الطريق إلى الذاكرة مستعص و محفوف بالمخاطر ! ما إن تشرئب الرغبة من أقصى الدواخل إلى اقتفاء معالمه ، حتى تقرع طبول التمنع ، و تصطف متاريس التوزع بين الحلم والحسرة ! ملامح و أمكنة و أزمنة تضيع كل يوم في زحمة الحياة .. إنها الأبواب الحقيقية لكل مدينة .. وهذا نزر من أبواب مدينتي منذ تعرفت إليها وصادقتها فأحببتها !! معمار : في تلك السنوات البعيدة ، كان مصدر معظم أبنية المدينة واحدا ، تراب أحمر تنقله عربات خشبية ، ذات عجلات ضخمة ، من حفرة سحيقة اشتهرت باسم الكريان ، اختص في العمل بها الكادحون من أهالي حارتي : بوعشوش و الصومعة ... لكم أزهقت الانهيارات من أرواح أثناء عمليات الحفر ! يشغل الأبناء مكان الآباء .. و لا يتوقف الحفر !! مدارس : ( سكويلت سي مصطفى ) أول مدرسة بالمدينة ، موقعها بشارع الحنصالي ، قبالة زنقة الجمعة . تلتها مدرسة خريوعة ، فمدرسة اليهود ... و موحى و حمو أول ثانوية كانت تدرس بها العلوم الزراعية ، و بعدها ابن سينا التي حلت محل أول ملعب لكرة القدم بالمدينة ، و الذي كان بدوره في وقت ما موقعا لكتيبة الشرف الفرنسية " لالجيون "، المعروفة ببطشها في إخماد المظاهرات و الانتفاضات ضد المعمر... سينما : (فوكس) أول قاعة سينمائية محل (باطا) اليوم.. كانت أغنية فريد الأطرش إيذانا بقرب إطفاء الأضواء ، فترى "حسن" متعجلا في إقفال النوافذ بعمود خشبي طويل .. تشرع الحصة بالأنباء التي تلخص أخبار الأسبوع السياسية في الوطن ، و الأنشطة الملكية من زيارات و استقبالات و تدشينات ... يعقبها الفيلم المطول ، كل العروض بالأبيض و الأسود طبعا !! سعادة الأهالي لا تقاوم حين تعرض شركتا بيبسي و لوسيور أفلاما في الهواء الطلق ، على جدار قرب سيدي عبد الحليم !! الجمهور الغفير يقتعد التراب !! فاغر الأفواه وعيونه متسمرة على الجدار فيما يشبه المس!! ومن حين لآخر تتعالى صيحات و زغاريد الإعجاب مدوية !! زنقة العطارة : ينسل زقاق التفافي ، مثل متاهة بابلية ، من ساحة العطارين عبر درج صغير في اتجاه المارشي ، كان هذا الزقاق دؤوب الحركة ، لأن به تنشط واحدة من أعرق المهن في التاريخ ، ألا و هي تجارة بيع الهوى !! فهو عبارة عن بورديل يعج بمئات المومسات ، بمختلف الألوان و الأعمار و اللهجات !!! عادة : دأبت العادة في المدينة على أن يحتفل الأهالي بطقس (الناقة و العتروس وموحى و النمر) من حيث لا يذكرون ، تنطلق الاحتفالات خلال الأسبوع الثاني لعيد الأضحى ، على شاكلة ألعاب التنين الأسيوية ! فرقة الرمى التي تسير في الخلف ، تردد أهازيج شعبية في إيقاعات جميلة من قبيل : حاي حاي يا ذاك النمر **** بوعصية سيدي عمر حاي حاي يا ذاك النمر **** بونياب مخبل الشفر حاي حاي ياذاك النمر **** مهول القصبة والدشر هذه المرة أخطأ خالي " عطوش " ، المتنكر في لباس النمر، الطريق إلى باب " آيت حنيني " ، و دلف إلى زريبة النحل المغطاة بأكوام صغيرة من السدر.. لأنه كان قليل البصر !! جرى في الممرات بشجاعة نمر حقيقي !! و نبش في الجرار التي يتخذ منها النحل مسكنا ، دون أن يدري ، بالعصيتين اللتين يتوكأ عليهما مثل بهلوان حاذق !! أقلعت الأسراب السوداء بكثافة ترد على الاعتداء بغارات موجعة .. ولم يجد الدخلاء بدا من إطلاق العنان لسيقانهم في سباق مع الريح طلبا للنجاة !! بعد أن هدأت العاصفة بحثوا طويلا عن خالي " عطوش " ، و بعد لأي عثروا عليه سجينا بأحد مخازن الزرع الأرضية !! كان وجهه منتفخا مثل كتلة عجين جراء ما تلقاه من لسعات ، واليوم قائظ !!! صاحب الشاة : حمدان جزار من رواد الذبيحة السرية !! مختص في بيع لحوم الشياه الهرمة !! يرتاد الأسواق الأسبوعية في المنطقة ، ممتطيا دراجة هوائية سوريالية !! بلا أضواء و لا فرامل و لا واقيات ... دواستاها قضيبان ركزا في موضعهما باللحام !! و السرج جلد شاة محشو بالتبن !! إنها بحق تحفة ناذرة يصلح عرضها بأحد المتاحف تعميما للمتعة والفائدة !! ذات إثنين عزم صاحبنا على الفوز بالمناقصة ، دخن قنبا هنديا خالصا ، و خرج من بيته قبيل الفجر قاصدا سوق تادلة ، لما بلغ مشارف المدينة ارتأى أن ينام قليلا في انتظار أن يسفر الصبح ... مع خيوط الضوء الأولى تراءى له المكان غريبا ! حيث لا أثر "للتعريجة " خزان الماء ! ولا لأسوار "بودراع" التاريخية ، المحادية لوادي أم الربيع ! كانت دهشته كبيرة و حسرته أكبر حينما علم أنه عبر تادلة ليلا دون وعي منه !! و هو الآن على مشارف أبي الجعد !!! و بذلك ضاعت عليه فرصة الفوز بالمناقصة !!! كم من مرة تساءلت مع نفسي : من أين له القدرة و الحيلة على قطع عشرات الكيلومترات حاملا شاة على دراجة حمقاء ؟!! تجارة : " شظمون " تاجر بغال ناجح أبا عن جد !! يساعده في تجارته أبناؤه الأشداء ... يشتري البغال العنيدة و المتوحشة و المجنونة و المشكوك في أمرها !! و المسجلة في اللوائح السوداء لارتكابها جرائم خطيرة في حق مالكيها !! قد تصل حدود القتل العمد !!! وتتراوح أدوات الجريمة لديها بين الركلات السريعة و القوية ، و القواضم الحادة !! لا يتوانى في إحكام تكبيل قوائمها الأربع بأغلال حديدية تصلح للفيلة !! ويخصها بحمام بارد من ساقية منحدرة من عين أسردون ، ويقص شعرها بمهارة فائقة !! وفي الهزيع قبيل نقلها إلى أحد الأسواق الأسبوعية ، يحولها إلى بغال طيعة و كيسة .. وذلك بصب لترين من الخمور الرخيصة في جوفها !!! و لنا أن نتخيل حال المشترين المغفلين ، بعد أن يزول عنها أثر المفعول ، وتؤوب إلى شيطنتها و حماقاتها وعصيانها ، على سبيل المثل السائر : عادت حليمة إلى عادتها القديمة !!! رقص : يرتدي " ولد المهاوشة " التحتية و الدفينة و الحزام و الشمار ! ويتزين بالكحل و السواك و مرهم تلك العلبة الحديدية الصغيرة دائرية الشكل .. التي يتحتم ضربها أرضا بقوة لفتحها !!! ينقر كعادته على التعريجة بإحكام ، و تصدح حنجرته بأهازيج عذبة ، يردفها برقص بديع !! ما نعجن ما نجيب خميرة **** حتى يجي حبيبي ويجيب كوميرا !! بطل تراجيدي : يعبر " حماقة " المدينة من شرقها إلى غربها ، و من غربها إلى شرقها ، بجسده المختزل !! كل شيء فيه صغير !! عيناه بين الخضرة و الزرقة .. كان همه طوال النهار ربط خيطين أحدهما بالآخر دون توقف !! من وقت لآخر يمد أحد الأشقياء قدمه لعرقلته ، يكبو .. ثم ينهض ويتابع مسيره .. وكأن لا شيء بمقدوره أن يوقف رحلته مع خيوطه !!! أولاد الحرام : مرة في اليوم ، في الشتاء كما في الصيف ، يجوب " بالالا " حارات المدينة وأزقتها .. يتوقف أمام قصر البلدية ، و يصيح بأعلى صوته هما ..هما..خوانين الدقيق من البلدية !! يا أولاد الحرام للي كال الخالص يخلص !! ) ، ثم ينصرف بعد اقتناعه أن رسالته قد وصلت !! صفارة : تحكم "حادة" وتاق صرة كبيرة على ظهرها ، تحمل علما وصورة الراحل محمد الخامس ، و تعض بفمها الأفرم على صفارة تكسر بها هدوء الأحياء التي تسلكها ... تصرخ في وجه كل فتاة تصادفها في طريقها تلبس بنطلونا : (هل لك جهاز تناسلي ذكري يليق بهذا السروال ؟!!) تجذر : لا تبرح قنينة "كوكا" الفارغة يد "عباد" ، جيئة و ذهابا من بيته إلى مقهى "الستيام" ، يجن جنونه إذا سمع من أحدهم يناديه : (يا عباد اخوي البلاد ! ) ، وفي تحد شامت لا يتردد في دعوة غريمه إلى العودة إلى بيته ، والبحث تحت وسادة أمه ، ليعثر على الثمن الذي دفعه مقابل مضاجعته لها !! و لكن سرعان ما تتعالى أصوات منادين جدد ، يتسمرون في مداخل الأزقة متأهبين للفرار من جحيمه !! ( يا عباد اخوي البلاد ! ) إدمان : "عضيضة" مقامر خاسر على الدوام ! يشد بفكيه على ما يملك من قطع نقدية صفراء وبيضاء ! لا تنمحي الخدوش و الكدمات من وجهه حتى تحل محلها أخرى .. بسبب نوبة الصرع التي تمرغه بلا هوادة ، قبل أن يخلصه أحدهم بوضع مفاتيح مجلجلة بين يديه !! را .. را .. (بتشديد الراء !) حسن صاحب الألف حكاية وحكاية ! حمال قصير القامة ، ينقل البضائع و الأمتعة على حماره المعافى ، له صوت رقيق مثل صوت امرأة !! الزبون : يا حسن ، أتقل لي كيس دقيق إلى حارة بوعشوش ؟! حسن : بكم ؟! الزبون : بدرهمين !! حسن : ( يتجاهل عرض صاحبه ، و يأمر حماره بالمسيرقائلا : را .. را .. !!! صلف : فوجئ " با رحال " الجالس القرفصاء في بهو بيت التابوت المتهالك بدخول ابنه المدمن على العطالة المتعمدة و العقوق ، بمعية زوار غرباء . الأب : من هؤلاء ؟! و ماذا يريدون ؟! الابن : هؤلاء ، أريد أن أبيعهم نصيبي من إرث والدي في الحياة !!! زيارة : "سي عباس" أحد حفدة الولي الصالح (...) ، متربع في مفترق الطرق ، تحت شجرة توت هرمة ، ينفث الدخان من غليونه ، و يحتسي قهوة باردة ... دون أن يتجشم الالتفات لاستطلاع القادم ، يختلس النظر إلى الطريق الترابية خلفه ، من خلال المرايا الصغيرة التي يزين بها الغليون ! و يأمر صغيره المنشغل بصنع مزمار قصبي ، بأن يتعجل في لقاء الزائرة ذات الجلباب الأحمر ، ليتسلم منها هديتها للولي ، التي هي عبارة عن دجاجة سوداء !!! عرض مغر : خاطب عربيد المدينة " التريس " ندماءه قائلا : من يرغب منكم في الزواج بأختي " الصالحة " فهي له ، ولكن عليه أن يستبدل رأسها برأس آدمية .