حين يشتد بك الحنين إلى مسقط رأسك خصوصا وقد تعلقتْ بذاكرتك ومضات من الماضي: ينبوع ومسكن وخيمة وبساتين وأطياف تيس ومعز وجديان.. تنتابك بين الفينة والأخرى، وتود اكتشاف ذلك المكان وتتحسسه من جديد، خصوصا حين تتاح لك زيارة خاطفة للمكان، فتنبهر له ولأهله، ذلك ما يشعل بداخلك نار الشوق للعودة مهما كان البعد ومهما كان الثمن، إنه الشوق الذي حصل معي ذات صيف وكأني من حيث لا أدري أتوق لإحياء طقوس الانتجاع بين الجبل والسهل… كلما تحل عطلة الصيف تشتد أشواقنا إلى مسابح " تيغزى" قرية عمالية تبعد عن المنجم بحوالي ثلاث كيلومترات و كنا في بعض الأحيان نقصد صهاريج تصفية الماء أو "لاديك" بحيرة لتصفية المعادن كبديل للمسبح حين يتعذر علينا الحصول على بطاقة عمل الوالد إذ أن الولوج إلى المسبح يتطلب الإدلاء بها خصوصا وأن المشرف عليه "بّا عبد القادر" أشد صرامة، فمن جهته يستحيل الدخول دون بطاقة عمل الوالد، مثلما الآباء يخفونها عنا تخوفا علينا أو من ضياعها منا.. لكن خُبثنا غالباً ما يكون أقوى.. كنّا نمكث هناك اليوم كله فحب الماء بالنسبة لنا أشد من الجوع و لهْوُنا يستمر حتى غروب الشمس ليستقبلونا بالعتاب والعقاب الشديد خصوصا من طرف الوالد و الأخ الأكبر بينما ترأف بنا الأم بعد غضب شفهي.. ذاتَ مرة و بعد جولة ساخنة من اللعب بعيدا كالعادة توَعّدنا أبي.. فجلسنا خلف المنزل في حالة طوارئ نناقش الوضع و كيفية الإفلات من العقاب أنا و عاشور الذي يصغرني بعامين و انضم إلينا لاحقا حسن الذي يصغرني بأربع سنوات.. لقد طار بنا الحديث لأستحضر معهم ذلك الشوق الذي امتلكني وأنا أزور مسقط رأسي قبل سنة رفقة شقيقتي الكبرى.. كنت أحكي و قد انبهرا كلاهما بعذوبة الوصف الذي كنت أسرده و أنا أقص عليهما عن زيارتي إلى البلاد مسقط رأسي و حاولت إقناع عاشور بزيارتها.. و الواقع كان أشد مني شوقا و تلهفا لاستكشاف مسقط رأسه هو أيضا، و كان تحفظه الوحيد إن كنت أعرف الطريق و انتهى بنا الحديث بالاتفاق على المغامرة و السفر باكرا دون إخبار أي كان. لقد كان تحديا كبيرا و قرارا خطيرا، فمنذ الساعة السادسة صباحا ونحن نترصد خروج الوالد للعمل بالمنجم، وبمجرد خروجه وعودة الأم لبيتها، شربنا كؤوس شاي وأخذنا معنا بعض الخبز وانطلقنا… لقد كان الأمر عاديا لولا هذا الصغير حسن الذي لم نضع رغبته في الحسبان وكاد أن يُفسد الرحلة.. فقد استفاق بدوره باكرا وعمره أنذاك ست سنوات، فقد أخذ يتبعنا منذ الانطلاقة، و كنا نطارده بالركض و الحجارة إلى أن يفل و ما نلبث أن نجتاز الأفق حتى يظهر من جديد.. كان الوقت يمضي علينا فاستسلمنا لرغبته فطلبنا منه الالتحاق بنا و نحن على مشارف منجم "إغرم أوسار" المنجم الثاني ضمن سلسلة شركة مناجم جبل عوام ،، تحاشينا المرور بجانبه درءً لأي إحراج من طرف العمال قد يتعرف علينا أحدهم ويُفشل مهمتنا فامتطينا ذلك الفج و من فوقه بدأت تلوح تلال ودور متناثرة حول الحقول، وكنت أشير بيدي إلى تلال محددة و أخبرهما بأن خلف تلك الربوة دوار كبير سنمر به ويسمى "ريف أنجدام" و علينا أخذ الحيطة و الحذر لأن عند الأهالي هناك كلاب جياشة شرسة لا تحب رؤية كل عابر سبيل أجنبي عن المنطقة.. أتحدث مستحضرا ظروف زيارتي الصيف الماضي رفقة أختي الكبرى و نحن على صهوة بغل و كيف كانت الكلاب تقفز على أقدامنا غير آبهة لا بالعصى ولا بصياحنا و صياح الأهالي .. اقتربنا فأخرج عاشور شطيرة خبز كانت مبرمجة لسد الرمق، فجأة أنطلق نحونا الأول ثم الآخرون دفعة واحدة كانوا في حدود ست كلاب.. بثبات حسن يتمسك بي و نحن نلقي لهم بقطع الخبز عسانا نتقي شرهم،، لكن هيهات فقد كانت شراستهم تزيد و تزيد.. أخيرا نجحت لقمة خبز في إشعال حرب ضارية بينهم فاغتنمنا الفرصة مهرولين بجلدتنا فحين نساء خرجن للتو يهدئن الأجواء.. بينما انصرفنا غير مبالين فأكدت لأخواي أن المرحلة الأصعب قد مرت بسلام.. مضينا و السؤال يتكرر هل نحن في الطريق الصحيح؟ و دائما أُهدّئ من روعهما بأننا نمسك بزمام الأمور بينما بدواخلي حصرة من شدة التفكير في طول الطريق. تجاوزنا منعرجات "تِطٌ اعمر" و ها نحن على عتبة "ثَقّا مِشعّان" و كلما اقتربنا تغير وجه الأرض أمامنا فخلفنا أرض جوفاء و مزارع محصودة صفراء بينما في الأفق القريب تتراءى بوادر جنة خضراء نسرع الخطى لاستكشافها، من فوق "ثاقا ميشيعان" وعلى مشارف الوادي استوقفنا المنظر الأخضر الأخاذ (ربما هذه البانوراما الخلابة وصفاء الواد الأزرق وتلك الغابات المترامية الأطراف، ما جعل المعمرين الفرنسيين يدكون معاقل الثوار بالمدفعية من هنا "ثاقا ميشيعان"…) خرير أم الربيع بدا في مسامع حسن صوت مروحية و كان الإيحاء نفسه لدي للوهلة الأولى العام الماضي، في الأسفل تتلألأ زرقة الماء تعكس زرقة السماء في انسيابية لا متناهية و اختلط علينا معرفة وجهة تيار الماء فالمرتفعات يمينا و شمالا و بدوري لم أعد أتذكر.. هبطنا من تلك المنعرجات بسرعة البرق و اكتشافاتنا تزيل عنا العياء وتمنحنا الطاقة ونفسا جديدا خاصة بهبوب نسمات باردة عبر الوادي. عبرنا القنطرة و ارتوينا رغم ملوحة الماء و كنا مندهشين لحجم الصبيب و قوة التيار و تأكدنا من وجهة انسياب المياه كما انبهرنا لفتية صغار يسبحون عراة و هو أمر لم نعهده من قبل.. الساعة تشير إلى الثانية و المكان يشدنا إليه و الجوع يقض مضاجعنا و بدأنا نتربص البساتين عسى أن نلمح شيئا نأكله فتسلقنا أشواك بها ثمار حمراء و الطازجة منها سوداء، لبها يسيل كالدم نسميها الأمازيغية "ثابغا" أشفينا غليلنا منها ثم انطلقنا و عند صعودنا "ثيزي ثازكَاغث" نلتقي بسيدة فتسألنا بلسانها الأمازيغي و هي تركب بغلا ، تسألنا عن وجهتنا و من أين جئنا؟ بعد إجابتنا لمسنا فيها مدى تأثرها لحالنا و قالت أنها لو كانت عائدة لاستقلتنا على البهيمة خصوصا الصغير منا، أشفقت علينا ثم أخرجت خبزا من كيس بحوزتها أعطتنا إياه و أوصتنا بالأخ الأصغر و طلبت منا الإسراع قبل حلول الظلام و أخذ الحذر ثم ودّعتْنا، فمضينا نعبر سهل "تاغبالت" وسط حقول الذرة و أخرى للحمّص و أخرى.. إلى أن بلغنا تخوم الجبال الممتدة.. عند السفح واد تتفرع عنه سواقي لري كل هذه الحقول. طفئنا نار العطش و أطلقنا العنان للأقدام من جديد.. يستمر صعود الأدغال و بتوغلنا بين أشجار الغابة المتكونة من شتى أنواع الأشجار.. استهوتنا منها أشجارُ البلوط لكن ثمارها كانت في بداية نموها و مذاقها مازال مرّا. بلغنا مشارف عين "تاغبالت" و هي عبارة عن بطحاء واسعة زرعُها كان محصودا فبدأت أخبرهما بما أعرفه عنها منذ العام فهي تحوي أراضي أبي و أعمامي و تنبع منها مياه عذبة تصب في واد أم الربيع اكتفيت بالتفسير لهما دون المرور إلى عين المكان خصوصا و أن الشمس اختفت وراء الجبل.. أخيرا و عند موقع يسمى "الصّابْرِوات" تراءت لنا تحت الجبل الأخضر الداكن منازل ذات أشكال هرمية علمنا بعد ذلك أنها من لوح الأرز.. قلت: لقد وصلنا فهرولنا وهناك بجوار البساتين التي بدأت تظهر شيئا فشيئا و حول مياه متدفقة هذه بهائم تروي ظمأها و فتيات تتبادلن أطراف الحديث و بحوزتها أواني لجلب الماء إنها "تِطْ إفسْتَنْ " العين الصامتة و هذه القرية ببساتينها و مزارعها تحمل نفس الاسم،، إنه اسم على مسمى تتدفق المياه من الأسفل في صمت مطبق و تتسم ببرودة تطفئ الظمأ وبانتعاش لا يقاوم.. أمام نظرات الاستغراب لم نجرأ على الاقتراب من العين فانصرفنا إلى الدوار و الأهالي يُدخلون مواشيهم إلى الحظائر ها هي الكلاب تنبح و تهاجمنا فيهب الأفراد لنجدتنا ثم التفوا حولنا و بدأوا بطرح الأسئلة وهم لا يصدقون الأمر.. في الواقع كان كرمهم حاتميا و خصوصا سيدة عجوز "إيطو اعزيزي" و ربما لطيبة قلبها كان الجميع يناديها "مَهْمّا" فقد كانت لنا السند إلى حين عودتنا في اليوم الثالث من المغامرة..