منذ أمد يتابع المغاربة ظاهرة قلما افترضت لحظة توقف للتحليل؛ سياسيون، وعلى الأرجح منتخبون، يظهرون في صور وهم يوزعون مساعدات اجتماعية على أطفال قاصرين. وراء صورة السياسي وهو يمد حقيبة دراسية أو نظارة طبية أو مواد غذائية لطفل، تفاصيل كثيرة يفترض مقاربتها قانونيا وأخلاقيا؛ أليس وراء هذا «الكليشيه» استغلال للأطفال والقاصرين لا يقل جرما عن استغلالهم في أعمال سخرة أو دعارة؟ هل هناك خطوط حمراء لا يجب على المنتخب تجاوزها عندما يسعى إلى الترويج لنفسه وتلميع صورته أمام الرأي العام؟ بشكل أوضح؛ هل تجب محاسبة بنكيران وشباط وغلاب وغيرهم حينما نشروا صورا مع أطفال قاصرين، سواء كانوا يقربون لهم أو لا؟ القاصر كلمة تترتب عنها آثار قانونية عدة؛ تجتمع كلها عند حقيقة أن الشخص ما دام لم يبلغ سن الرشد فإن سلوكاته لا تكون، بالضرورة، مترتبة عن وعي كامل، بمعنى أنه يسهل تسخيره واستعماله في أمور تتطلب إدراكا تاما لاتخاذ قرار بشأنها. من بين هاته الأمور ممارسة الفعل السياسي، وهو أمر عصي على القاصرين بالضرورة، غير أنه سلوك دارج في ظل غياب ضوابط قانونية محددة، وفق ما سنكتشفه في هذا الموضوع.
بين الأعياد الوطنية و«شوفوني» يحتفظ جيل سابق بصور نوستالجية يظهرون فيها ضمن حشود من الأطفال وهم يحملون أعلاما وطنية ويجوبون الشوارع احتفالا بمناسبات وطنية. كانت الاحتفالات تكتسي أهمية بالغة. لذلك كانت تشهد ما يشبه التجييش. يستعان في ذلك بتلاميذ المدارس الذين توفر لهم وسائل نقل تقلهم إلى ملاعب الكرة التي تحتضن سهرات الأعياد الوطنية، أو المشاركة في استعراضات أمام أنظار المسؤولين الترابيين والمنتخبين. ظروف المشاركة تكون أحيانا قاسية، تفترض انتظارا طويلا تحت أشعة الشمس الحارقة. غير أن الأفظع أن مشاركة هؤلاء الأطفال لا تكون واعية في غالب الأحيان. الأطفال بطبعهم يصعب أن يعقلوا أمورا تدخل في نطاق السياسة، كما يصعب عليهم حتى التقاط الحس الوطني الذي يبقى سلوكا واعيا بالضرورة. استغلال الأطفال في حملات دعائية سياسية أو خلال الانتخابات وغيرها، سلوك دارج داخل المجتمع المغربي، غير أن ظهور وسائل التواصل الاجتماعي بدأت تسلط الضوء، ولو بشكل ضمني وغير مباشر، على هذه القضية. تجلى ذلك في ما عرف، منذ شهور، بحملة «شوفوني»، وهي مبادرة على موقع «الفايسبوك» أساسا يقوم عبرها ناشطون «فايسبوكيون» بانتقاد صور تظهر سياسيين في مشاهد يصفونها بكونها استغلالا لأشخاص أو ظروف وحيثيات معينة، للترويج لصورهم السياسية. بين الصور التي فجرت الحملة المذكورة صورة ملتقطة للطيفة الزيوانية، البرلمانية وكاتبة فرع الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بآسفي، وهي تسلم علبة «ياغورت» لامرأة وابنتها الصغيرة، واللتين تظهر عليهما آثار البؤس، لتنطلق موجة ردود اعتبرت أن البرلمانية استغلت المرأة وطفلتها القاصر في الترويج لنفسها سياسيا، بشكل حاط بكرامة المرأة وابنتها. وفي ردها على الحملة التي أعقبت نشر صورتها، قالت البرلمانية المذكورة إن شخصا ما قرصن حسابها على «الفايسبوك» ووضع الصور التي أثارت الانتقادات، بغرض تصفية حسابات سياسية معها. بعد ذلك بأيام، ظهرت صور أخرى لسياسيين في مشاهد مماثلة، بينهم لحسن الداودي، القيادي في حزب العدالة والتنمية ووزير التعليم العالي، والذي يظهر وسط أشخاص، بينهم أطفال، تبدو عليهم علامات فقر، يجلسون على قارعة الطريق، ويتحدث معهم الوزير الذي تخلص من ربطة عنقه ولباسه الرسمي حينها. قد يحدث أن تكون تلك الجلسة عادية بالفعل، وأن الداودي لم يتعمد التكلف واستغلال صورة مجالسة فقراء بالشارع سياسيا، لكن ما يخلق مشكلا هو ظهور أطفال بالصورة، وهو ما يعتبر استغلالا لهم مرتبطا بكون نشر صورهم يستوجب إعمال ضوابط عديدة.
الأطفال كأوراق انتخابية المشهد التالي حدث العام الماضي بأحد مقاطعات الدارالبيضاء: برلماني يتصل بقائد المقاطعة الذي منع حفل ختان لعدد من أطفال المقاطعة بالمجان. الحفل كان منظما من طرف فرع البرلماني بالمقاطعة. اعتراض القائد كان بسبب عدم الإدلاء بموافقة من مندوب وزارة الصحة لتنظيم عملية الختان الجماعي، لأنه قد تترتب عنها مشكلة حقيقية. البرلماني تدخل لإقناع القائد بأن كل شيء سيسير على ما يرام وأن الأطباء، الذين استقدموا من مستشفيات عمومية مقابل مبالغ مالية، يسهرون على فحص الأطفال قبل ختانهم تفاديا لأي عارض صحي. انطلقت العملية ومعها أصوات التقاط صور للحدث، حيث يظهر سياسيون محليون وهم يسلمون الأطفال المختونين ملابس وهدايا بعد إعذارهم. المريب هو أنه لم يعترض أحد على استغلال صور هؤلاء الأطفال، بقدر الاعتراض على إجراء إداري داعيه خوف من وقوع مصيبة غير متوقعة. مثل هذه العملية تنظم بشكل مستمر في جميع الدوائر الانتخابية بالمغرب، حيث يبادر برلمانيون ومنتخبون إلى استمالة أسر معوزة بتقديم معونات لأبنائهم أو المساعدة على ختانهم وتحمل مصاريف هذه العمليات. مجال آخر يتهافت عليه منتخبون بعدة مقاطعات وجماعات، هو توفير ظروف تخييم الأطفال خلال الصيف. مساعدة جمعيات على تحمل مصاريف نقل أطفال إلى مخيمات، هو أكبر ورقة لاستمالة آبائهم باعتبارهم كتلة ناخبة، هذا ما يكشفه حديث لفاعل جمعوي نظم مخيمات صيفية بالبيضاء الصيف الماضي، بقوله: «جرت الترتيبات جيدا. اخترنا نحو 40 طفلا من أبناء المقاطعة للمشاركة. في آخر لحظة لم نتمكن من الحصول على وسيلة نقل. اتصلت برئيس الجماعة لتوفير حافلة الجماعة. لم يكن يجيب. اتصلت مباشرة بعد ذلك بمنتخب في المعارضة، والذي تدخل لتوفير الحافلة. وفي غمرة تدخله علم رئيس الجماعة بالأمر وسعى هو أيضا إلى تلبية طلبي، لأنه يعلم أن نجاح منافسه في تدبير حافلة تقل الأطفال إلى المخيم، هو أفضل طريقة لإقناع نحو 200 شخص من أقاربهم وجيرانهم بالتصويت عليهم في الانتخابات المقبلة، علما أنهم لم يقوموا سوى بتوفير وسيلة نقل مملوكة للدولة».
الأعمال بالنيات لكن، أليس اعتبار مساعدة منتخب لأطفال استغلالا سياسيا لهم أمرا مبالغا فيه؟ ألا يمكن اعتبار الأمر تصرفا ينم عن حس اجتماعي وتواصلي؟ عبد العالي الرامي، رئيس جمعية منتدى الطفولة، يعترض على هذا الطرح، معتبرا أن أي استغلال لصورة الأطفال في عمل اجتماعي، هو استعمال سياسي لهم بغرض تحقيق غايات انتخابية. «يمكن للفاعلين الجمعويين تنظيم عمليات اجتماعية وتوزيع مساعدات على الأطفال، لأن هدفهم محدد، وفق ما هو مفترض، في الإطار الجمعوي، لكن أن يبادر السياسيون إلى ذلك فحينها تظهر شبهة استغلال المساعدات لغايات سياسية. ينضاف إلى ذلك تكبيد الأطفال، في بعض الأحيان، عناء الجلوس في قاعة مكدسة وتشهد درجات حرارة مرتفعة، للاستماع إلى خطابات سياسية لا يفقهون فيها شيئا ولا علاقة لهم بها»، يقول الرامي. ويكشف الرامي أيضا أن استغلال السياسيين للعمل الجمعوي الموجه لخدمة الأطفال، أمر مرفوض، ذاكرا: «هناك جمعيات يسيرها سياسيون، وهذه الجمعيات تتلقى دعما عموميا من أجل تقديم خدمات اجتماعية أو ثقافية أو رياضية للأطفال. الأمر يفتح الباب أمام استغلال هذا الموقع سياسيا، كما أن وجود سياسيين متعارضين على رأس هيآت جمعوية يؤدي إلى وجود اضطراب في تسيير هذه الجمعيات». هذه الأمور وغيرها تحدث في ظل عدم وجود نص قانوني يحدد حدود حضور الأطفال في العملية السياسية أو الانتخابية. وحتى القوانين الدولية الضابطة لحقوق الطفل لا تنص، بشكل صريح، على حرمة استغلال الأطفال سياسيا، في وقت تنذر الأجواء السابقة للانتخابات المقبلة باستمرار الظاهرة وعلى نحو أشد.
بنصفية: «التوظيف السياسي لصور القاصرين تشييء للأطفال واعتداء أخلاقي على حقوقهم» * يظهر سياسيون ومنتخبون في صور إلى جانب أطفال خلال حملات انتخابية، أو فعاليات لها ارتباط بمجال نشاطهم السياسي والحزبي، مثلا، من خلال تقديم مساعدات، مدرسية أو طبية.. ألا يمكن اعتبار هذا الظهور وبهذا الشكل استغلالا للأطفال في الدعاية السياسية؟ من حيث المبدأ، يعتبر إشراك الأطفال بشكل مؤطر في تظاهرات سياسية أو حزبية، تقنية بيداغوجية للتربية على المواطنة، على أساس أن يكون سنهم يسمح بذلك، وليس في هذا أي استغلال لهم. لكن منح مساعدات لمحتاجين، بالأخص الأطفال، وعرضها إعلاميا، هي لحظات مؤثرة وقد تكون أحيانا محرجة. صورة الطفل الموثقة الذي يتلقى مساعدة اجتماعية، ستذكره طوال حياته بأنه كان محتاجا، وقد لا يشرفه الأمر، خاصة حينما يكبر ويتغير وضعه ولن يرضى عن تلك الصورة ولا اللحظة رغم فرحه البريء حينها. ستذكره كذلك بأن الشخصيات السياسية أو الحزبية أو الإدارية التي منحته إياها، كان أحرى بهم أن يجتهدوا في توفير حقوقه وحاجياته عوض التشهير بعوزه إعلاميا. منح المساعدات التي تندرج ضمن الحقوق الأساسية للأطفال، ليس إنجازا سياسيا ولا حزبيا. والتغطية الإعلامية لمثل هذه التظاهرات هي تواطؤ لا غير، وهو أمر بعيد عن الدور التنشيئي الذي من المفروض أن يلعبه الإعلام. * من خلال ميكانيزمات التواصل السياسي، ما الذي يتيح لصورة السياسي مع أطفال أن تكون ناجعة سياسيا وذات «فوائد» إن صح القول؟ التواصل السياسي هو فعل مركب يتضمن تدبير للخطاب وللصورة الذاتية والرموز الثقافية والمجتمعية لصالح الشخصية أو المؤسسة السياسية. وتوظيف الصور مع الأطفال يندرج ضمن البحث عن صورة رمزية تدعم المكانة الاعتبارية والحظوة المجتمعية لتوظف بدورها في الخطاب السياسي. فنشر صور رفقة الأطفال هو تداول لخطاب رمزي مفاده: القرب من هذه الفئة، العناية والاهتمام بها، استحضار القيم الإنسانية والعاطفية (الحنان، الأمومة، الأبوة).. وبطريقة غير مباشرة قد يكون البحث عن اكتساب عطف الجمعيات والمنظمات المعنية بالطفولة. التواصل السياسي هو كذلك تواصل بالشيء ((par artefact، حينما يختار السياسي لباسا أو يحمل شارة معينة.. فالتمادي في التوظيف السياسي لصور القاصرين هو تشييء للأطفال، وهو اعتداء أخلاقي على حقوقهم، وهو يضر بصورة السياسي كثيرا. * في الآونة الأخيرة انتشرت صور لفاعلين سياسيين يظهرون في لحظات عائلية خاصة، إلى جانب أطفال من عائلاتهم أحيانا، ألا يعتبر ذلك استغلالا أيضا للأطفال بغرض تحقيق أهداف دعائية؟ وهل هناك إطار يضبط استغلال الأطفال؟ من حيث المبدأ الأخلاقي، يفترض دائما عرض صور الأطفال القاصرين إعلاميا بموافقة الآباء أو أولياء أمورهم، ثم موافقة الأطفال إذا كانوا في سن قد يمكنهم من فهم الغرض من ذلك، وأحيانا بالرغم من الموافقة وإذا كانت الصورة ستضر بالطفل لا يجب عرضها، أو استعمال تقنيات الحجب المتداولة في وسائل الإعلام المتمسكة بأخلاقيات المهنة. صور الشخصيات السياسية مع أبنائهم أخذت ونشرت في مواضع شخصية، ويجب التعامل معها في إطار احترام الحياة الخاصة، لأنها ليست حدثا إعلاميا يجب فرضه بالقوة على الرأي العام وتحميله من التعليقات والتأويلات أكثر مما يتحمل. الشخصيات العمومية لها الحق في أن تظهر في مواقف إنسانية، وهذا شيء مستحب تتيحه التكنولوجيا الحديثة وثقافة العصر. أما العيب فهو حينما تصبح هذه المواقف المصورة المتداولة شهادات يستند إليها لتأكيد أو دحض الاختيارات والعمل السياسي لهذا أو ذاك. وعلى الإعلام أن يوجه الرأي العام إلى ما يرتقي به من عمل لصالحه، دون الاهتمام ب«مقاهي ومطاعم» المسؤولين التي لن تنفع في شيء في تقييم أداء هؤلاء.