"الداخل مفقود والخارج مولود"، عبارة ترددها الألسن، لكنْ قد لا يوجد مَن يستشعر معناها الحقيقي أكثر من العمال المشتغلين في مناجمَ بمنطقة تُدعى "أحولي" نواحي مدينة ميدلت. تقع هذه المناجم داخل كهوف عميقة يمتدّ عُمق بعضها وسط الجبال الشاهقة إلى أزيد من خمسة عشر كيلومترا، تخترقها آبار بفوّهات مثيرة للرعب في النفس يزيد قُطر بعضها على سبعة أمتار، ويكفي أن يتعثّر الماشي داخل الكهف عثرة خفيفة لينتهي في الدار الآخرة. وأنت تمرّ على حواف الآبار ذات المنظر الرهيب، تشعر وكأنّ كل خطوة تخطوها تدنو بك من الموت، لكنّ مئات العمّال يعيشون في هذا المكان ويكسبون منه قوتَ يومهم، وقد تعايشوا، بشكل أو بآخر، مع خطر الموت المحدق بهم، لا برغبتهم، بل مُكرهين. رزق محفوف بالموت يتطلب بلوغ المناجم التي زارتها هسبريس صعود جبلٍ والسير بين منعرجاته لمدة تقارب ساعة ونصف الساعة من الزمن، وحين تصل إلى المكان المقصود الذي يقيم فيه العمال أكواخهم تلفي حفرة بعُمْق أزيد من ثلاثين مترا، خلّفتها الشركات الفرنسية التي كانت تستغلّ المنجم الموجود بعين المكان إلى غاية سبعينات القرن الماضي وقد ظلت على حالها. بالقرب من الحفرة ذات الفوّهة المخيفة التي يخترقها عمودان حديديان، تُوجد آبار يبحث في قعرها العمال عن المعادن، ووسط الجبل ثمّة كهف بعُلوِّ قامة إنسان ما أن تدلف إليه وتترك خلفك ضجيج محرّك يستعمله العمال في الحفْر، حتى تستشعر برودة تتسلل إلى مفاصلك، رغم أن الحرارة في الخارج تقارب أربعين درجة. يضيء الطاهر بن الطواهري المصباح المثبّت على جبهته ويقودنا إلى داخل الكهف الموحش الموغل بخمسة عشر كيلومترا في عمق الجبل، بحسب مرافقنا. بعد حوالي مئة متر من المشي طلب منا التوقف لعبور حافة ضيقة تفصل بين جدار الكهف الحجري وبين بئر عميقة ذات فوّهة واسعة، تتدلى منها حبال ينزل بواسطتها العمال إلى قعر البئر بحثا عن المعادن. يعبُر بن الطواهري، الذي يشتغل في مناجم أحولي منذ سنوات، الحافة بخفة، لكنَّ عابرها لأول مرة لا بد أن يتردد قبل أن يغامر بالعبور، وبعد أن تنتهي عملية العبور بسلام تبرز حوافُّ أخرى وآبار عميقة مماثلة، ينزل إليها العمال صباح كل يوم، ولا يعرفون ما إن كانوا سيصعدون منها أم سيُطمرون فيها إلى الأبد. في حديثنا معهم، روى عمال مناجم أحولي كثيرا من القصص المأساوية لعمال انتهى بهم البحث عن لقمة العيش لأبنائهم جثثا وقد فارقوا الحياة بطريقة درامية؛ من تلك النهايات المأساوية واحدة لعامل سقط من علو شاهق على آلة حادة فانشطر في منتصفه إلى شطرين. بن الطواهري كاد أن يفقد بدوره حياته في هذا المكان أكثر من مرة، إحداها، وهي الأكثر رسوخا في ذهنه نظرا للرعب الذي خلفته في نفسه، كانت حين انهار عليه جزء من الجبل فسدَّت أحجاره فوّهة الغار حيث كان يبحث عن المعدن رفقة صديقه، وكادت تلك تكون نهايتَه، لكنّه نجا بأعجوبة. يحكي بن الطواهري أنّه كان فرحاً ذلك اليوم بعدما غنمَ، رفقة صديقه، كيسيْن من المعدن، فجلسا لاسترجاع أنفاسهما، وأثناء تجاذب أطراف الحديث بدا له شقّ في جدار الكهف خمن أنه قد يقوده إلى العثور على كميات أخرى من المعدن، وما أنْ هوى على الشقّ بالضربة الأولى حتى حدث الانهيار. "رأيت صديقي يبكي وهو رجل صلب ولديه أبناء"، يقول بن الطواهري وهو يستعيد شريط تلك اللحظات السوداء، أما هو فكان يفكر في طفلته الثانية التي ازدان بها فراشه قبل أيام قليلة فقط، وغمره شعور بأنه لن يراها مرة أخرى. يصمت بُرهة ويعبّر عن شعوره في تلك اللحظة بالقول: "تْخلّي الدراري الصغار مُوراك هي اللي صعيبة، أما الموت كاينة غير موت وحدة". وفي غمرة الشعور بدنو النهاية، لاحتْ لابن الطواهري وصديقه كُوّة صغيرة دلّهما إليها شعاعُ نور، أطلّا منها فلَاح قعرها على بعد ثلاثة أمتار مكسوا بالأحجار، هي التي استقبلت أقدامهما حين انزلقا منها وهويَا على الأرض، مصيبة إياهما برضوض، لكنهما في نهاية المطاف نجيا من موت محقق. زرق في فم الغول يصعب على المرْء أن يتخيّل، مجرّد تخيل فقط، أن يشتغل في مناجم أحولي، مهما بلغت الأرباح التي سيجنيها من عمله، نظرا لخطورة العمل في هذه المناجم، لكنّ أبناء المنطقة يشتغلون فيها رغما عنهم، ولا يكسبون من عملهم سوى دراهمَ معدودات لا تفي حتى بإعالة أسَرهم الصغيرة. "لو جئتم إلى هنا قبل عيد الأضحى لوقفتم على حجم آلامنا. هناك من العمّال مَن لم يستطع توفير ثمن أضحية العيد، ولمْ يضحِّ، وهناك من لجأ إلى اقتراض المال لشراء الأضحية، بل هناك مَن لم يملك في جيبه حتى ما يملأ به القفة من السوق الأسبوعي قبل العيد"، يقول عبد العالي، أحد العمال المنقّبين عن معدن "لافانا دينيت" في منطقة مي إبلاضن. لا يحتاج المرء أن يبحث كثيرا لتلمُّس كلام عبد العالي على أرض الواقع. في أحولي ثمة كثير من العمال يقضون أياما منغمسين في البحث عن المعادن في أعماق الآبار وسط الكهوف دون أن يجنوا درهما واحدا. من بين هؤلاء العمال رجل نحيلُ الجسم في أواخر الخمسينات من العمر، وجدناه هناك يوم الأحد، الذي يصادف السوق الأسبوعي بميدلت، لكنه لم يذهب إلى السوق. يقول مواريا خجله خلف التجاعيد العميقة التي كست وجهه إنّه لم يكسب ولو درهما واحدا طيلة أسبوع من العمل، فخجِل من أن يعود إلى بيته عند زوجته وأولاده صفْر اليدين، ولتفادي الحرج ارتأى، مُكرها لا راغبا، البقاء متواريا بين جبال أحولي إلى أنْ يجني مالا يحفظ به كرامته أثناء عودته إلى بيته. يشبّه الطاهر بن الطواهري طريقة كسْبه ورفاقه للدراهم المعدودات التي يجنونها من بيع المعادن بنزعها من "فم الغُول"، دلالة على صعوبة وقسوة الظروف التي يشتغلون فيها. عاش بن الطواهري فترة في ليبيا، واضطر إلى العودة إلى المغرب بعد اضطراب الأوضاع هناك إثر سقوط نظام معمر القذافي، واشتغل بائعا متجولا في مدينة ميدلت، لكن السلطات حجزت عربته مرّتين، فاضطر إلى العمل في مناجم أحولي، مغامرا بحياته في سبيل إعالة أسرته. حين يتحدث عمّال مناجم أحولي ومي إبلاضن عن ظروف عملهم، تشعر بالكلمات المتدفقة من أفواههم كحِمم بركان ملتهبة. يقضي العمال هنا أسبوعا أو أسبوعين دون أن يستحمّوا. يشربون ماء غير صالح للشرب، ويأكلون خبزا باردا ومتعفنا تكسوه الفطريات. يلخص بن الطواهري كل شيء بقوله: "حياتنا أشبه بحياة الكلاب". أثرياء "لاڤانا دينيت" وأنت متوجه من مدينة ميدلت إلى مي إبلاضن وأحولي، تظهر على الجانب الأيسر للطريق ضيعات فلاحية تحتلُّ مساحات شاسعة، هي في الواقع لم تُنشأ بغرض الفلاحة، بل أنشأها بعض من الأعيان والسياسيين كغطاء لحجب عمليات التنقيب عن المعادن النفيسة، وعلى رأسها معدن " لاڤانا دينيت" ذي القيمة المالية العالية. في مدينة ميدلت، ثمة أشخاص أضحوا أصحاب ثروات طائلة، يُقال إنهم جنوْها من بيع معدن "لاڤانا دينيت"، ويُتداول أنّ أحدهم عثر على كميات كبيرة من المعدن المذكور، باعها بأزيد من ثمانمائة مليون سنتيم، ويُعدّ حاليا واحدا من أثرياء مدينة ميدلت، لكن عبد العالي يقول إنّ الأخبار الرائجة حول جنْي أشخاص لمئات الملايين من بيع معدن "لاڤانا دينيت" غير صحيحة. يُقر عبد العالي بأنّ هناك فعلا أشخاصا في ميدلت "أصبحوا مليونيرات بين عشية وضحاها"، منهم واحد يتذكر عبد العالي أنه لم يكن يملك حتى ثمن شراء سيجارة قبل سنوات قليلة فقط، وأصبح اليوم ثريا، لكنه يرى أنّ هؤلاء الأشخاص قد يكونون كوَّنوا ثرواتهم الطائلة من ترويج الأموال القليلة التي جنوها من بيع "لاڤانا دينيت" في مجالات أخرى وعادت عليهم بأرباح كبيرة. "بالله عليكم، هل لو جنيْت أربعين مليونا فقط من بيع لاڤانا دينيت سأعود لأعمل في هذا المكان. مستحيل، فما بالك لو ربحت مئات الملايين"، يقول عبد العالي، مضيفا وقد انفصمت عُرى رباط جأشه: "أريد أن أقول للذين يروّجون مثل هذه الإشاعات، أعطونا هذه الملايين التي تتحدثون عنها ولا نراها نحن". مصير مجهول حين تغادر مناجم التنقيب عن المعادن في بلدة أحولي، تترك خلفك عمالا من مختلف الأعمار يقضون سَحابة يومهم في التنقيب عن المعادن وسط عالم موحش ومخيف لا فرق بينه وبين القبور، وفي الطريق يتراءى لك شقاء العمال من خلال الأثقال التي يحملونها على ظهورهم وهم يخترقون الجبال طُولا وصعودا. في طريق عودتنا، صادفنا شابا مُثقلا بحقيبة ظهْر كبيرة وكيسيْن مملوئين بالخضر والمؤونة، كان يمشي بعض مئات أمتار ثم يتوقف ليستريح ويواصل المسير. صادفنا أيضا كْهلا حاملا على ظهره قنينة غاز من الحجم الكبير وقنينة ماء كبيرة، وصادفنا أيضا سيّدة رفقة طفليْن ورضيع قِيل لنا إنها تقصد المناجم بحثا عمّا يخلفه العمال من معادن. توقفت السيدة وسط الوادي الضيق المخترق للجبلين حيث يوجد المنجم المقصود لتلقّم رضيعَها ثديها ليرضع ما جاد به صدر أمّه من حليب، وربما ليرضع أيضا شقاء قد يتربص به حين يشتدّ عُوده، في رقعة جغرافية مَنسية يقول أهلها إنّه لا بديل آخرَ أمامهم غير مهنة التنقيب عن المعادن رغم خطر الموت، وخطر الإصابة بأمراض مستعصية، مثل السيليكوز. يحفّ الطاهر بن الطواهري رأسَ رفيقه في العمل وهو بعُمر والده واضعا عليه قبلة احترام، ثم يُلخّص، بكلمات مشحونة بالغضب، حاضرا ومُستقبلا قاتما بقوله: "لو بحثتم في جيوب هذا الرجل فلن تجدوا حتى ثمن قطعة صابون. لا أقول هذا تشفّيا فيه، فهو بمثابة والدنا، ولكنّي أقول هذا الكلام لأن وضعه يعكس واقعنا المؤلم، ويعكس مصيرَنا المجهول، نحن، ومصيرَ الأجيال التي ستأتي بعدنا".