الوصول: ها هو ركبنا الآن يدخل - سالما –الطريق الرئيسية المعبدة التي تصل جرادةبوجدة، ولن يستغرق منه الوصول إلى ساحة الحي المغربي إلا ربع ساعة. تغير إيقاع السفر، فمن بطء وحذر شديدين، في المنعرجات حادة الانحدار، إلى سرعة قصوى، وكأن خالي عيسى ينتقم لنفسه من كل ما عاناه مع الجرار في الليل البهيم. ما هذا الذي أشم، لماذا تنشط ذاكرتي الأنفية، كما حصل في "موريس لوسطو"؟ سأعرف في ما بعد أن جرادة ظلت لعشرات السنين تستقبل زوارها برائحة الكبريت، وإن فاخرت المدن زوارها بأصناف من روائح الحضارة، حتى ما لا يحتمل، فلم يكن لجرادة أن تباهي بغير رائحة الكبريت المهيمنة عليها، الناتجة عن احتراق كويرات الفحم في أفران ومواقد المنازل والمعامل، على السواء. كأن الفاتنة السوداء تقول للناس: أنتم من دمرتم وحفرتم "فدان الجمل"، فليس لكم الآن إلا الصبر على قلب أسود لا ينبض بغير القسوة. توقف الجرار في الساحة الواسعة، وتبينتُ، وتباشير الفجر قد هلت، سِوارا من دكاكين يحيط بها من كل الجهات: القيسارية. مرة أخرى سأعاني مما عانيت منه في ساعتي الأولى بوجدة: نزل كل الراكبين، قفزا من الريمورك، إلى حيث لا أدري، وبقيت وحيدا جالسا، حيث أمضيت الليل. لم أدر ما أفعل، هل أقفز؟ هل ألزم مكاني؟ حتى خالي عيسى لم يعد حيث كان، فأين ذهب؟ مرة أخرى –وكما حصل مع جدي محمد وخالي – لم يطلب مني أحد أي شيء، ولم يكلفني بشيء. ولم يكن لي، وقتها أن أعرف هل وصلنا إلى مقصدنا، أم ما تزال أمامنا مسافة أخرى. كم يواجه الكبار الصغار بصمت، وفراغات، لا تنتج غير الوساوس. غادروا وتركوني وحيدا، ولا مؤنس لي غير نور الصباح الذي بدأ يجلو ما حولي رويدا رويدا. فجأة شق عنان السماء صوت خُرافي مرعب، وكأنه صدى أزمنة غابرة، ارتجت له كل فرائصي، حتى خِلتني هززت "الريمورك" هزا. تواصل بلا رحمة مصرا ألا يتوقف. من يجيبك؟ من يشرح لك؟ أنت وحيد في مواجهة صوت حيوان لم تعهده أذناك في جبالك البعيدة. ثم شرع في خفوت مرعب بدوره، لأن لحظة النهاية قد تباغتك بشيء ما، وإلا فلماذا كل هذا الذي لا يشبه نهيقا ولا صهيلا ولا..ولا..؟ سأعرف، في ما بعد، من أبناء عمي أنه صوت "الدَّبُّو"، الذي يعلن عن انتهاء حقبة عمل في المناجم، وبداية أخرى. كم سأضحك لاحقا من فزعي، ولم لا أفزع ولا أحد انتبه إلى تهيئي لسماع صوت بكل هذا الدوي المخيف، حتى وهو في آخر زفرة له؟ لا عهد لي، في الجبل، بغير صياح الناس وهم يتنادون، ونهيق الحمير، فمن أين هذا النداء الميكانيكي، الذي يستعجل العمال وكأنه سوط سماوي يلهب ظهورهم؟ بدأ الركاب يعودون، من المقاهي، إلى "الريمورك" لحمل أغراضهم، ولن أنسى ملامح أحدهم وهو يعطيني بعض "السفنجات". لن أنسى أبدا حرارتها في يدي، وطعمها اللذيذ، بعد جوع ليلة، ضَخَّني الجرار فيها ضخا. ثم جاء أحدهم ليرافقني إلى منزل عمي بلعيد، حيث يسكن في "ديور النصارى". كان "الشاف بلعيد"، أو "الدا بلعيد" إطارا من أطر مناجم جرادة (شاف)، وهذا ما خول له السكن في "فيلا" بما كان يعرف بالحي الأوروبي. إنها المرة الأولى التي أتواجد فيها – لمدة طويلة-وسط أسرة غير أسرتي الجبلية، ومن هنا بدا لي كل شيء جديدا وممتعا، خصوصا أنواع اللعب التي تختلف كلية عن مألوفي الخشن والممل. كان علي أن أنتبه وأحفظ بسرعة ما يطلب مني، حتى لا تكون مشاركتي مُثْقِلة للعبة، وكان علي أن أتعود على التشنجات الصبيانية التي تحصل بيننا، احتجاجا على إخلال أحدنا بقوانين اللعبة، وكان علي أن أتعود على احتجاجات "دادة الزهرة"، وهي تتعقبنا داخل المنزل، حينما نقرر التخفي في الغرف، كنا نندفع أحيانا مهرولين، مما يجعلها تتوقع إخلالا بترتيباتها المنزلية. رغم شساعة حوش القائد بلعيد، فقد كان أغلب لعبنا في الخلاء، في الجبال المشرفة، أو في مجرى الوادي، أو في البساتين، ومن هنا استغرابي وأنا ضيف على أسرة عمي ألا يلعب الأبناء إلا في المنزل، أو في حديقته، لكن ما كان ينقصني عوضته المتعة. الحدث البارز الذي أتذكر تفاصيله الآن بكل وضوح، لانطباعه السعيد في وجداني، متحديا كل الزمن الذي مر بي، منذ وفادتي هذه على أسرة عمي، هي مناداته، ذات مساء من أسبوعي الأول في ضيافته، على ابنه البكر المرحوم محمد، وتكليفه باصطحابي إلى خياط الأسرة، بقيسارية الحي المغربي ليخيط لي قميصا. فعلا عدونا مسرعين، منحدرين من الحي الأوروبي إلى الحي المغربي – حسب التصنيف الاستعماري- ولم يكن لبهجتي إلا أن تعظم، وأنا أستمع إلى شروح محمد عن علاقة والده بالخياط، وكونه يكلفه بكل ما يتعلق بخياطة كسوة أبنائه. ومع رفرفة البهجة في كل كياني، وأنا أعدو جنب ابن عمي، كأرنب جبلي، تعاقبت على خيالي أشكال من الأقمصة الملونة، متسائلا عن هذا الذي لن يُشترى هذه المرة من وجدة، جديدا أو باليا، كعادة الوالد، بل سيُخاط لي خصيصا، هدية من عمي. أستحضر الآن هيئة الخياط الكهل، وهو واقف بمحاذاتي، ينحني ليقيس نصف قامتي ومحيط عنقي، ثم وهو يسجل المقاسات ويطلب منا أن نعود بعد يومين أو ثلاثة. ارتديت ما لا يحصى من أقمصة، طيلة حياتي، نسيتها كلها ما عدا هدية عمي هذه، أو قميص جرادة إن شئتم. كان بلون أحمر داكن، لعله من اختيار عشوائي للخياط، لأنني لم أخير فيه، ولا عمي أو ابنه اشترطا لونا ما. كم سعدت لزمن بارتدائه، بل لم يكن يحلو لي غيره. وكم تباهيت بكونه خِيط لي خصيصا. ولم تُتح لي، بعده، أبدا فرصة الخياطة، حتى تخرجت من مركز تكوين المعلمين بوجدة سنة 1970. ألا يعد قميص جرادة من الأحداث البارزة في حياتي؟ وركبت الدراجة: لم يكن عمي بلعيد، لِيُسْرِ حاله، يبخل على أبنائه، حتى في تلبية مُتعهم الصبيانية، خارج ضروريات العيش، ولهذا كثيرا ما وجدتني، بمعيتهم، في الطريق إلى "القيسارية"، وفي جيوبنا قطع نقدية، ندفعها إلى البائع، وأصابعنا تشير إلى ألوان وأشكال الحلوى خلف الزجاج. نقفل راجعين إلى المنزل ولا حديث لنا خارج قاموس الحلوى التي أصبنا. وفي ما يخصني لم تكن متعتي محصورة في حلاوة الحلوى، والأخذ بأطراف الحديث أثناء العودة، بل في جِدة كل طقوسها، بالنسبة لي: كرم العم، رنين القطع النقدية في جيب لم تلجه من قبل، التمييز بين أسماء الحلوى، خشخشتها في الجيب... كل هذا لم يكن متاحا لي بالجبل. ارتياد دكان عبد الرحمن ب"اسالمن" – بطلب من العائلة، أو خالي البشير- لم يكن يتجاوز شراء السكر، "الكاز"، الزيت... أما خالي هذا فطلباته منحصرة في علب السجائر، من نوع "فانيدا". حينما تسمع نداءه من بعيد، فاعلم أنك في مهمة تدخينية ملحة، يكلفك بها ويردف بالأمازيغية: "أَزَّلْ أزل": اجْرِ. لكن هذا الصباح يبدو محمد وحسن في غاية الفرح-فرح أحلى من الحلوى -وهما يناديان علي. فهمت منهما، ونحن ننحدر صوب الحي المغربي مسرعين، أن عمي بلعيد سمح لهما بكراء دراجات هوائية صغيرة، مكلفا محمد بالعملية. ها نحن أمام العجلاتي، ورغم زمجرته وهو يؤكد على عدم تجاوز الساعة، لم ينقص من سعادة اللحظة. ها هي مركونة هنا وهناك – الصغيرة والكبيرة-وليس أمامك إلا أن تختار وتنطلق. تسمرت واقفا حينما صاح بي محمد: لا تُضيع الوقت أسرع. لكن كيف؟ وإلى أين؟ لم يسمع سؤالي لأنه انطلق كسهم صوب منحدر مترب. ابتعدت عن العجلاتي حتى لا ينتبه إلى تعثر ركوبي، وينزع مني الدراجة الصغيرة. أنا الآن حائر، خائف، لكن في عمقي فرح لا عهد لي به. ضَحِكُ بعض العابرين، وأنا أسقط، لن أنساه أبدا. يا ابن الجبل، يا من لم يركب غير الحمير، ها أنت تواجه تحديا كبيرا بمفردك، وبمدينة، ووسط غرباء. عاد ابن عمي أدراجه، حينما تيقن أنني لست في أثره. ما لك يا رمضان؟ إن الوقت يمضي. كيف أركب؟ أنا لا أعرف؟ ينزل عن دراجته، يساعدني في الاستواء راكبا الدراجة، يدفعها إلى الأمام، تمضي العجلتان، يلتوي المقود فأكاد أسقط لولا أنه يمسك بالسرج. نعاود الكرة فأنجح في الحفاظ على توازني لأمتار. يمضي مسرعا وهو يصيح: ها قد تعلمت. كأن أبواب السماء انفتحت لدى سماعي تشجيعه. ماذا؟ هل فعلا هذا كل ما علي أن أفعله لأركب الدراجة؟ وكان أن انطلقت وكلي ثقة في نفسي. الوقت للمتعة ولا سقوط بعد الآن. عبَرْنا كل الأزقة الصاعدة والهابطة، وضحِكنا من عثرات بسيطة لازمتني خصوصا في المنعرجات المتربة. ورغم سقوطي الفاضح، منزلقا على حافة بركة ماء صغيرة، نهضت واثقا وواصلت، متتبعا ضحكات محمد وحسن. ياه، سرعان ما انتهت الساعة، وكأنها ما كانت. تذكرنا زمجرة العجلاتي فقفلنا راجعين لنعيد الدراجات، وفي نفوسنا حسرة اليقظة من حلم لذيذ. إلى فرصة أخرى أيتها الدراجة الأولى في حياتي. فعلا: "نقل فؤادك حيث شئت من الهوى***فما الحب إلا للحبيب الأول". دراجة جرادة، كما قميصها، ظلا حاضرين في كل الدراجات التي ركبت، وفي كل الأقمصة التي ارتديت. Les poux كان الحي الأوروبي بجرادة-أواخر خمسينات القرن الماضي-فعلا كذلك، اجتماعيا ومعماريا، "فيلات" كبيرة وصغيرة، بأسقف مثلثة يكسوها القرميد الأحمر؛ إذ المنطقة ثلجية. نقل الأوروبيون إلى جرادة حبهم للحدائق المنزلية، أتذكر الآن روعة ورودها مختلفة الألوان، وسياجاتها الخشبية الخضراء التي تتراص طولا وعرضا، وهي تحف بأزقة وساحات واسعة ونظيفة، وإن مُتربة. رغم كوني ابن جبل وسهول زاهية الألوان ربيعا، فقد انبهرت بورود هذه الحدائق لجدتها بالنسبة إلي. وحيرني أن تنبت في الحدائق المنزلية فقط، وليس خارجا، خلافا لما في الجبل وسهول الزكارة، حيث الزهور برية فقط، ولا أحد يفكر في استنباتها قرب مسكنه. عِشقي طيلة حياتي للحدائق المنزلية المزهرة، ومتعة العناية بها، يعود إلى هذه اللحظة، لحظة انبهاري بالحضارة الأوروبية الخضراء، بجرادة، التي قهرت سواد الفحم، وصلابة التربة، وقساوة الطقس وجفافه، لتستنبت – خصوصا ب"ديور اجناير" الهكتارية-حدائق غناء رائعة. لم تكن حديقة عمي بهذا المستوى المزهر، وكل ما أذكره الآن، منها، أحواض نعناع، لأنني كنت أحرص يوميا على ريها، خصوصا وقد شجعني عمي ذات صباح على هذا. كان مغادرا ليركب سيارة خدمة بيضاء، ولفت سمعه خرير الماء، فصاح بي: أنت تسقي "مزيان مزيان". ما حكاية les poux هذه؟ كان الباعة المتجولون المغاربة، طبعا، يطوفون بالحي الأوروبي، كل صباح منادين بالفرنسية على بضائعهم، لكون أغلب الساكنة من الفرنسيين: بائع الخضر، الفواكه، العسل، الحليب...، ولم يكن يُضحك "دادة الزهرة" غير صوت بائع الدجاج، فحينما يصيح: les pouuuules، لا يُسمِع حرف اللام، فتردد هي في أثره، ضاحكة ومضحكة: Les pouuuuux. لقد سعدت بعطلتي لدى عمي سعادة كبيرة، وكم تمنيت وقتها ألا تنتهي أبدا، وألا أعود إلى حياة الشظف بالجبل، وإلى حوش القايد بلعيد، لكنها انتهت أخيرا، ولا أتذكر الآن كيف عدت إلى مستفركي. لعل ما نكره لا يرسخ في ذاكرتنا طويلا، لأنها ترفضه وتستبعده. لم تكن رحلتي إلى جرادة عائلية فقط، بل رحلة اكتشاف عدت منها طفلا آخر. فرحم الله عمي بلعيد، ودادة الزهرة، والابن محمد الذي علمني ركوب الدراجة قبل أن يرتد إلي طرفي. وافاه الأجل محاميا بتطوان. https://web.facebook.com/groups/mestferkiculture51