الإهداء: إلى والدتي العزيزة التي وسمت حياتها بكل براءة الأطفال يستدر قلبه وهجا ضاع في ثقبة السواد، تحطم الشوق على صخرة الهجر، كان يستطيل البعد في أفقه مسافةَ بُعدٍ آخر كأنه لا يمشي، يحمله صدى الطفولة إلى منتهاه... وكان لا ينتهي تكبر فيه لجة الصدع استطالت أيضا زفراته وانتفخ الصدغ، كان يهيم إلى حنين يتربع في مسافة الضيق فيتملكه... كان البعد ضيقه لا ينام من شدة التيه فيه، فتغلي في جسده فورة التقلاب، يتكسر الزمن فيه ويتربع لتصغر فيه مساحة الضيق يزداد الضيق فيه ضيقا كم هي ضيقة أوطان المهجر برغم هذه المسافات الطويلة للهروب أعيته الخطوات فيها ليشده الحنين، اشتاق إلى وطن نقي يترصع في ذكرياته... إلى ماء يغسل فيه لوعة الهجرات، وقلب يخفق في أوطان عشقه الحزين، كانت فيه حقول "البلعمان" تسكنه ويسكنها وكان طلقها يفوح ليغسله... كان "يحن حقا إلى خبز امه" إلى جدائل "تاغبالت" الصغيرة، وكان يناجي، يتمنى: "يا ليت تبقى الجدائل تحضن مائي حتى أعود، كيما أستسقيه في صدى لأغنية جميلة تغنيها الأمهات، كيما يسمعني خشخشة اوراق البلوط حين تدوسه حوافر الحطب، ويذكرني برؤيا طفل صغير تنبأ ذات يوم في "تاغبالت" الحزينة.. أن الشمس حين تغرب، تطلع شمس أخرى، ومن يومها كان يكبر فينا شغب الطفولة في مرح جديد... “ كانت لأعرور في تاغبالت ذكريات جميلة، يذكر فيها عمه المرح الذي كان يكبر إخوته، والذي كان يملك حمارا يشبهه في الذكاء، يذكر أخاه الأصغر حين أفصح بعفوية في وهج الطفولة أن الحمار حقا يشبه عمه، أشار إلى جانب من مؤخرته وأفصح عن الشبه: "عمي بوثاشفيت" كان الأمر مضحكا تماما، حين يتأمل الحمار يبدوا الأمر تماما، وحين ينظر إلى هياة عمه الأشقر المنهار بالسنين يجر رجله بشكل يوحي بانه هو الآخر، بأن رجله المستورة بجلباب رث تسند مؤخرته السمومة والمثقلة بحقب السنين، يقول: "محال أن يكون عمي حمارا رغم تشابه مؤخرتيهما، الحمار ليس أشقر كعمي، الحمار اشيب، لكن يشبهه بشكل ما... يا لسحر المؤخرة حين ينسال شكلها على عمي". ولربما بإسقاط مغناطيسي خفي، فني بشكل بيكاسوي (من بيكاسو)، إسقاطا منا نحن في ان نحمل الحمار صورة العم، لكن في الحقيقة هما يتشابهان في امور كثيرة، على الأقل في الذكاء المبطن بالغدر، كان الحمار يتكاسل حين تركبه زوجة عمي ويتمايل في غفلة عنها ليسقطها، وكان الأمر مثيرا للجدل أياما عديدة بعد أن تسبب الحمار في إسقاط كارثي لزوجته فأصيبت بكسر في يدها، وكم تفلسفنا وقتها في تعريف السقطة من الحمار، تلك السقطة اللعينة التي لا تشبه السقطة من الفرس، فالحمار رغم قصره، حين يسقط أحدا تنجم عن ذلك في غالب الأحيان كسور بينما السقطة من الفرس تكون وحيا رحيما يفتح شهية الإعجاب، وكان هذا سببا في أن يستخلص أعرور نظريته الجديدة عندما كنا ندرس بالفصل موضوعا إنشائيا حول حقوق المرأة حين تساءل الأستاذ عن ماهي الأسباب التي تؤدي إلى احتقار المرأة، ليجيب أعرور بفصاحته البدوية وسنده المستقى من تجربته بتاغبالت، قال: ٌٌ "الحمار هو اول مخلوق احتقر المرأة"، هكذا قالها بالقطع، ولما سأله الأستاذ ان يستوضح في الأمر رد اعرور بدون تردد "أستاذ!، هذا حقيقي، الحمار عندما تركبه المرأة يتكاسل في ممشاه لأنها لا تضربه بقوة، ينهق في اتجاه آخر، يتمايل في غفلة عنها فيسقطها، هكذا كان حمار عمي بوتاشفيت يفعل" انسلت موجة عارمة من الضحك في صفوف التلاميذ اضطر معها الأستاذ ان يتفجر هو الآخر ضحكا رغم أنه حاول ان يبدي نوعا من الصرامة في الأخير بأن لا يستغفله أعرور الطفل، فما كان من اعرور ببراءته البدوية إلا ان يفجر موجة أخرى بالقول بأن عمه كان يشبه حماره وكانا معا يستغفلان زوجته. يتجه نحوه الأستاذ بلكنة فاجرة ويأمره بأن يكف، يتلعثم أعرور مبديا نوعا من الجد في أنه لا يستهتر: "أستاذ..! ليس ذنبي.. يجب أن تعرف المرأة لماذا يستغفلها الحمار، تزداد موجة الضحك صخبا، ثم يأمره الأستاذ بمد يده لتأديبه، يضربه في يمينه ثم يطلب يده اليسرى فيعيد اعرور نفس يده اليمنى، يسأله الأستاذ: "لماذا اليسرى لا خذ اليمنى، لم يقع منها الألم بعد "، ينهار الأستاذ ضحكا فيلقي بعصاه بينما اعرور بقي ثابتا لم تأخذ منه موجة الضحك التي أثارها في الصف لا حقا ولا باطلا. و ربما هذا الشبه المستوحى من شغب أخ اعرور الصغير كان إسقاطا من والده الذي كان يعرف تماما أخاه الأشقر، كان ينعته بحمار كبير وإن كان لا يجرأ أن ينعته ببوتاشفيت كما تجرأ ابنه، لأنه كان يسرقهم في شراكتهم قبل ان يتوزعوا إرثهم من البؤس الذي تركه جده أعرور الذي مات في السنة نفسها التي ولد فيها أعرور بغابة "تاغبالت" حيث وجد مقتولا بطعنة من لصوص الماشية، ومن سوء حظه أنه حمل اسمه خلفا وتمجيدا لأسم جده الذي بدا اسما غريبا على أبناء الحومة حيث درس اول أبجديات اللغة العربية في القرية الأخرى التي أنعمت بضوء من الحضارة والتي تبعد عن تاغبالت مسافة يوم مشيا على الأقدام: "قرية إغرم اوسار"، كان امازيغيا قحا وكانت الدارجة المغربية اقح في ذاكرته عنده من اللغة الأمازيغية، وكنا نسميها العربية، ولأنه كان يتقنها كنا نحن المنحدرون من جبال تاغبالت نستفسره في قول ما حين يستعصي علينا قوله بالعربية المغربية، واذكر أن أستاذ اللغة العربية كان يعشق اللبن، وكان يستعصي على الذين يتوفر لديهم أن يفهموا الأستاذ هذا بأن اللبن لم يتمخض حين لا يأتونه به فيلجؤون إلى اعرور ليترجم لهم الأمر. كان اخوه الصغير صاحب فطنة الشبه بين الحمار وصاحبه بوتاشفيت قد مات صغيرا بسبب وباء قاتل أصاب الكثير من الصغار حينها، وكان اعرور يذكره دائما بسبب ذكائه وحكمته التي لا زال سكان تاغبالت يعتبرونها مضرب مثل خصوصا اثناء درس المحصول الزراعي حين تغرب الشمس والرياح ساكنة، يتركون المحصول إلى الغد في انتظار أن تتحرك الرياح، ثم يرددون قولته الشهيرة بالمنطقة: ”حين تغيب الشمس ستطلع شمس أخرى كما قال الحكيم". كان أعرور في الكثير من خلواته يحكي لنا كيف بزغ الأمر، كان أخوه هذا يرعى واخته التي تكبرهما البقر، وكان والدهما يحثهما أن يستسقي القطيع من ماء "ماريغ" لنسبة الملوحة فيه والذي يقع بعيدا بميلين عن تاغبالت وتفصله عنها غابة كثيفة، ولما عادا في المساء إلى الخيمة حيث يقطنون سألهما الأب أين عب القطيع فكانت الفتاة صريحة معه خوفا من شكيمة أخيها الذكي، قالت بأنهما كانا في منطقة بعيدة عن "ماريغ" وأن القطيع عب من "عنصر" تاغبالت، استغاظ الأب حنقا، ليبدي نوعا من سطوته الآمرة: "ستذهبان الآن بالقطيع الى هناك، لقد نبهتك إلى الأمر اكثر من مرة”. امتنعت الطفلة كون الظلام سيخيم بعد قليل والغابة كثيفة وغير آمنة، لكن الطفل الحكيم صاح في وجهها بالقول: “إذا غابت الشمس ستطلع ش....” و"كان في الحقيقة يقصد القمر"، يفصح أعرور . ثم أصبح الأمر بعد ذلك مضرب المثل عند أهل القرية. تسأل أعرور كيف كانت بنية أخيه فيجيب بأنها كانت ضعيفة وكانو يلقبونه لذلك ب "عزيمو"، وكان ذكيا لدرجة تنبأ بموته وموت أطفال آخرين منهم اخته الصغيرة التي يصفها أعرور بأنها كانت ملاك، وأبناء وبنات عمته حين أصيبوا بمرض او وباء مجهول، ك "البوحمرون" او الكوليرا أو أي مرض آخر من ألأمرض المسجلة في تاريخ الكوارث بالمغرب، أشار إليهم بالموت وبأسمائهم واستثنى منهم أعرور واخته الكبرى، ولم يمضي يومين حتى ماتوا جميعا فيما يشبه الكارثة وفي يوم واحد، أربعة أطفال في صباح يوم واحد، يالها من فاجعة في تاغبالت المعزولة كنا نلقب أعرور ب"العوراج" لأنه كان اقوانا في لعبة الركل، كانت بالمناسبة أيضا أغنية يغنونها في القرية عن الركل ولا أدري حتى الآن أي صدفة لنا نحن الصغار بالأغنية والركل: «أنا كانركل.. هاركل..! كولشي كايركل .. هاركل..!» كان أعرور طويلا ورقيقا في نفس الوقت، وكانت هيأته تثير الضحك بدون أن يتكلم، كان اسمه غريبا أيضا في المدرسة، فجميع أسماؤنا كانت مألوفة: محمد، أحمد، مصطفى... أما هو فاسمه غير مألوف، وأذكر أن معلما فاسيا جديدا من اهل علم مدرسة القرويين كان اقبل علينا في القسم الرابع الإبتدائي، وعلى الرغم من انه كان هو نفسه يملك لقبا غريبا عنا في ثقافتنا الجمعية، كانت كنيته "الشحروري" التي لم نعرف معناها إلا حين جاءنا يوما بقائمة أسماء الطيور المستحسن تغريدها مع العلم أن هذا الطائر الأسود الجميل هو الآخر من سكان تاغبالت الصغيرة، وعادة في بداية الفصل يسأل المعلم عن اسمائنا وتسجيلها لضبط الحضور والغياب، وكان اعرور ما أن نطق باسمه حتى انسالت دهشة على ملامح المعلم: «أعد، مااسمك؟...! «أعرور.. لم ينته الطفل من نطق اسمه حتى عبر المعلم عن دهشته: « هو اسمك أم لقبك؟ «هو اسمي... لماذا؟ « أنت تملك اسما من أسماء الجن ..!» والحقيقة أن اسمه كان مقرونا باسم جبل معروف في الريف، ويعني هذا الإسم عادة في اللغة الأمازيغية "الجبل"..كنا نحن نلقب أعرور بالعوراج التي كانت تستفزه كثيرا والتي سببت له الكثير من الخصومات الطفولية، لكنه كان مستحبا من طرف الجميع لأنه كان يثير الكثير من حكاياته الخرافية والجميلة عن مسقط رأسه تاغبالت وعن اخيه الحكيم وأخته الملاك، كان يقول لنا أن "عَنصَر" او عين تاغبالت لا يتلوث ماؤهاحتى وإن نخرته بعصى. "ماء عين تاغبالت يشبه "النقرة" (تعني الفضة)" كان مشدودا ل"عينه" بشكل كانت تعني له حقيقته الوجدانية، كان يستمد منها كل الممانعة في أن يتغير متأثرا بالظروف الجديدة. وكان سر نجاحه في الدراسة أنه يملك ذاكرة قوية اكتشف كنهها حين اضطرته الأمور لذلك، كما كان يتقن عملية الضرب والجمع والطرح بشكل خارق، كان بمثابة آلة حاسوب. ولأنه كان أطولنا كان جميع المعلمين يضعونه في المقاعد الخلفية، وكان هو ايضا قد استأنس الأمر مع طول سنوات الدراسة، كان يتقن القراءة بدون تهجي، وكان يحفظ كل الأناشيد والمحفوظات والنصوص الأخرى بمجرد ان يستظهرها شخصين أو ثلاثة من المقاعد الأمامية إلا حين افتضح امره مع المعلم الشحروري الذي كان يمقته بسبب اسمه، كان يمقته أكثر مما كان يمقتنا جميعا باستثناء رضوان الطفل الوحيد الأنيق في المدرسة والذي كان ذي أصول جزائرية، وكنا نحن بمكرنا الطفولي نشيع فيما بيننا علاقة سرية بين والدة رضوان الجميلة والمعلم، كان مقاسنا الغريزي لتلك الأفضلية التي يتلقاها رضوان نراه في جمال امه المثقفة ذات الملامح الشقراء والتي كانت لا تعاشر نساء القمل (كانت اغلب النساء بالمنطقة وفي كل مساء، يجتمعن للثرثرة وقتل القمل على رؤوسهن) إضافة إلى تكرمها باستضافة المعلم في أكثر من مناسبة ولم نكن ننظر إلى ما يتميز به رضوان من مواظبة في الدراسة واناقة ومزايا أخرى، كان الوحيد الذي يملك كرة قدم جلدية، والوحيد الذي يتميز بهندام مختلف، احذية جلدية على نقيض أحذيتنا البلاستيكية ملابس أنيقة على نقيض ملابسنا المرقعة، شعر انيق بحلاقة عصرية على نقيض شعرنا الذي يغزوه القمل، وكان بكل هذه المزايا يحظى بتقدير كبير من المعلم، وكان المعلم يجد فيه العزاء الوحيد الذي يذكره بحياة المدنية في فاس التي نفي منها، من حيث، وقتها كان إرسال معلم إلى المداشر النائية بمثابة نفي له، مع أن الأمر لم يعد يختلف حتى في زمن العولمة. لقد فطن الأستاذ بسر ذكاء أعرور وفطن أنه لا يقوم باي مجهود دراسي في المنزل، وفي حصة استظهار نصوص القرآن، في القسم الخامس من الإبتدائي. امره الأستاذ هذا أن يبدأ باستظهار الحصة المقررة أسبوعيا من صورة الرحمان، امره بأن يترصع أمام الصبورة ويستظهرها، فاحتج أعرور على الأمر، بما انه يقع في المقاعد الخلفية للقسم، وبانه استأنس ظلمتها ودفأها فهو يفضل أن يستظهرها الكتاكيت الصغار في المقاعد الأمامية، قال: يا أستاذ..! لماذا أنا الذي في الصفوف الخلفية وليس هؤلاء امامي؟ انا من يحكم هنا ويعرف من منكم يجب أن يستظهر اولا.. كنا نعرف أن لقب العوراج بالنسبة إلى فطنة طفولتنا لا تعني إلا شيئين فقط: تعني طويل ورقيق وشيء ثالث له علاقة باللعب المفضل عندنا حينها هو أن أعرور بطوله كان قويا في لعبة الركل. والحقيقة أننا لم نكن نعرف أن لاسمه الجني ولقبنا له بالعوراج امتياز التموقع في المقاعد الخلفية التي تعجب الجميع، بينما الأساتذة كانوا يختارون للمقاعد الخلفية طويلي القامات إن وجدوا وبعض "الكسلاء" والممقوتين عندهم لأسباب كثيرة كانت تخصنا نحن الجيل الأول من الذين أنعموا بثمار حركة التحرر الوطني: "التعليم المجاني للجميع" والتخطي الأول من البداوة نحو التمدن، وكان لتلك المقاعد أيضا امتياز ان يحظى شاغروها بالاستظهار بعد استظهار قصيري القامات، لكن في الحقيقة كنا نبطن حقدنا من هذا الامتياز، ففطنتنا بالشغب كانت تملي علينا التموقع في المقاعد الخلفية بما تتيحه لنا من استغفال المعلم أو الأستاذ، وأعترف أني كنت محظوظا بسبب هذه التراتبية في القامة، كنت ألي أعرور في قامته، وكنت محظوظا أيضا بالمقعد الخلفي، لكن اعرور كان متميزا عنا: هيأته المثيرة للضحك بدون أن ينطق، وصرامته في أحكامه التي يثيرها بشكل فكاهي، وقدرته الفائقة على استعمال الرموز (العمى او لغة العين في الثقافة الشعبية) وكذلك قدرته على صمج اللغتين العربية والأمازيغية في قالب شعري، قصيدته الرائعة في النحو: “ يرفع المثنى بالليف، يقصد الألف، "ينصب ويجر بالياء"، أو قصيدته الأبجدية: الليف أولينقيظ (الألف غير منقط) والبا إشث سوغ وادا(الباء نقطة من تحت) كان الإبداع بالنسبة إلينا هو هذا المزج العجيب بين اللغات التي حكمت المغرب، كانت اللغة العربية بالنسبة إلينا هي ألق هذا الذي يعجب الناس، كانت في الذاكرة الجمعية لغة العلم والعلماء، وكان العالِم في وعينا الجمعي هو هذا الحافظ للقرآن والحديث، لغة العالِم الفقيه بعذاب القبور ويوم الحشر. في السبعينات كان كل الذي يدرس منا في مدرسة عصرية هو بمثابة عالم، واذكر ان فقيهنا في "الكتاب" وهو امازيغي حفظ القرآن عن ظهر قلب، وبمجرد ما التحقنا بالمدرسة، كان يشعر بضعف امامنا نحن الذين تلقينا الكثير من قضبانه التي كان يحكم قدها بالمسافة التي تبعدنا عنه في المسجد "الكتاب"، كانت له أكثر من عصى ويستعمل كل منها حسب بعد او قرب أو هيأة الطفل البدنية، كان كسولا بهيأته وقده بحيث لا يحرك جسده إلا للخروج او الدخول او في الوضوء حيث كان يغسل قدميه بصعوبة فائقة بسبب مرض كاسح كان يسميه عندما يذكره في الحومة بأنه "الروماطيز"(الروماتيزم) رغم أنه لم يزر طبيبا في حياته، واذكر أني في زردة (صدقة بالمعنى المغربي والفقهي، وهي حفلة بمناسبة ما) كان الفقيه بوطاهر هذا الذي علمنا قصيدة "الليف اورينقيظ" التي يحفظها أعرور عن ظهر قلب، والذي علمنا اولى أبجديات اللغة العربية، كان يلوح إلي كمرجع ديني كلما أراد الاستدلال على موضوع ما حين أحضر بالمصادفة في هذه "الزردات"، كان المسكين يعترف بأني، بدخولي المدرسة العصرية، أفقه أكثر منه في علم "هُمزة لُمزة" التي لا أفهم منها حسب ما وصلني من العلم سوى ما تحكيه الجدات كخلاصة بليغة عن الدين المحمدي: “ في القبر يأتي عزرائيل ليسأل الميت: من هو ربك؟ فإن أجاب بأنه الله كان في طريق الخلاص، وإن تلعثم أو لم يجب بسبب هالة عزرائيل الجدية كان مصيره الهلاك الأبدي" وهذا حقا ما كان يشرحه الفقيه بوطاهر في حومتنا طول حياته، كان يشرح لنا كيف تكون الحياة في القبر، وكيف ستصير في يوم الحشر، والحقيقة ان هذه الأشياء لمقززة لطفل تعلوه فطنة ان ينموا ويكبر ويصير مثل الكبار، مقزز ان نغمر فطنته بالحياة بحشر براءته في فهم منطق "السراط المستقيم"، ولا غرابة أن يتحول مفهوم "السراط المستقيم" في ذاكرتنا الجمعية إلى ما يشبه العذاب أو التعذيب. وغالبا ما كنا نسمع امهاتنا يقسمن بأن نتلقي السراط حين نأتي بأفعال طائشة. إن بوطاهر الذي أمضى عمره كاملا في شرح فصول القيامة لا يعرف في الموت إلا هذا الشعور المحبط والغامض والمفعم برغبة عارمة في الحياة في اليوم الآخر حيث يتمنى على الله أن يرشده إلى الخلاص في محاكمة عزرائيل الأولية وأن لا يتلعثم أو يتوه، ويدرك بدون وعي أن وضع جسده في القبر هو بمثابة هجرة بسرعة الضوء نحو القيامة، سفر عبر الزمن بوضع الجسد في قتامة القبر او النقطة السوداء. كان الطفل الحكيم أخ أعرور الذي تنبأ بان الشمس حين تغرب يأتي قمر شاحب ثم تأتي شمس جديدة، يعترف اعرور أن الحكيم، برغم أنه تنبأ بموته هو نفسه في فاجعة تاغبالت، لم يذكر شيئا من خوفه من عذاب القبر. بل كان يعرف أن الموت طفلا يعني أن يعيش في الآخرة كملاك، وهذا ما تعلمناه حين مات الطفل صديقنا ابن زهرة القصيرة التي كانت تجيد تجويد صوت النعي، كانت زهرة تصرخ أن يحمل طفلها الميت سلامها وشوقها إلى باقي الموتى من اهلها، وكان كل الذين عزوها كانوا يعزونها بالقول: يا لسعادته.. مات صغيرا.. مات ملاكا..، كانوا يشجعون موت الأطفال ليصيروا ملائكة تشفع لهم في تراجيديا القبور، يا إلهي، كانوا يشجعوننا نحن الصغار على الموت يذكر أعرور أنه حين كان طفلا، سأل أبوه يوما عن سر الكون، فأجابه بأنه الله خالقه، فدعا لله بدعوة الطفولة التي يدعوها الآباء: اذاسيوش ربي هيوا (الله يعطي إلهنا الهواء) رد عليه الأب أن هذه الدعوة أيضا لا تليق في وجه الرب وقمعه بشكل لا يجب أن يدعى على الله لا بالخير ولا بالشر بل بالشكر فقط. حين كبر أعرور، فهم أن هذا الإله الذي لا يكترث لدعوة الناس له بالخير أو بالشر هو ملك المغرب.