مواطنون غارقون في البؤس، يقامرون بحيواتهم داخل أنفاق مهجورة في بلدتي سيدي بوبكر وتويسيت في إقليم جرادة من أجل لقمة عيش. «ينتفضون، مرة أخرى، ضد أباطرة الرصاص في منطقة حدودية ورثت حقولا من الألغام التي زرعتها فرنسا ورحلت تاركة غرسها، الذي «أثمر» مآسي ومآتم وأيتاما ومعوقين، في ظل صمت السلطات المغربية... بلدات خارج التاريخ والحضارة انضافت إلى بؤسها نسب النمو الديموغرافي السلبية، نتيجة نزوح أبنائها نحو المدن وهجرتهم نحو الخارج ومجازفتهم بركوب قوارب الموت، في ظل التهميش الذي تعانيه المنطقة وغياب أي مشاريع تنموية. انتفض مجموعة من العمال في بلدات سيدي بوبكر وتويسيت وتيولي في إقليم جرادة، في الشهر الماضي، ضد استغلالهم من طرف أحد أباطرة الرصاص المعروفين في الإقليم وضد تسويف رئيس الجماعة القروية لسيدي بوبكر، المتاخمة للشريط الحدودي، وعجزه عن التدخل لحلّ مشاكلهم. انطلقت مسيرة العمال من مقر الجماعة القروية سيدي بوبكر في اتجاه القيادة، قبل أن تتدخل عناصر الدرك الملكي لإيقافهم. ورفع المحتجون الأعلام الوطنية وصور الملك محمد السادس ورددوا شعارات تندد باستغلالهم من طرف أباطرة الرصاص، من قبيل «توتو سير فْْحالكْ، بوبكر ماشي دْيالكْ». وحضر إلى عين المكان كلّ من الكاتب العام لعمالة إقليم جرادة والقائد الجهوي للدرك الملكي والسلطات المحلية والأمنية لتخلص المفاوضات إلى ضرورة تشكيل لجنة من ممثلي السكان المحتجين لمباشرة الحوار، الأمر الذي تم رفضه، وتوجهت المسيرة إلى حي «لاجيكو»، الذي يبعد عن الشريط الحدودي بحوالي 500 متر، لكن العناصر الأمنية تدخلت لتفريق المتظاهرين وقامت باعتقال 3 شبان من المحتجين يبدر وبوشنتوف والصادقي (أطلق سراحه بكفالة 2000 درهم) من طرف درك سرية سيدي بوبكر وتم تحرير محضر لهم وإحالتهم على وكيل الملك في ابتدائية وجدة من أجل «التظاهر بدون ترخيص والتحريض. اندلعت شرارة الاحتجاج بعد أن تدخل أحد المحتكرين لمعدن الرصاص، الذي يستخرجه هؤلاء العمال من داخل الأنفاق المهجورة، لإرغامهم على بيع الكيلوغرام الواحد بدرهم فقط، بعد أن كان يشتريه منهم بما بين 3 و4 دراهم للكيلوغرام، ويقول العمال إنه هددهم بالسجن، في حالة الرفض أو الاحتجاج.. بلدتان من أطلال تحولت «المدينتان» المنجميتان سيدي بوبكر وتويسيت إلى بلدتين بل إلى ما دون ذلك، إلى «دُوارين»، ووجدتا نفسيهما خارج التاريخ، يعاني سكانهما الموت البطيء بسبب البطالة، بعد أن كانتا تعيشان في رفاهية وازدهار أيام «نشاط» الشركات المنجمية منذ بداية القرن الماضي (في حدود 1910). توقفت هذه الشركات عن العمل بعد نفاد المعادن وهُجِرت المنطقة واستثمرت أموالها في مشاريع أخرى، كالفنادق، بعد أن «أورثت» المنطقة جبالا من النفايات وأطلالا تشهد على الخراب الذي عم المنطقة وأنفاقا خالية سوى من شبح الموت، الذي يطارد المغامرين بدخول «غيران الرصاص» أو الذين يزاولون التهريب أو من يجازفون بركوب قوارب الموت، هروبا من البطالة وألغام الاستعمار الفرنسي، التي أفقدت العديد من المواطنين حياتهم أو بترت عضوا أو أكثر من أجسادهم.. «كان سكان الجماعة في سنة 1976 يفوق 18000 نسمة، حين كانت تضم الجماعات الثلاث الحالية تويسيت وسيدي بوبكر ورأس عصفور، أما الآن فهم لا يتعدون 6000 نسمة، وبهذا تكون الجماعات قد فقدت ثلثي سكانها بسبب توقف المناجم»، يقول أحد المستشارين في جماعة تويسيت، مضيفا: «يعيش سكان المنطقة أوضاعا مزرية، بسبب انعدام المشاريع التنموية والاكتفاء بحلول ترقيعية». لقد أضحى السكان يهجرون أراضيهم وبيوتهم ويتخلّون عن فلاحتهم هروبا من الموت البطيء.. «حتى مُشْ ما كيهرب من دار العرس»، يقول بحكمة أحد الشيوخ... أنفاق «قاتلة» هلك المئات من الشبان داخل أنفاق المناجم بحثا عن قوت يوم أو يومين، وهو المصير الذي يتهدد آخرين، بحكم أن الأسباب التي تدفع هؤلاء إلى اقتحام أنفاق الموت والغوص في أحشاء الأرض المظلمة، في ظل غياب أي وسائل للوقاية من حوادث انهيار الصخور، قائمة، وهي الفقر والفاقة والعوز والحاجة والحرمان والإقصاء والتهميش.. لقي «كمال بن التاج بريسون»، وهو شاب في ربيعه ال17، مصرعه داخل نفق منجمي يوم الثلاثاء، 16 أكتوبر 2007 في حاسي «بينات» في جماعة تيولي، على بعد حوالي 9 كيلومترات من بلدة تويسيت، الواقعة تحت نفوذ إقليم جرادة. وقد «غامر» الشاب بالدخول إلى النفق المعدني المهجور والمغلق منذ سنوات لاستخراج أنبوب من الأسلاك النحاسية المتخلى عنها من طرف الشركة منذ أكثر من 8 سنوات، دون أن يعلم أن «البئر» عميقة ومغمورة بمياه «مختمرة» بعمق أكثرَ من 50 مترا، وهو ما أدى إلى انتشار غازات سامة إلى حدود 150 مترا من النفق المهجور والمغلق، الذي يصل عمقه إلى 300 متر. ورغم المحاولات المتكررة لرجال الوقاية المدنية، بوسائلهم الخاصة والمحدودة، والتي كادت تُودي بحياة أحدهم، بعد أن نفد الأوكسجين من قنينته في عمق 20 مترا، فإنهم لم يتمكنوا من انتشال جثة الشاب، الذي اعتُبر في عداد المفقودين إلى يومنا هذا... كما لقي شخص مصرعه في حادث انهيار نفق منجمي، وأصيب آخر بجروح خطيرة يوم السبت، 26 يناير 2008 في بلدة سيدي بوبكر، التي تبعد عن مدينة وجدة بنحو 40 كيلومترا، والواقعة تحت نفوذ إقليم جرادة. وقد تمكن السكان من انتشال جثة الهالك، الذي ترك وراءه زوجة وطفلين، حيث دفن عصر اليوم نفسه. فيما نجا آخرون بأعجوبة. وفي السنة الماضية، اعتصم سكان بلدة تويسيت، نساء ورجالا، شيوخا وأطفالا، أمام مسجد الصفوة في حي الأطلال في البلدة، مباشرة بعد ذيوع خبر هلاك هشام العابد (من مواليد 1977) في مساء الاثنين 24 يناير 2011، بعد انهيار أطنان من الأتربة والأحجار المنجمية على مجموعة من الشبان كانوا داخل بئر في مقر «الراحة»، التابع لشركة مناجم تويسيت، التي أغلقت أبوابها. تجمهر السكان واعتصم عدد من الشبان والشابات أمام بيت الجنائز في المسجد ذاته الذي وضع فيه جثمان الهالك، الذي خلّف وراءه طفلة لا يتجاوز عمرها الثامنة وزوجة حاملا وأسرة من أم وستة إخوة، كان يحمل مسؤولية إعالتهم على عاتقه، بعد وفاة والده بمرض السيليكوز، بعد سنوات من العمل في المناجم. أغلق المعتصمون بيت الجنائز ورفضوا أن يخرج جثمان هشام لدفنه في مقبرة البلدة إلا بعد حضور عامل إقليم جرادة لفتح حوار معهم ودراسة أوضاعهم، المزرية، والبحث عن حلول وبدائل للبطالة التي تنخر العاطلين من الشباب وتدفع بهم إلى الموت ردما داخل الآبار والأنفاق.. كما سجل المئات من سكان البلدة حضورهم في محيط المسجد، دعما لمطالب الشبان العاطلين، ورفعوا شعارات من قبيل «بالروحْ، بالدّمْ، نفديك يا هشامْ» و«يا هشامْ ارتاحْ، ارتاح سنواصل الكفاحْ» و»هذا عارْ، هذا عار وتويسيت في خطرْ».. كان الشبان الثمانية في جوف أحد آبار مقر «الراحة»، المكان الذي كانت الشاحنات تفرغ فيه حمولاتها من المعادن (الرصاص والنحاس والزنك) لتوجه إلى المعمل لتُطحن وتُصفَّى وتتحول إلى سبائك من المعدن القابلة للتصدير أيام ازدهارها (كانوا) منهمكين في جمع التراب وفي التنقيب عن بقايا المعادن، المتناثرة هنا وهناك، بهدف الحصول على بعض الدراهم، حين هوى سقف البئر، التي هي عبارة صهريج، و«دُفن» الشبان الثمانية أحياء.. فقد سقط الجزء الإسمنتي الصلب من سقف البئر على هشام العابد ووضع حدّاً لحياته، فيما نجا شقيقه وصديقه من موت محقق، بعد أغرقت الأتربة كامل جسديهما عدا الرأسين، حيث أصيبا برضوض، في الوقت الذي تمكَّنَ الخمسة الآخرون من النجاة، بعد أن هرع زملاؤهم لإنقاذهم.. زاد غضب السكان المكلومين، بعد أن بحثوا عن طبيب أو سيارة إسعاف دون جدوى، مع العلم أن الشباب العاطلين ينشطون داخل الأنفاق ليل -نهار، مخاطرين بحياتهم من أجل لقمة عيش لأفراد أسرهم، وقد يجنون دراهم أو «يدفنون أحياء»، وغالبا ما ينقل المصابون إلى مستعجلات مستشفى الفارابي في وجدة، على بعد حاولي 40 كيلومترا من البلدة، لكنهم قد يلفظون أنفاسهم داخل سيارة الإسعاف. وافق سكان البلدة المعتصمون على دفن الهالك بعد حوالي ساعتين من صلاة العصر، في أعقاب لقاء ماراتوني ترأسه عامل إقليم جرادة مع ممثلين عن العمال ورئيس المجلس البلدي لتويسيت، رفقة نائبيه وبعض رجال التعليم والكاتب العام للجماعات المحلية، التابعة للاتحاد المغربي للشغل، وثلاث أمهات فقدن أبناءهن تحت أنقاض المناجم، تناولن الكلمة خلال اللقاء، الذي حضره كلّ من رئيس دائرة كنفوذة وقائد قيادة سيدي بوبكر وعميد الأمن الإقليمي لجرادة والمسؤولون الإقليميون للدرك الملكي والقوات المساعدة وحماية التراب الوطني في جرادة. أطفال هلكوا تحت الأنقاض ووري جثمانا التلميذين زكرياء ميموني وعبد القادر دحماني الثرى بعد عصر يوم الأربعاء، 3 مارس 2010 في مقبرة سيدي محمد في تويسيت، في موكب جنائزي مهيب، تقدّمَه كلّ من عامل إقليم جرادة وعناصر الدرك الملكي والأمن ورؤساء جماعات بلدات تويسيت وسيدي بوبكر وتيولي ورأس عصفور، إضافة عائلات الهالكين ومئات المواطنين من سكان المنطقة. وكان التلميذان زكرياء ميموني وعبد القادر دحماني، البالغين من العمر، على التوالي 17 سنة و13 سنة، قد لقيا حتفهما في انهيار «جبل» من الأتربة والأحجار من بقايا ونفايات معدن مناجم الرصاص في بلدة تويسيت، بعد أن كانا «غارقين»، بمعية زملائهما، في جمع بعض مخلفات الرصاص المُستعمَل في الكحل بنيّة بيعه للمحتكرين في عين المكان، مقابل بعض دراهم معدودة لمساعدة أسرهم، المعوزة، التي يرزح أغلب أفرادها تحت نيران البطالة ويقضون أوقاتهم في الدكاكين -المقاهي التي تخترق البلدة في اتجاه بلدة تيولي، التائهة وسط أراضي قاحلة، بسبب الجفاف الذي ضرب المنطقة خلال عدة سنوات الأخيرة. فيما نجا التلميذان معمر حسير ويحيى بوعزي، البالغان من العمر، على التوالي، 11 و15 سنة، من موت محقق، بعد انهيار النفق الذي تم إنجازه وسط ركام النفايات، بعد انتشالهما من طرف بعض سكان المنطقة من بين أكوام الحجارة والأتربة والرمال، عقب الفاجعة التي أودت بحياة زميليهما، اللذين كان أحدهما يتابع دراسته في مستوى الثانية باكلوريا، شعبة الآداب في الثانوية التأهيلية لتويسيت، فيما يتابع الثاني دراسته في الأولى إعدادي داخل إعدادية عمر بن الخطاب في تويسيت. ذهب ضحية أنفاق الرصاص العشرات، بل المئات، منذ إغلاق مناجم «زليجة» في بلدتي سيدي بوبكر وتويسيت، بينهم تلاميذ اعتادوا على استغلال العطلة لنبش جنبات «جبال» نفايات الرصاص وبقايا المعدن أو سبر أغوار الأنفاق، التي بقيت مفتوحة بعد رحيل الشركة، تاركة الساكنة وعمالها «غارقين» في الفقر والحرمان والمآسي. كما أن العديد من الشبان والرجال فقدوا حيواتهم، ومنهم من حكم عليهم بالشلل وبالإعاقة بعد انهيار صخور «أنفاق الموت» على رؤوسهم، مكسرة عظامهم... جفاف وبطالة وتلوث تغيرت نوعية الساكنة في المنطقة، إذ نزح السكان -العمال إلى مدينة وجدة لتمكين أبنائهم من متابعة دروسهم داخل المؤسسات التعليمية الثانوية أو هاجروا إلى أوربا، في إطار التعاقد معهم في بداية السبعينيات. واستغل سكان القرى الهامشية والنازحون من النجود العليا الفرصة للاستيطان في المنطقة، التي أصبحت تتّسم بالتهميش والتخلف والفقر والأمية. وقد استغل هؤلاء الهاربون من الجفاف من قرى ومناطق أخرى بعض المنازل في حي القيسارية بسيدي بوبكر، الموجودة فوق الأنفاق المنجمية، بعد أن تم إخلاؤها تبعا لدراسات أشارت إلى وجود خطر الانهيار، أمام مرأى ومسمع من السلطات والمُنتخَبين. «لا قيمة لهذا النوع من البشر.. وماذا سيحدث لو أن الحي انهار وابتلعت الأرض المنازل بمن فيها؟».. يتساءل أحد أبناء البلدة، بمرارة. لقد وقعت عدة حوادث ليلا، حيث كان البعض يسقطون في حُفَر، بسبب تواجد هذه الأنفاق، ولم تعالج هذه الوضعية رغم أن الجماعة حاولت إقناع الشركة المسؤولة بذلك. إلى جانب ذلك، يعاني المحيط البيئي من مخلفات المناجم، حيث تحيط بالبلدتين «جبال» من النفايات المعدنية ستكون لها -ولا شك- تأثيرات سلبية على البيئة، وبالتالي على صحة الإنسان والحيوان. لقد وقّعت الجماعات المحلية اتفاقية مع الشركة لتحويل جبال النفايات المحيطة بتويسيت وبوبكر إلى مناطق خضراء وردمها بغطاء من الأتربة وغرسها بنباتات وأشجار. وبالفعل، تم الشروع في تنفيذ ذلك منذ سنوات وتمت تغطية «الجبال» بطبقة من التراب قبل غرس الأشجار، إلا أن مصير المشروع انتهى إلى الفشل، إذ ما إن وصلت جذوع الأشجار إلى عمق النفايات حتى ذبلت ويبست.. «تتكون هذه الجبال البيضاء من مخلفات الرصاص، إضافة إلى المواد الكيماوية التي كانت تعالج بها ولها تأثيرات على النباتات التي تنمو في المنطقة، وهو ما تسبب في نفوق العديد من رؤوس الماشية، فقي إحدى السنوات، نفقت 100 رأس تقريبا دفعة واحدة، بسبب رعيها في نباتات مسمومة. وإذا كانت هناك رياح، فإننا نأكل «الغبار المسموم» مع الخبز (يضحك) أو «المرميطة»، ولا يمكن أن نخرج إلى الخارج، خصوصا في الصيف»، يقول أحد السكان. أما شباب المدينة، العاطلون والمنسيون، فقد عثروا على منفذيْن، في ظل غياب سياسات تنموية في هذه المناطق الحدودية، فإما أن يتعاطوا للتهريب، مساهمين بذلك في تخريب الاقتصاد الوطني، أو يتمكنوا من «الحريك» إلى أوربا.. وفي ظل هذا الوضع، وجدت المجالس الجماعية نفسها في وضعية مزرية، بسبب انعدام المداخيل. «أتساءل عن كيفية تحديد التقسيم الجماعي لمدينتي تويسيت وسيدي بوبكر، حيث تم إنهاك مداخيل الجماعتين»، يقول عبد الله أولوس، أحد رجال التعليم في منطقة تويسيت. فخلال تواجد شركة «مناجم تويسيت»، كانت الجماعة السابقة تتلقى دعما مهما، خصوصا أن معظم أعضاء المجلس كانوا ينتمون إلى الشركة، لكن هؤلاء شكّلوا لوبيات لتسهيل انسحاب الشركة من حياة الطبقة العاملة دون أن تمكّنها من حقوقها، كالتعويضات، وبالفعل تم لها ذلك. يقول ميمون بنجانة، الأستاذ في إعدادية عمر بن الخطاب: «تعيش مدينة تويسيت ركودا اقتصاديا في جميع الجوانب، كان العمل في الشركة المنجمية هو مصدر عيش الساكنة، وبعد أن أغلقت أبوابها، يواجهون المجهول، ويعيش بعضهم بتعويضات هزيلة (600 أو 700 درهم) أو بما جاد به أبناؤهم المغتربون، في ظروف مزرية، خصوصا بالنسبة إلى حيي «الفيلاج الجديد» و«فيلاج البالي»، فهناك من السكان من لا يجدون حتى ما يوفرون به وجبة عشاء.. وحتى التهريب لم يعد مجديا. وأؤكد لك أن قرى تويسيت وبوكر وتيولي هي في طور «الانقراض»، في ظل غياب أي تدخل من السلطات». ويؤكد أحد العمال السابقين في الشركة أن نهب وسلب الآلات وعُدّة العمل ساهم في هذا الوضع المزري. وكان من المفروض أن تبقى ملكا للمجلس الجماعي الحالي وللعمال، الذين أفنوا حيواتهم في خدمتها. ويضيف بنجانة أنه وقعت نفس العملية في شركة «زليجة» في سيدي بوبكر، حيث تم نهب الحديد المتبقي والآلات من طرف أناس تكّمنوا من الاغتناء السريع. تجارة حدودية «قاتلة» بين شباب المنطقة من اختاروا ممارسة التهريب على الحدود بين المغرب والجزائر، فيعبرون الشريط الحدودي، ل«مقايضة» بضاعة مغربية ببراميل بنزين.. لكن حظ هؤلاء لا يختلف في شيء عن حظ من اختاروا دخول الأنفاق، إذ غالبا ما لا يتوانى حرس الحدود الجزائريون في إطلاق الرصاص، بكل «برودة»، على ممارسي هذا النشاط، ومن بين الأمثلة على ذلك المواطن المغربي الهاشمي الزايري، الذي سقط برصاص الحرس الجزائري، على بعد عشرات الأمتار من دوار «الشرفة»، المغربي، مسقط رأسه على الشريط الحدودي في جماعة تيولي -إقليم جرادة. وكان الضحية (وهو من مواليد 1968 والأب لطفلين) يتأهب، بعد عبوره الشريط الحدوديَّ على ظهر دابنه، للتزود بالبنزين الجزائريّ، المُهرَّب، لتفاجئه عناصر الحرس الجزائري بإطلاق النار عليه، دون إعطائه أمرا بالتوقف.. وكان الهالك، حسب ما صرحت به مصادر أمنية ل«المساء»، معروفا لدى الحرس الجزائري، حيث لم تكن تلك المرةَ الأولى الذي يعبُر فيها الشريط، أسوة بالعديد من شبان المنطقة، الذين يتعاطون التهريب الحدودي. لم يكن مقتل الهاشمي على يد حرس الحدود الجزائريين حادثة معزولة، فقد سقط قبله، يوم 16 من أبريل 2000، حسن معيان، المولود سنة 1958، برصاص الحرس الجزائري، مخلّفا وراءه 7 أطفال. وفي مساء يوم الجمعة، 22 يوليوز 2005، تم اغتيال عيسى بريسون (من مواليد 10 يناير 1980) داخل التراب الجزائري، على بعد 500 متر من دوار «لحداحدة»، المغربي، مسقط رأسه. كما تعرض الشاب عبد السلام بريسون (22 سنة)، في منتصف السنة الماضية، لطلقة نارية جزائرية كادت تُودي بحياته.. ما هي الحلول؟ يقول ممثلو السكان إنه آن الأوان للبحث عن وسائل تنمية للبلدات الحدودية، سيدي بوبكر وتويسيت وواد الحيمر وتيولي وجرادة، وإنقاذ عمال الأنفاق من براثن الفقر والاستغلال البشع للمحتكرين وحمايتهم من الانتحار عبر دخول الأنفاق المظلمة والفوهات المميتة ومن مرض السيليكوز، «الملتهم» للرئتين، إذ لا فرق بين راكبي قوارب الموت وداخلي «أنفاق الموت»، غير أن الأوائل يحذوهم أمل النجاة، في حين أن الأواخر يطاردهم شبح اليأس ومرض السيليكوز.. يقول بعض المهتمين بمشاكل المنطقة إن بعض الاقتراحات التي جاء بها «الكتاب الأبيض» حول التصور الشامل للتنمية في الجهة الشرقية تتمثل في ضرورة تتبع المستفيدين من رخص البحث المنجمي من أجل معرفة أحسن لإمكانيات الاستغلال والتحويل ومعرفة الاحتياطات وخلق شراكة بين الجماعات المحلية أو على مستوى الجهة، مع الشركات العالمية المستفيدة من البحث العلمي، لمحاولة إقحام هذه الشركات في الإسهام في تنمية المنطقة ومعاملة إقليم جرادة في إطار التضامن الوطني وتمكينها من الاستفادة من صندوق مكافحة الجفاف، علاوة على الإسراع بتنفيذ مخطط إنقاذ المدينة وجماعاتها المحلية والحرص على الرفع من مردودية البنيات التحتية القائمة وتطوير الشبكة الطرقية وكهربة الدواوير وخلق مراكز التكوين ودعم الجمعيات وتقوية وترميم شبكة التطهير ودعم جمعيات إنعاش المقاولات الصغرى في جميع الميادين والرفع من سقف القروض وتمكين هذه الجمعيات من تقديم التأهيل والمعلومات المتعلقة بالأسواق لزبنائها ومساعدتها على مواصلة انتشارها، لتشمل المدن الصغرى، كتويسيت وبوبكر وعين بني مطهر، وتشجيع الجمعيات النسائية ودعمها لإنشاء مقاولات صغرى لتربية الحيوانات الداجنة وإقامة معامل في الصناعات التقليدية، بهدف التخفيف من البطالة وخلق فرص الشغل. كما يجب تشجيع السياحة شبه الصحراوية والإسراع بتوسيع الطريق الرابطة بين وجدة وفكيك وإقامة قرى سياحية وفنادق ومخيمات في كل من عين بني مطهر وفكيك وتنظيم مخيمات لفائدة أطفال الجالية المغربية المقيمة في الخارج في منطقتي تيسورين تكافايت وتنظيم تظاهرات رياضية من أجل استقطاب الزوار وإعادة تجهيز وصيانة منازل النزهة والترفيه الموجودة في تيسورين وتكافايت وتنظيم جولات فيهما، مشيا أو ركوبا على الخيل. ومن جهة ثانية، يجب توسيع المجال الغابوي والعمل على عقلانية استغلاله وحماية الحيوانات الغابوية، بحماية الغابة من الاستنزاف وتقنين القنص فيها. وعلى المستوى البيئي، يجب تشجيع الشركات التي تنشط في حماية البيئة والقضاء التدريجي على أدخنة المعامل وإعادة استغلال المياه المُستعمَلة بعد تطهيرها لسقي المساحات الخضراء وبرمجة عمليات تشجير وحرق النفايات وتحميل الجماعات مسؤولية القيام بواجباتها للمحافظة على المساحات الخضراء والنظافة وتدبير النفايات.
حياة داخل الأنفاق تخلت الدولة عن مناجم تويسيت في سنة 1978، وقبل ذلك، عن مناجم سيدي بوبكر، وأغلقت الشركة أبوابها، تاركة آلياتها ومعداتها ومضخاتها ومخازنها، بموادها وأجهزتها ومقرات إداراتها وتجهيزاتها، التي قدرت بملايين الدراهم، لتعود، بعد ذلك، وتبيعها. تخلت عن البلدتين وعن سكانهما بعد أن «تكرمت» عليهم بتعويضات هزيلة ومعاشات لا تؤمّن حتى قوت أسبوع لأسرة فقيرة.. تعرض العمال للضياع وأبناؤهم للتشريد وسلكوا مسلك «الحريك» أو «التهريب» وفضّل العديد منهم اقتحام المجهول بدخول الأنفاق المظلمة ب«كانكي» ينير جوف الأرض المظلم، إذ لا يمكنهم استعمال مصابيح بالبطاريات، لجمع كميات من الرصاص، يبيعونها لبعض المحتكرين للسوق بثمن يفرضه هؤلاء على العمال الذين «تتآكل» أجسادهم داخل الأنفاق، بل وقد تُزهَق أرواحهم في بعض الأحيان من أجل إعالة أسرهم. «أنا ندخل من ال4 نتاع الصّباحْ حتى للوحدة أو الجّوج نتاع العشية في الغارْ باش نجمع شكارة نتاع المعدن».. يقول أحد العمال الشبان، وعلى كتفه كيس فيه حوالي 50 كيلوغراما من الرصاص، متجها إلى دكان ليبيعه غلته. يبيع هؤلاء ما جمعوه طيلة ساعات من المشي والحبو والزحف بين الصخور والأحجار والمغارات، غير آمنين ولا مُؤمَّنين، تهددهم أخطار انهيار الأنفاق أو السقوط أو مرض «السيليكوز»، بحوالي درهمين للكيلوغرام ويحصلون بذلك على مبلغ يتراوح ما بين 50 و120 درهما في اليوم. كان عُمَر يلتقط أنفاسه فوق «فوهة» غار ثان، بعد أن ألقى كيسه بجانبه وجلس يتأمل ذلك القبر العميق الذي رفض أن يضمه إليه رغم أنه تمنى ذلك: «والله إلى كنْتمنّى الموتْ كلّ مَرّة... عييتْ وبْغيت نرتاحْ من هاذ الحياة المُرَّة»... يعمل هؤلاء العمال يومين أو ثلاثة في الأسبوع لمن لديهم القدرة على التحمل، وجلهم في مقتبل العمر، ومنهم من عوَّدوا حميرهم على اللحاق بهم داخل الغار ليحملوا عليها محاصيلهم، كما تعودت هذه الدواب على التسلل بين الصخور المنصوبة والمتدلية لتأمين لقمة العيش لأصاحبها وأسرهم. «الله يرحم هاداك الكَاوْري اللّي خَلاَّ هادْ المْعدن (يقصد «جان والكير» ،مؤسس شركة زليجة للرصاص)».. يصرخ أحد السكان بعد أن رآنا نتأمل العامل، «المنشور» على «فوهة» الغار..
أحياء مهددة بالانهيار غمرت مياه الأمطار الطوفانية، التي عرفتها الجهة الشرقية في سنة 2007، حي «لاجيكو» في بلدة سيدي بوبكر، وتجاوزت نسبة الأمطار النصف متر في هذا الحي القديم، الآهل بالسكان الفقراء، والواقع أسفل «جبال» من بقايا الأتربة المعدنية المُستخرَجة من الأنفاق في البلدة المعروفة ب»لاديك». وغزت المياه منازل الحي، حيث أتت على أثاث منزلين وتضرر بعضها، تاركة أهلهما في العراء. أغلب سكان هذا الحي من النازحين من النجود العليا، هربا من الجفاف، ليحلوا بالمنطقة ويقوموا باستغلال بعض المنازل في حي القيسارية في سيدي بوبكر، الموجود فوق الأنفاق المنجمية وحي «طوطو» في تويسيت، لكنها منازل مهددة بالانهيار في كل لحظة، بل إن منها ما انهار فعلا.
ألغام فرنسية «ورث» سكان المنطقة الحدودية في الشريط المحاذي لسيدي بوبكر حقولا من الألغام التي زرعها الاستعمار الفرنسي، للحيلولة دون تحرك المقاومة الجزائرية بين البلدين الشقيقين. رحلت فرنسا، إذن، تاركة «غرسها»، الذي أثمر مآسي ومآتم وأيتاما، وخلّف معاقين لم يرتكبوا جرما سوى أنهم انساقوا وراء أغنام جائعة وعطشى ففقدوا أعضاء من أجسادهم. وظلت كل الشكاوى التي وجّهها العديد من الضحايا للمسؤولين الفرنسيين دون إجابة. ورغم أنه تم تكليف محامٍ فرنسي بالملف، فإن الأمور بقيت على حالها، بسبب عدم حمل الضحايا الجنسية الفرنسية.. يحكي محمد أولوس، البالغ من العمر 68 سنة والأب لتسعة أبناء، عن ذكرياته الأليمة مع الألغام الفرنسية، التي أفقدته إحدى رجليه: «كنتْ خْدّام في زليجة (المناجم) وكنتْ راجع من الخدمة مْنين صراتْ لي هاذ الحادثة في الطريق نتاع «لا فرونتيير» (الحدود).. كنت ماشي حتى وْطيتْ عليها في سنة 63».. يعيش ضحايا الألغام الفرنسية، الذين تجاوز عددهم -حسب هذا الشيخ- 35 ضحية، في فقر مدقع، كما أن أسرهم فقدت معيلها الوحيد. «أنا كنتْ خدام عْلى وْلادي. كانت عندنا شوية نتاع الفلاحة وشوية نتاع لْكسبية، أما اليوم فالغالب الله، مع الجفاف». لا يستطيع السكان استغلال أراضيهم المحاذية للشريط الحدودي، إما خشية الألغام أو خوفا من الحرس الحدودي الجزائري، الذي لا تتوانى عناصره عن إطلاق الرصاص عليهم، بل إن الحرس الجزائري لا يترددون في الاستيلاء على الأغنام والأبقار، بدعوى أنها تجاوزت الحدود، بل إن هناك قطعا أرضية مُنع أهلها وأصحابها من حرثها واستغلالها.. لم يجد العديد من هؤلاء المعطوبين الفقراء من يساعدهم حتى على الحصول على أرجل اصطناعية، حتى وإنْ كانت مُستعمَلة، رغم الآلام التي تحدثها لهم لعدم تطابقها مع مقاييس أعضائهم المبتورة، كما حدث للميلود الرافعي، ذي ال71 سنة، وهو أب لتسعة أبناء، والذي فقد رجله بينما كان يرعى الغنم.. «جاتْ واحد اللجنة وعيّطو لي في واحد المكتبْ في وادي الناشف في وجدة وعْبْرو لي الرّجْل..» يقول الرافعي ، مضيفا: «صاوبو الرجل وصافْتو لي، ومْنين مشيت نجيبها، كالو لي خصّك تْخلّصْ واحد ال1000 درهم.. ما كانش عندي باش نخلص وخْلّيتها ليهومْ».. وليس أحمد البغدادي، ذو ال64، والأب لتسعة أطفال، أحسن حالا من سابقيه، ولا قدور الرافعي، من مواليد 1949 والأب لثلاثة أطفال: «عْندي واحدْ الأخ في ألمانيا هو اللي كايْعاوني، هنا ما كاينْ والو.. وأنا مازال مْريضْ».. يطالب هؤلاء الضحايا بتعويضات على ما لحقهم من الألغام الفرنسية ويُصرّون على متابعة الدولة الفرنسية، رغم عجزهم، قائلين: «هادْ المينا ما طاحتشْ مع الشّْتا.. فْرنسا هيّ اللّي غرستها وحنا مشينا ضحية».. ويعبّرون عن امتعاضهم وحزنهم لغياب من يدافع عنهم ويؤازرهم ضد السلطات الفرنسية، التي رفضت حتى أن تعترف بهم وتُعوّضهم، ليس مالا، ولكن أعضاء اصطناعية تعيد إليهم الحركة، مع العلم أن جلهم فقراء وأرباب عائلات من عدة أطفال.. «شوفْ.. الجزاير زيّْراتْ فرنسا وعطاتْها الخريطة نتاع الألغام في الحدود نتاعها، وما زالت كاتطالْبها بالتعويض.. وحْنا واش كايْن شي واحد يْهضر علينا أو لا؟ واش أرضْنا وما قادرينشْ نتّحرْكو فيها؟ واش هذا حق أو باطل؟».. يصرخ أحد معطوبي الألغام الفرنسية، وهو يشير إلى الأرجل الاصطناعية... «لا قيمة للإنسان في هذه المنطقة من مغربنا الحبيب، نعم هذا المغرب، الحبيب والجميل (يكررها وهو يبتسم بسخرية) الذي ما يزال يسكن مواطنوه في الجحور والخرائب والأنفاق والكهوف والمغارات، كالجرذان».. يقول أحد رجال التعليم من المنطقة، متسائلا: «فبالله عليك، كيف لا ينفجر هؤلاء السكان صراخا وصياحا ومشيا وسيرا ووقوفا، بعد أن انفجرت صدورهم إما بسيليكوز معدن الرصاص أو ردما وخنقا وغرقا في الخنادق أو برصاص الجزائريين أو بألغام الفرنسيين أو بإقصاء المسؤولين؟»..