كنا نحضُرها بين الحين والآخر. لم يدم جهلنا طويلا بالقضية الفلسطينية وبمكونات حركة التحرر العربية، حتى فاجأنا أحد الأساتذة المناضلين بكتاب "حركة القوميين العرب" للدكتور الشهيد باسل الكبيسي، أطلعنا على نشأة حركة القوميين العرب وتطورها، باعتبارها إحدى التيارات الرئيسية للحركة العربية القومية، كانت تؤمن بالتعليم والكفاح المسلح، وانتقلت من حركة للطلبة إلى حزب سياسي امتد إلى الأردن، والعراق، وإلى مصر وليبيا والسودان واليمن، قبل أن تحدث الانقسامات، بعد حرب حزيران (1967)، وتؤدي إلى ظهور مجموعات ماركسية لينينية: "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، ك"الجبهة الشعبية الديمقراطية لتحرير فلسطين" و"منظمة الاشتراكيين اللبنانيين"، و"حزب العمل الاشتراكي العربي"... التي كان من بين زعمائها محسن إبراهيم ونايف حواتمة. لكن، كم كان يلزمنا من الوقت لفهم الروابط المتشابكة بين قضية فلسطين والاستعمار الإسرائيلي وكافة القوى المؤثرة في المنطقة؟ رفعنا راية فلسطين فوق كل الرايات، لأن فلسطين، كانت بكل تجلياتها، أكبر في قلوبنا وضمائرنا، لا ترحم، ولا تترك لنا مجالا للتخاذل والانتظار. كان مصير فلسطين ينادينا في كل حين، والثورة الفلسطينية في صراعها مع العدو الصهيوني رمز الخلاص لكل العرب، خاصة حين استطاعت الحركة الصهيونية تسويق أكذوبتها في أوساط الرأي العام الدولي، لتظهر أمامه كحركة تحرر وطني تحمل على عاتقها تحقيق آمال اليهود عبر العالم وأمانيهم. كان جوهر القضية الفلسطينية بالنسبة إلينا يتلخص في حق الشعب الفلسطيني في تحرير وطنه المغتصب، من الاستعمار والصهيونية، والعودة إليه وتقرير مصيره على أرضه، وبناء دولته بالشكل الذي يريده، تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. أما نضال الشعب العربي الفلسطيني، فهو نضال تحرري عادل يشكل جزءاً لا يتجزأ من حركة التحرر الوطني العربية، وبالتالي من الحركة الثورية العالمية. كنا، كالعشاق المبتدئين، نبحث عن الثورة في اللغات العالمية كلها، وفي المعاجم، وفي المناهل العصرية منها والتقليدية، وعما تميزت به كل ثورة عن الأخرى، وما أحدثته في مجتمعاتها من هدم للقديم وبناء للجديد، حتى حدثنا ذات يوم أساتذتنا ورفاقنا عن الثورة الفرنسية (1789)، وما حققته من شعارات المساواة والعدل، وإقامة دولة المؤسسات، وحرية الأفراد وإلغاء الملكية المطلقة، ليحل محلها نظام جمهوري، وما قامت به ضد الامتيازات الإقطاعية للطبقة الارستقراطية، والنفوذ الديني الكاثوليكي، تحدثوا إلينا عن قيام الثورة البلشفية أو ثورة أكتوبر (1917)، بقيادة لينين وتروتسكي التي قامت بعزل القيصر نيكولاس الثاني، وإلغاء الملكية الخاصة، وبناء أول ثورة اشتراكية منذ بداية القرن العشرين؛ وإعلان قيام جمهورية الصين الشعبية (1949)، التي تعتبر واحدة من أعظم أساطير القرن العشرين؛ وثورة الضباط الأحرار في مصر (1952)، بقيادة جمال عبدالناصر، والتي أطاحت بالملك فاروق؛ وثورة كوبا (1959)، التي أطاحت بحكم الديكتاتور "باتيستا"؛ والثورة الجزائرية التي طردت المحتل الفرنسي (عام 1962)، والثورة الثقافية الصينية، التي انطلقت يوم السادس عشر من شهر مايو عام 1966، وثورة الطلاب بفرنسا (مايو 1968)، التي أطاحت بحكومة ديغول، والتي حركت إضرابا عاما شارك فيه 10 مليون عامل، وكانت بكل المقاييس نضال جيل بكامله من أجل الحرية وإقرار الديمقراطية، جيل ربط مصير انعتاقه بنضالات دول العالم الثالث، وتحرير الشعوب من ربقة الاستعمار، ثم الانتصار الفيتنامي على الأمريكان (1973)، وبناء دولة فيتنام المستقلة.. كانت هذه النماذج من الثورات، مصدرا من مصادر الضخ الإيديولوجي بالنسبة لنا ومرحلة من مراحل الافتتان والحلم بالثورة. لكننا، لم نكن نفهم لماذا لم تندلع الثورة عندنا؟ كل ما قيل لنا آنذاك، إن العقل العربي محاصر ومهدد، وإن جزءاً منه اعترف ضمنيا بهزيمته، وانخرط في السائد وأجهزته. وإن القضية التي تواجه مجتمعاتنا هي قضية معقدة، وتحتاج أولا وقبل كل شيء، إلى تحررها من الامبريالية، أي من علاقة التبعية البنيوية، ما دام هناك توسع رأسمالي عالمي وعلاقات إنتاج رأسمالية تُؤمّن إستراتيجية هذه التبعية وتحافظ عليها.