عندما تتحول الفجيعة إلى أغنيةٍ فيروزية يفتتح الفيلم القصير(سيناريو) لمخرجه السوري (قصيّ خولي) بصورةٍ مُضبّبة(flou), حالما تنكشف مع حركة كاميرا مدروسةٍ بعنايةٍ فائقة, تتحول من زقاقٍ ضيقٍ يتوسطه مجرى مياه, وترتفع, زاحفةً فوق ماسورة, وأسلاكاً متنوعة, حتى تصل إلى شباكٍ مغلقٍ بمُحاذاة آخر مفتوح, تدخله, وتتفحص أرجاء صالةٍ, وديكورٍ يكشف عن تفاصيل مُوحية(صورٌ معلقةٌ على الحائط, عصفورٌ في قفص,..). من باب غرفةٍ, إلى بهوٍّ, إلى مطبخٍ,.. تنتقل الكاميرا إلى الطرف الآخر, شابٌ يحتمي بملابس سوداء ثقيلة, يجلس قبالة مكتبه, يضع قرصاً من المُقوّيات في كأس ماء, يُرتب صورةً أمامه, يدخن سيجارةً, ويستمع إلى الرسائل في جهاز تسجيل المكالمات الهاتفية. هانحن نشاهد فيلماً لمخرج يحتفي بشريط الصوت, ويمنحه أهميةً قصوى, متضافراً مع لقطاتٍ كبيرة غالبة على مشهدٍ افتتاحيّ تشويقيٍّ إلى حدّ بعيد, لقد بدأ بمياه المجاري في الزقاق الضيق, وعندما تحولت الكاميرا, وصعدت نحو النافذة, منح مكانه لأغنيةٍ فيروزية, وزقزقة العصفور في قفصه, وفي الغرفة, تخير مؤثراتٍ بعينها(ذوبان قرص الفيتامين في الكأس, إشعال سيجارته, وبداية احتراق مكوناتها, الرسائل الصوتية), وضخمّها كمُعادلٍ صوتيّ لتلك اللقطات الكبيرة . مونتاجياً, لم تتأخر الصورة كثيراً عند جهاز التسجيل, مازلنا نسمع بقية الرسالة الصوتية, بينما تكمل الكاميرا مسحها لتفاصيل المكان, وتتباطئ في إظهار وجه الشاب, ويتغاضى بدوره عن وظيفتها التلصصيّة حتى النهاية, ربما يكون (فيلم) الذي أخرجه (صمويل بيكيت, وآلان شنايدر) عام 1964, ومثله (باستر كيتون) أفضل استحضارٍ مرجعيّ لتلك البداية, والفيلم بشكلٍ عام, بأجوائه الجنائزية, وليس من قبيّل الصدفة أن يكون عنوان الأول(سيناريو), والثاني (فيلم) مستوحيان من مرجعيةٍ أدبية, وتقنية للسينما نفسها. وبينما يبدأ (فيلم) بيكيت خارجياً, بكلّ المعاني, من ظلالٍ شبحيةٍ لرجلٍ خمسينيّ يهيم على وجهه في شوارع حيّ متهدم, قبل أن يلجأ إلى غرفته الضيقة, وفيها يتحاشى أيّ نظراتٍ بشرية, أو حيوانية, وحتى الرسومات المُعلقة على الحائط, والمرايا, ويحاول ما أُمكن الاختفاء تماماً في غرفته/تابوته. يبدأ(سيناريو) داخلياً, من الغرفة إلى الشارع , يتجنب الشاب بدوره النظر إلى جيرانه, ومعارفه من أهالي الحيّ الذين يصرّون على تذكيره بوجوده في هذا العالم. هل اختفى مرةً, وعاد إلى الحياة من جديد, أم هي نظرات تحذيرية لنهاية مقررة في (السيناريو) الذي تركه فوق المكتب في غرفته ؟. بدون أيّ حوار, ومن خلال الرسائل الصوتية فقط, نفهم بأنه كاتب سيناريو, ويعمل في الحقل السينمائيّ. وماعدا المشهد الخارجي الوحيد ل(فيلم) بيكيت, يمكن اعتبار باقي المشاهد (افلمةً) ل(مسرحية), وليس ذلك غريباً عن كاتب (في انتظار غودو), بينما لا نبالغ إذا اعتبرنا(سيناريو) بمثابة (فيلمٍ) يتمّ تصويره داخل (الفيلم) الذي نراه مُتجسداً على الشاشة, أو بالأحرى (سيناريو) داخل(الفيلم), حتى ولو غابت عن الصورة كلّ المظاهر العملية(والتقنية) المُوحية بذلك, ولكن, يكفي بأن طريقة التصوير المُتعمّدة تُشعر المتفرج بالحضور الطاغي للكاميرا, وكأنها روحٌ ما متخفية داخل عدستها, وهي تتابع بعنادٍ اللحظات الأخيرة من نهاية (سيناريو). في لقطةٍ كبيرة, يهبط الشاب درجات البيت, ويستمر المخرج اهتماماً بشريط الصوت : وقع الأقدام, صرير فتح الباب, وانغلاقه, متضافرةً مع موسيقى تترقب . لقطةٌ علويةٌ تظهره في ملابس سوداء, وكأنه شبحٌ, أو مصاص دماء يخرج من تابوته(نهاراً) ليبحث عن ضحاياه, ولكننا, سوف نفاجئ, فيما بعد, بأنه هو الضحية نفسها. ما هو أكثر إثارةً في تلك اللقطة, تزامن خروج طفلٍ من بابٍ آخر, والوقوف ثوانٍ لتحيته بودٍ فائق. صباح الخير عمو... إذاً, هو شخصيةٌ لطيفةٌ, طيبةٌ, وحساسةٌ, ..وليسَ هناك ما يُثير الشكّ, أو الفزع, يوحي لنا الطفل, وجملته الصغيرة مثله, بأن كلّ شئ عاديّ, الشاب ليس شبحاً, وهو مرئيّ لنا, ولشخصيات السيناريو, وفي مبادرةٍ سينمائية مبتكرة (في الأفلام السورية القصيرة على الأقل), يستدير الطفل نحو الشاب المُتمهل خلفه, وتختفي الكثير من ألوان الصورة, وتتحول إلى رماديةٍ داكنة, تقنيةٌ يتباهى المونتاج الرقميّ بتحقيقها, وتوحي افتراضاتها الدرامية باختلاط الأزمنة, بالوهم, أو التوّهم, بالأزمات الوجودية, والنفسية, بالانعزال عن الواقع,.. جمالياً, تتحوّل إلى أشكالٍ تجريدية لمساحاتٍ لونية, وتُبعدنا عن كل ما هو جسديّ, وتجسيديّ(corporel), وتنسينا الواقع الحقيقي, وتلجّ بنا في عالمٍ آخر, افتراضيّ, أو روحيّ... منذ اللحظات الأولى ل(سيناريو), تتناوب الكاميرا دوريّن يتشابهان في الأسلوب, وجهة النظر الذاتية للشاب في علاقته مع العالم الماديّ المُحيط به, والنظرة المُتلصصة للكاميرا التي اقتحمت عالمه الداخلي, والخارجي. هل من الضروريّ التذكير بأنها في بداية الفيلم عبرت بهدوءٍ الزقاق الضيق, وتعلقت بماسورةٍ, وتسللت من الشباك ؟ ويبدو بأنها تلاحق(وسوف تلاحق) الشاب من دون رغبته, وهو يهرب من عدستها, ولكنها عنيدةٌ, مُفاجئةٌ, وقدرية, ففي الوقت الذي تسيطر ضربات وقع أقدامه على شريط الصوت, تختبئ الكاميرا خلف حائط مدخل الزقاق, وفي لحظةٍ ما تتحرك يساراً لتباغته, كي نشاهد وجهه لأول مرة, وتستمر الكاميرا معه في لقطةٍ كبيرة, ويبدو بأن مؤثرات وقع قدميه سوف تصبح جزءاً من الموسيقى المُترقبة. ليس بعيداً عن البيت, يصل إلى كشكٍ صغير, وبطريقةٍ روتينية يقدم له صاحبه جريدته اليومية: جريدتك أستاذ.. هذه إشارةٌ أخرى بأنه مرئيّ من كلّ الشخصيات في الفيلم. والكاميرا الذاتية, عيناه, تبحثان, لم ينسى قطع الحلوى التي طلبها ابن أخته في رسالته الصوتية, فيلتقط بعضاً منها. وعلى الرغم من اللقطات الكبيرة, والمتوسطة الغالبة على المشاهد السابقة, والتي تؤطر الشخصية أكثر من المكان, يظهر بوضوحٍ بأننا في حيّ شعبي, تتكرر اللقطات الكبيرة لقدميّ الشاب, وهي تتناوب صعوداً, وهبوطاً بطريقةٍ عسكرية فوق إسفلت الشارع, ومن ثم في طريق ترابية, حيث يلتقي بعابرٍ ينظر إليه, وتتباطئ الصورة حتى تثبت, وتتحول إلى لقطةٍ مرسومة بألوانً رمادية, ومن ثم تعود إلى حالتها الطبيعية,.. في الانتقال من مشهدٍ إلى آخر, يتخيّر المونتاج الاختفاء, والظهور التدريجييّن, ويتعمّد إبقاء الصورة مُضببة(flou) لفترةٍ أطول من المُعتاد, تُزيد من حالة حدوث طارئٍ مفاجئ. يتكرر استخدام ال(flou) لأكثر من مرة, ويبدو بأن عملية إخفاء الصورة لمعالمها عن طريق تغيّير بؤرة العدسة أصبحت مفردةً سينمائية مفضلة للانتقال من لقطةٍ إلى أخرى, ومن مكانٍ إلى آخر, وحتى من عمق الصورة نحو مقدمتها, كما حركة الكاميرا البطيئة, والقطع المُفاجئ في بعضها, وتناوب الكاميرا الذاتية, مع أخرى مُتلصصة تلاحقه من المكتبة, إلى سوق العصافير, والطيور ...وموسيقى تغلف الأحداث. في السوق, ومن خلال لقطاتٍ تسجيلية, تتوقف الكاميرا عند أكثر من شخص. يشتري برتقالاً, يصعد في حافلة عموميةٍ صغيرة, وتثبت الصورة حتى في إطفاء السيجارة, لقد أفرط المونتاج بتثبيت الصورة, وبدأت تُحاذي خطورة تآلف المتفرج معها إلى حدّ الضجر منها. داخل الحافلة الضيقة, يجلس أمام فتاة, يبتسم لأول مرة, تبادله ابتسامته. مازالت الموسيقى تختلط, وحركة المرور في الشارع, فجأةً, تقترب حافلة أخرى, ويأتي تحذير أحد الركاب متأخراً كثيراً, لقد وقع الاصطدام بين السيارتين. شاشةٌ سوداء, مفردةٌ سينمائية, الموت واحدةٌ من إيحاءاتها المضمونية, يستخدمها (قصيّ خولي) استعارةً, ورمزاً, كي يتخلص من أجواء الفجيعة المُعتادة في حالات مماثلة أكثر مشهدية, وكي تزداد البلاغة الشعرية للبناء السينمائي, صورةً, وصوتاً. السيارة مُنقلبة, تهتز حبات البرتقال فوق أرضيتها المُتأرجحة, وهي الاستعارة الرمزية لكلّ ما هو فلسطينيّ, ولا أدري إن كان الشاب فلسطينياً؟. ولكن, مهما يكن, تُحيل تلك الإيحاءات المُتكررة إلى مخزونٍ بصريّ يستمدّ مرجعياته من أفلام دول أوروبا الشرقية سابقاً, وخاصةً تاركوفسكي, وبارادجانوف,..وهي مستوحاة عادة من الطبيعة التي تغلف أحداث تلك الأفلام, وتمنحها تسامياً شعرياً يتخطى عادية الواقع المٌعاش. يسترخي جسد الشاب فوق الإسفلت الذي كان يتحداه منذ قليل بضربات حذائه, وتتأرجح اللحظات الأخيرة من حياته ما بين الحلم, والواقع, أسلوب شعريّ يبتعد السيناريو من خلاله عن ميلودرامية الحدث, ويقترب به إلى عالم الفانتازيا, وربما تكون هذه القراءة الأكثر توافقاً مع ذلك المشهد. ومن بين الوجوه الفضولية, والمرعوبة, يتخيّر الفيلم واحداً للفتاة تنظر بعطفٍ, ومودة إلى الشاب الذي لا يمتلك في هذه اللحظات غير ملامح ابتسامة متبادلة معها, وكأنهما على اتفاق ضمنيّ بأن ما حدث ليس أكثر من حلمٍ, أو خيالاتٍ, أو رؤى إخراجية, أو(سيناريو) متفق عليه مسبقاً. لقد أصبح الحدث, كما المشاعر المُتبادلة, كما الموسيقى, كما المُؤثرات الصوتية لحركة المرور في الشارع,... مبهمة, بدون أن يقع الفيلم في فخ الغموض. وعندما يشير الشاب بيده إلى الفتاة التي تتطلع إليه مبتسمةًً, وتزيل خصلات شعرها, فإننا نتساءل : هل هي نهاية حياةٍ, أم بدايتها ؟ وعندما تصعد روحه إلى السماء, تصورهما الكاميرا من الأعلى(مفردةٌ سينمائيةٌ متعارفٌ عليها في السينما), وتمطر السماء بتول ورودٍ حمراء. وتؤطر الكاميرا وجه الشاب في لقطةٍ كبيرة لإحدى عينيه, ترتسم فيها ملامح الفتاة/الوردة, إنها آخر صورة احتفظت بها ذاكرته البصرية, وآخر فعلً ينشده, الحبّ, على عكس ما يقدمه(فيلم) بيكيت, وآلان شنايدر, حيث يهرب الرجل الخمسينيّ من أيّ صورة. وجه الفتاة للمرة الأخيرة, تتباطئ عدسة الكاميرا قليلاً, وتغيّر من فتحتها عمداً حتى تصبح ضبابية(flou), وربما يتزامن إغلاق عينا الشاب مع انحسار الصورة تماماً, ليحلّ مكانها شاشة سوداء, الموت. كان يمكن أن ينتهي الفيلم في تلك اللحظة بالذات, ولكن, هناك (سيناريو) مكتوب, ومرسوم بدقة, وإلاّ أصبح موت الشاب اعتيادياً, ومألوفاً. لقطةٌ من الأعلى, تتسارع فيها حركة الشخصيات, والسيارات, وتتباطئ, خللٌ قدريّ في الزمن, والإيقاع, وتستمر الموسيقى الجنائزية الطابع حتى تتحول الألوان إلى الأزرق, هنا يبهرنا (قصي خولي) بدراسته المُسبقة لكل العناصر اللونية, والصوتية لفيلمه الروائي القصير الأول. في لقطةٍ عامة, يضعون جثة الشاب في سيارة الإسعاف, نراها في حالة (flou), يليها شاشةٌ سوداء . عودةٌ إلى الزقاق, حركة الكاميرا من الباب, إلى الصالون, إلى المطبخ, إلى المكتب, كأسٌ فارغة, جهاز التسجيل, منفضة السجائر, علبة الفيتامين, دفتر الملاحظات, كتبٌ, مذياعٌ . يرنّ الهاتف, ابن الأخت يُسجل رسالته : يلا خالو, لا جيت لعنا, ولا جبتلي البون بون, يلا بايّ (يا الله يا خالي, لم تأتِ إلى بيتنا, ولم تُحضر لي قطع الحلوى, حسناً, سلام). تتحرك الكاميرا نحو صورةٍ لم تتضح لنا معالمها في بداية الفيلم عندما وضعها الشاب على مكتبه, إنها صورته يلفها شريط أسود, تثبت, وتتحول ألوانها, تتحرك الكاميرا نحو اليسار قليلاً, في يمينها, الصورة مُضببة, وعلى اليسار عنوان الفيلم (سيناريو). أغنيةٌ فيروزية..... سيناريو, 30 دقيقة إنتاج, تأليف, وإخراج : قصي عميد خولي تمثيل : عيسى ديب تصوير : يزن شربتجي إنتاج عام 2005 صلاح سرميني باريس