استوقفني الشعار الذي رفعته شبيبة العدالة والتنمية في حملتها السابعة وحاولت أن ألتمس معانيه وأتتبع آثارها فيما أرى من حولي فاهتديت الى كتابة هذه السطور. "فداك وطني" شعار حملة حول الصحراء المغربية. من يتأمله يجد فيه دعوة لفداء هذا الجزء الغالي من وطننا الحبيب، ودعوة لمواجهة الأطروحات الرامية إلى فصله عن الوطن ولو اقتضى ذلك الموت دونه، ودعوة لتجديد النضال التاريخي وفاء لروح المسيرة الخضراء وقبلها المقاومة الوطنية التي خلدت صورا باهرة في مواجهة الاستعمار وأذنابه. كما يجد فيه دعوة لفداء الوطن كله. وهذا المعنى الأخير يشمل مجموع الوطن بما في ذلك صحرائنا العزيزة. هذه معاني ظاهرة تلوح للمرء بمجرد أن يقرأ أو يسمع " فداك وطني". ومن معاني الفداء - كما في لسان العرب - اذا افتداه خلصه وأنقذه وبذل نفسه له؛ والفداء التعظيم والإكبار. وهذه المعاني تنسحب على كل فعل، هدفه التخليص والإنقاذ للوطن والتضحية والبذل من أجله وفي سبيله أوالتعظيم والإجلال له، يقوم به أبناء الوطن كل من موقعه، فتصبح كل الأعمال الصالحة، الجماعية أو الفردية، الصغيرة والكبيرة، التي يراد بها النفع العام داخل دائرة الفداء؛ ومن ثم يستطيع كل الناس أن يحققوا معنى من معاني " فداك وطني". لكن قبل ذلك إذا لم يكن المرء محبا لوطنه، ولم يكن صادقا في حبه، فلا معنى لقوله " فداك وطني". وذلك لان الحب أساس الفداء. وهو المنبع الذي تتفجر منه كل القيم التي يبنى عليها الانتماء للوطن. فالحب قوة دافعة وطاقة متجددة واستجابة للفطرة التي فطر الناس عليها. وهو الصوت الندي الذي يطرب القلوب فتسعد بالوطن، ويشحذ الهمم فتتحرك من أجله، ويحرك الأشواق فتهب إليه. ولعل من قوة النظر عند الجاحظ ونباهته وشغفه بالأدب أنه جمع ألطف ما كان عند العرب والعجم في حبهم لأوطانهم والحنين إليها، وكتب رسالته "الحنين إلى الأوطان" و تحدث عن أحوال العرب والعجم مع أوطانهم مشيرا إلى أنه يتساوى في الشوق إليها والتعبير عن عشقهم لها الملوك وأعراب البادية الذين لا يملكون إلا قوت يومهم. قال الجاحظ: فهؤلاء الملوك والجبابرة[ ذكرهم في رسالته] لم يفتقدوا في اغترابهم نعمة ولا غادروا في أسفارهم شهوة حنوا الى أوطانهم ولم يؤثروا على ترابهم ومساقط رؤوسهم شيئا من الأقاليم المستفادة بالتغازي والمدن المغتصبة من ملوك الأمم. وهؤلاء الأعراب مع فاقتهم وشدة فقرهم يحنون إلى أوطانهم ويقنعون بتربتهم ومحالهم. وما ذكره الجاحظ يفيد بأن حب الوطن لا علاقة له بطبيعة جغرافيته ودرجة تأهيله العمراني والحضاري؛ كما لا علاقة له بوضعية الفرد ومكانته الاجتماعية فيه؛ ومن أروع ما قرأت في هذا السياق ما نقل إلينا من قصة ميسون بنت بحدل حينما تزوجها معاوية وتركت وطنها بادية الشام وانتقلت إلى المدينة حيث العيش الرغيد في قصر مشيد. هناك ضاق بها القصر الفسيح من شدة حنينها إلى وطنها وأنشدت قائلة: ( الأبيات موجودة على موقع منتديات الأندلس) لبيت تخفق الأرواح فيه أحب إليّ من قصر منيف وكلب ينبح الطرّاق عني أحب إليّ من قط أليف ولبس عباءة وتقر عيني أحب إلي من لبس الشفوف وأكل كسيرة في كسر بيتي أحب إلي من أكل الرغيف وأصوات الرياح بكل فج أحب إلي من نقر الدفوف خشونة عيشتي في البدو أشهى إلى نفسي من العيش الطريف فما أبغي سوى وطني بديلاً وما أبهاه من وطن شريف والحب الصادق لا يزول بعارض مهما كانت شدته. فلنفترض أن مواطنا أخرج من وطنه وهو مظلوم واتهم في ولائه وهو بريئ. فهل يكره وطنه لان أهله عادوه ورموه وظلموه؟ والجواب أنه إن كان عاقلا وصادقا في حبه لوطنه، فلن يزيده ذلك إلا حبا وتعلقا به. ولنا في ذلك مثالا من أروع الأمثلة وأصدقها. فقد روي عن عبد الله بن عباسٍ رضي الله عنهما أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة :" ما أطيبكِ من بلد ، وأحبَّكِ إليَّ ، ولولا أن قومي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيركِ " ( رواه الترمذي ) وهذه الشواهد وغيرها كثير تؤكد على أن الحب وحده من يجعل الإنسان ينزع إلى الوطن وينافح عنه ويقدره حق قدره ويقدم له من نفسه ما يريد حتى الشهادة في سبيله وهي أعلى مراتب الفداء. غير أن هذه القيمة الإنسانية العظيمة التي لا يعرف غيرها بشر على وجه الأرض، باستثناء صنف واحد من البشر سيأتي الحديث عنهم، أصبحت مهددة بالإصابة بلوثات قيمية جديدة أشبه بالفيروسات التي تحول خلايا الجسم إلى معامل إنتاج فيروسات أخرى . وخطورة هذه اللوثات هي أنها تصيب تلك القيمة العظيمة في عمقها فتفقدها حرارتها وتطمس نورها وقد تمسخها إلى أن يشاء الله. إن المتأمل في موجات الصراع القيمي التي عرفها المغرب في تاريخه الحديث يلاحظ بأنها خلقت جوا من الاستهتار بالقيم النبيلة والتشكيك في فاعليتها المجتمعية واستهداف مرجعيتها الحضارية مع الترويج لقيم أخرى مناهضة للقيم التي شكلت روافد الهوية المغربية عبر التاريخ تحت ذريعة بناء مجتمع حداثي تارة والانفتاح على الثقافات الأخرى تارة أخرى وغيرهما من الذرائع المكشوفة. ومع تنامي عمليات الاستهتار والتشكيك والاستهداف والترويج التي تبدوا عبارة عن حلقات متكاملة في إدارة الصراع حول القيم، برزت على السطح قيم يقال أنها "حداثية" و"جديدة" تشكلت في قوالب متعددة، سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية بهدف صياغة مرجعية بديلة ومساندة للهوية "الجديدة" للإنسان المغربي " الجديد" كما يريد المبشرون بها. بالأمس القريب كان المغاربة يعشقون وطنهم ويحبونه في المنشط والمكره ويتغنون به وينافحون عنه وعن قيمه ويقدمون الغالي والنفيس في سبيل مجده وتحريره من يد الاستعمار ويعتزون بانتمائهم له أيما اعتزاز. ويتنافسون في خدمته وخدمة أهله، ويطاردون الخونة والمتاجرون به تحت حماية أعدائه. واليوم لازال هناك مغاربة شرفاء على العهد والوفاء لا يضرهم من خذلهم من بني جلدتهم، لكن مع هؤلاء الشرفاء هناك قوم، مواطنون، حتى لا نصادرهم حقهم في انتمائهم لهذا البلد، اختاروا اعتناق القيم "الجديدة" ضدا على فطرتهم أو تربوا عليها فصاروا ينظرون بعين الريبة لكل أصيل. وبالتالي أصبحنا نرى في مجتمعنا من يعبر بوضوح عن جفائه للوطن ، يصرخ ويشتم الوطن وأهله مستعملا أخس العبارات وأحطها، ومن يصدر عنه ما يفيد التنكر له والعبث بسمعته من أفعال شنيعة ودنيئة مع المن والافتخار وكأنه المنعم المتفضل، والهارب إلى العوالم الافتراضية الذي لا يرى نفسه معنيا بما يجري في الواقع الحي حتى لو سمع طبول الحرب تقرع من هنا أو هناك، وصاحب القلم المأجور الذي يختفي وراء الحق في التعبير لينسج خيوط المكر والرذيلة والعاق الذي يخفي عقوقه إلى حين أن يجد فرصة للبوح به، والناقم الكثير الشكوى الذي لا يعترف بفضل الوطن عليه والساخط الذي يحمل الوطن ما لا يجوز في حقه عقلا ودينا والمغرر به الذي يحقر وطنه ويتباهى بأوطان الآخرين وصاحب البطن الكبير الذي لا يفكر إلا في بطنه وبطون عشيرته ولن يسد جوفهم إلا التراب. وهؤلاء جميعا تربطهم ثقافة تجاوزت مرحلة التشكل والتي يطلق عليها ثقافة الارتزاق. وهي ثقافة براقة وجدت في القيم " الجديدة" السند والنصرة بحيث إذا عبر الناس عن تضمرهم مما فعلته في الحياة العامة اتهمهم حراسها بالتطرف والإرهاب والتخلف والتطاول على الحريات. ولو كانت عبارة عن تعبيرات فردية هنا وهناك لهان الأمر ولما استحق أن يذكر باعتباره شذوذا عن القاعدة العامة، والشاذ لا يشكل أي تأثير على توجه المجتمع وأهل العلم يقولون أن الشاذ لا يعتد به. لكن نحن نتحدث عن ثقافة خطيرة ومدمرة ولها قدرة على التكيف داخل أوساط مختلفة وتمتلك خطابات متباينة قادرة على اختراق شرائح متعددة. فالمرتزقة من السياسيين، على سبيل المثال، وهم الشريحة الأكبر، لهم خطابهم الخاص بهم والمرتزقة من المثقفين لهم خطابهم وهكذا حسب التصنيفات الممكنة وصولا الى البسطاء من الناس. والشواهد كثيرة ولا حصر لها. ولك أن تستمع الى كثير من الساسة يبشرون بالعام "الزين" وقدرتهم السحرية على إصلاح ما أفسده الآخرين (الذين كانوا هم قبل أن يتبرءوا من أنفسهم)؛ ولك أن تطلع على حجم الاختلاسات المشفرة والصفقات المشبوهة والتحايل على القانون والتزوير وعمليات التفويت من تحت الطاولة وشراء الذمم، وكل ذلك مع الترويج للتدبير الشفاف والنزيه المنسجم مع الاختيارات الوطنية . ولك أن تستمع إلى موظفين ، يقول أحدهم للآخر: "ملك اصحبي بغيت تصلاح لبلاد بوحدك ولا" وكأنه إذا فسد الكثير من الناس فلا معنى لصلاح قلة منهم. والحقيقة أن ذلك من التبريرات التي تمليها ثقافة الارتزاق. ولك أن تستمع إلى شخص بسيط يسب بلاده: "الله ينعل جد البلاد بحال هدي، عشنا مكرفصين ونبقاو مكرفصين". ومثل هذه الأمثلة وغيرها كثير تستخدمها ثقافة الارتزاق لتلبس على الناس وتدفعهم الى شراكها. فقد يقال مثلا بأنه لو كان الدخل الفردي محترما ويحفظ كرامة الناس لما فعلوا ما يسيء الى بلدهم ماديا ومعنويا. ؛ وهذا غير صحيح رغم أننا نتفق على أن تحسين مستوى عيش الناس مطلب لا يختلف عليه أحد. وذلك لان هناك من يتلاعب بمقدرات بلاده لصالح جشعه وهو صاحب مكانة فيها. إن الذي يقدر وطنه ويحبه لا يصدر عنه ما يسيء إليه حتى ولو ظلم وأخذ حقه واعتدي عليه وذاق الحرمان. لان المحب لوطنه والمخلص له يميز بين الوطن وبين الحكومات وأصحاب القرار والمسيرين للشأن العام وكل من لهم سلطة عليه من أفراد ومؤسسات وأعراف... والعاقل يطالب بحقه ويقدم التضحيات تلو التضحيات من أجل أن يعيش كريما في انسجام وتناغم بين القيام بالواجبات والمطالبة بالحقوق، ويعتبر ذلك خدمة للوطن الذي يحبه. ولا يحول بينه وبين حب وطنه شيء. وقد قرأنا ما قاله الجاحظ عن أهل البادية الفقراء وما قالت ميسون بنت بحدل وهي من هي في قصرها. ولذلك لا غرابة في أن تقرأ للدكتور حسين جمعة وهو يتحدث عن المرتزقة وقبل ذلك يقسم أبناء الوطن الواحد إلى قسمين: قسم ينتمي إلى فئة الأحرار الشرفاء الذين يرون قيمة الانتماء إلى الوطن قيمة مقدسة يبذلون من أجلها كل غالٍ ونفيس ويجودون بأنفسهم من أجله، والجود بالنفس أقصى غاية الوجود. وقسم أخر يمثل المواطنين المرتزقة، مشيرا إلى شيوع ظاهرة الارتزاق والمرتزقة، وانتشار فكرة الوطن المزرعة بدل فكرة وطن المواطن حيث لا هم للمرتزقة سوى استحلاب خيرات الوطن رشوة وسرقة،وفسادًا وإفسادًا يقول الدكتور جمعة واصفا المرتزقة قائلا: المرتزقة لا يضحون من أجل الوطن لأنهم لا يحبون إلا ذواتهم، ليس بينهم وبينه أي علاقة من محبة، قتلوا كل نوازع الصدق والإخلاص معه، لأن علاقتهم به لم تعد إلا مجرد علاقة تجارية ... ما يجعلهم يبيعونه في أول مزاد يعرض عليهم؛ وعلاوة على هذا كله فهم أكثر الناس ثرثرة وتلونًا، تراهم يميلون مع كل موجة، ونسمة، ونغمة، وصبوة. فإذا ما تأملناهم مطولا رأيناهم يغيرون أفكارهم ومشاعرهم وفق كل مصلحة لهم أو كل ثقافة قادمة من وراء البحار تحت مزاعم واهية وعجيبة، ليس لها هدف إلا الاتجار بالوطن والمواطن للوصول إلى مآربهم الخاصة ومنافعهم الذاتية. وخلاصة القول أن فداء الوطن يبدأ من حبه والتربية على ذلك وبذل الوسع للانتصار على القيم الهجينة التي تدعم ثقافة الارتزاق التي تقتات على حساب الوطن ومقدراته. وقد يبدوا أن المخرج صعب لكنه غير مستحيل. (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ). فصراع القيم لابد أن يحسم لصالح ثقافة الممانعة ضد الارتزاق وضد القيم التي يستقي منها عناصر قوته ووجوده. والى حين ذلك أناجي وطني وهو الرحيم بأبنائه: وطني، صبرا على جفاء أبنائك. [email protected]