كنا نشاهد برنامج "قصة الناس" على قناة ميدي1، والذي ناقش موضوع "الباطل"، صرح أحد الضيوف أنه قصد مقهى الحي ليشاهد مقابلة في كرة القدم، لكن حظه العاثر أتى برجال الأمن الذين اتهموه بالاتجار في المخدرات، اقتادوه إلى المخفر، أنجزوا له محضرا، قدموه إلى الوكيل فحوكم بسبعة أشهر حبسا نافذا... وقضي الأمر الذي فيه تستفتيان... قال والعهدة عليه: "أقسمت للضابط الذي أنجز المحضر أني بريء فأجاب: "ذنوبك على اللي جابوك"، وشكوت حالي للوكيل فقال بدوره: "ذنوبك على اللي دار ليك المحضر"... هكذا إذن؟ كأنهم يقرون بالظلم.. دون تحقيق ولا تدقيق يرمى مواطن في براثن السجن دون أدنى اكتراث بالحقيقة؟ كل يدفع عنه التهمة ويلصقها بآخر، والمواطن يقضي العقوبة وربي كبير... لوهلة، خلت أني في إحدى البلدان الأفريقية التي يقول عنها الإعلام أنها متخلفة.. وهل هناك تخلف أكثر مما نحن نتخبط فيه؟؟ ارتسمت ابتسامة باهتة على شفتي حميد، الذي عاد لتوه من إسبانيا، وقال: هناك، يغادر الناس المقاهي عند الساعة الثانية عشرة ليلا ويعودون مطمئنين إلى بيوتهم، لا تظهر على وجوههم مشاعر الخوف ولا القلق مما هو قادم، ولا يخشون أحدا لأن الأمن حاضر فعلا، يكفي أن تتصل بالرقم الأخضر الموضوع رهن إشارة المواطن لتحضر سيارتان تقلا ن على متنهما رجالا طوالا غلاظا شدادا ضخام البنيات كُلفوا بالحفاظ على أمن الوطن وسلامة المواطن.. لا يجرؤ أحد على المساس بهيبتهم، ولا هم يجرؤون على ظلم أحد.. يسألونك بكل أدب أن تقدم أوراق هويتك، وإن ثبتت في حقك تهمة أو حامت حولك شكوك طلبوا منك بأدب أن ترافقهم.. ولأنك تؤمن بدورهم وتحترم رسالتهم وتعلم يقينا أن لا أحد سيظلمك ولا "باطل" سيرمى عليك، فإنك تمتطي السيارة الضخمة بأدب ودون أدنى ريب أو شعور بالخوف... ربما يحدث ذلك هناك لأن المواطن هناك يستحق ذلك الاحترام؛ أما هنا، "اعطانا الله مخزن على قد نيتنا" ربما... يضيف حميد قائلا: "اتصل أحدهم بالرقم الأخضر وأخبرهم أن هناك كلبا مشردا يحوم حول الطريق السيار وقد يسبب مشاكل، وما هي إلا لحظات قلائل حتى حضرت سيارة وحملت الكلب بعيدا.. وفي حمل الكلب احترام للإنسان ودرء لحادثة ممكنة.. أما هنا، فإن الحادثة تقع، وتسفر عن جرحى، ومع ذلك "خلي الكلب إيموت".. يردف حميد: "ما يحدث هنا قد يكون مخاضا لوضع لبنات وطن للمواطنين؟" قلت له بأسف: "لا يمكن أن يكون الذي يحدث مخاضا لتأسيس وطن، لأن انعدام الإحساس بالأمن لا يمكن أن يعطي مواطنين كاملي الشخصية والمواطنة، واضمحلال الوضع الصحي سيؤول بالضرورة إلى تراجع الصحة العقلية، وتراجع التعليم لن ينتج مواطنين واعين بمسؤولياتهم يحملون مشاريع وهموما بين ثنايا خلاياهم الدماغية.. يعلق حميد بسخرية: "أي دماغ؟ هل تتكلم عن 250 غرام زبدة التي في رؤوسنا؟" ضحكنا بلا حلاوة وتابعنا البرنامج الذي شارف على النهاية. وكان السؤال الذي يدور بخلدي: "هل سيكون هذا البوح مناسبة لرد الاعتبار لهؤلاء أو إعادة محاكمتهم وفتح تحقيقات جديدة حول المواضيع التي اتهموا فيها؟؟ سرعان ما أتى الجواب بأن نصحتهم المدربة النفسانية بضرورة التسامح مع الذات ومع الظالمين لكي تستمر الحياة.... نعم، إنها مساهمة المواطن من أجل بناء الوطن، أن يسامح ويجاهد نفسه من أجل سعادة الأجيال القادمة إن لم يستطع إسعاد نفسه، لكن هل هذا ممكن؟ عندما لا تقوم بواجباتك المدرسية لأنك لم تفهم الدرس، لا يسامحك المعلم، بل يتفنن في تعذيبك كأنك من عتاة المجرمين.. فهل ستسامح؟ عندما تسوق عربتك وترتكب مخالفة، لا يسامحك المراقب مهما كان الخطأ كبيرا أو صغيرا، بل يتوجب عليك دفع الفدية إن أردت تجنب "البروصي".. فهل تسامح؟ عندما تهددك امرأة بأنها سوف تتهمك باغتصابها، تخاف وتحسب ألف حساب قبل أن ترد على تهديدها، لأنك تعلم يقينا أنها لو اتهمتك ستُعتقل، وسيكون عليك إثبات براءتك.. عندها هل يمكنك أن تسامح؟؟ عندما تتعرض لسرقة أو اعتداء بالشارع العمومي، تختار أن تدفن حزنك وتكتم غيظك وتكبت حنقك لأنك ستجد نفسك وحيدا في مواجهة الخطر، فلا غثاء "الرجال" الكثيرين سيدفع عنك الأذى، ولا أنت تثق بمن وضع أمنك على عاتقهم.. بالتالي تتراجع والغصة تخنقك.. فهل تستطيع أن تسامح؟ عندما يتهجم عليك أحدهم في مقر عملك ويعرضك لشتى أنواع الإهانة والسب والوعيد.. فيتدخل الناس ويطلبون منك أن تسامح لأنك أنت "مول العقل"، ترضخ للضغوط رغم أنك بدأت تفقد عقلك فعلا.. في هذه الحالة، هل تستطيع أن تسامح؟؟ أبدا لن تستطيع، لأن فاقد الشيء لا يعطيه؛ ولأن ما يبنى على باطل، فهو باطل... بقلم: محمد ﯕيالي