انزاحت مع رياح الزمان في مجتمعنا عادات وتقاليد كانت لنا نبراسا وعنوانا، توارثناها أباً عن جد، في الحل والترحال، منها الثقيل الذي برحيله خف الحمل علينا، ولم نشهد بغيابه ما يذهب مكارمنا وحسن عاداتنا، ومنها الذي أجلى رحيله بساطة الماضي وترابط أهلها. الاجتماع على مائدة الطعام صورة من الماضي الذي أسهم النمو الاقتصادي والتطور الاجتماعي في بتر أجزاء من زواياها، و بتنا لا نجتمع على المائدة إلا إذا حل علينا ضيف عزيز فاضطررنا لمجالسته، حيث أصبح جل شباب اليوم ممن "كايعطيو الصواب و ينوضو". إن العائلة أو الأسرة كانت في السابق تجتمع على المائدة على صحن (ماعون) واحد، وكان الأب هو من يقطع ويوزع اللحم على أبنائه، فلقد كان من العيب أن يمد الإبن الصغير يده إلى كسرة خبز أو كوب ماء دون أن يستأذن من أحد أبويه، حيث يتلقى الأبناء، وهم على مائدة الطعام، التعليمات والنصائح كل يوم من أولياء أمورهم فيما يخص الأمور المرتبطة بالحياة اليومية، فكان لذلك أثرا طيبا في نفوس الأطفال و الآباء معا. كما أن أن قلة الاجتماع على مائدة الطعام أفقدت أبناء اليوم تلك التوجيهات التي كان يحظى بها الأبناء في الماضي من آبائهم، كالأكل باليمين، و كثرة الكلام في غير محله أثناء الأكل، والأكل من المكان الذي يليهم، بل صار الإبن يرسل لقمات إلى فمه على نغمات الإم بي 3 أو الإم بي 4 و البنت تتناول عشاءها في حالة من اللاوعي بما تأكله مجتهدة في كتابة الرسائل القصيرة من جوالها إلى زميلاتها مما يضيع عليها قيمة الوجبة صحيا. إن من دواعي هذه الظاهرة الاجتماعية، تفاوت أوقات الخروج دوما لأفراد العائلة، فالأب يخرج باكرا للعمل، و الأولاد يستيقظون في زمن متأخر، و هذا يربط رباطي حذائه بسرعة حتى لا يتخلف عن الموعد، و تلك تصرخ مخاطبة أمها "ما فياش الجوع. غير تغداو ماتسناونيش". كما أن العديد من الزوجات الموظفات ممن لا يحسن تدبير شؤون بيوتهن، يحاولن ما أمكن أن يقمن بأدوارهن و بسرعة، فهناك من تستيقظ نصف ساعة قبل خروجها للعمل فتسخن خبز الفطور ب "الميكرو أوند" و هناك من تجد في الثلاجة منقذا من تهكم الزوج إذا ما طالبها بأكلة معينة تستوجب التأني في التحضير، كالفطائر بأنواعها "المسمن، بغرير،...إلخ". إن لهذه العادة الطيبة أثرا جليا على سلوك الصبي، فمعلوم أن الطفل أو المراهق عندما يجالس والديه ويتحدث إليهم على مائدة الطعام وهو متبسط، فإنه يتحدث على سجيته وطبيعته، فيكتشف الوالدان الكثير من جوانب شخصية ولدهم و أسراره، وبالمثل هو يكتشف جوانب من شخصية والديه، فالطعام فرصة لحديث الأولاد والبنات مع والديهم الذين يعتبرونهم قدوة لهم، خصوصا أن أغلب الناس لا يسكتون على مائدة الطعام. كما أن الاجتماع على مائدة الطعام سبب للبركة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه"، كما أنه يزيل الكثير من الأنانية التي يمكن أن يتربى عليها الأطفال، فعندما تكون هناك فاكهة قد يعمد الابن إلى أن يتركها لوالده، أي أن هناك قيما اجتماعية يمكن أن يتعلمها من خلال هذا الجو الجماعي الذي يعيشه على مائدة الطعام. خالد عسو