البعد الإنساني في رواية " الأشجار و اغتيال مرزوق " لعبد الرحمان منيف من خلال معمارية الشخصيات الرئيسية لا يمكن فهم أي عمل روائي بمعزل عن الشخصية الروائية المحورية التي توجه الأحداث و تؤثث لفضاء الإبداع ،و على هذا الأساس ظهر البطل الإشكالي في أغلب الأعمال الروائية، حيث يتحمل على عاتقه تصريف المضامين و الخطابات و تفريغ الحمولات الدلالية التي يسعى النص إبرازها و إيصالها إلى المتلقي في شكل صريح أحيانا و ضمني أحيانا أخرى بلغة العنف المنظم و الصمت المعبر، و ذلك في قالب محبوك بدقة متناهية، حتى صار من النادر أو من الشبه المستحيل إيجاد رواية تخلو من بطل يقوم عليه نسيج البناء الروائي، و يمثل العمود الفقري الأساس الذي ينبني عليه المتن ككل،و لقد أفرغ منيف في رواية "الأشجار و اغتيال مرزوق" حمولته الفكرية سواء على مستوى الملفوظ أو المكتوم،أو ما يعرف بالمسكوت عنه : إنها عبارة عن دم و لحم دمها ما تقوله، و ما تفعله،و لحمها ما يقوله عنها الآخرون و ما يفعلونه تجاهها". و عموما إن الشخصية الرئيسية في الدراسات المعاصرة كائن لغوي معقد يصعب فهمه في غياب قاموس به تحيى و تعيش على مسار الأحداث المرسوم لها، هكذا إذن اختلفت الدراسات في نظرها للشخصية الروائية، إلا أنها لم تختلف عن أهميتها في الكتابة الإبداعية. لا يجادل اثنان على أن الشخصية الروائية الرئيسية قد لا تكون بالضرورة البطل الإشكالي و لكنها ضرورية و فاعلة و يعتمد بشكل قوي على حضورها كقوة ضاربة و فاعلة في توجيه أحداث الرواية من حيث علاقتها المتشابكة و المترابطة مع باقي الشخوص الأخرى،و استنادا إلى هذا الأساس، سنتوقف في بحثنا المتواضع لهذه الرواية على شخصيتين رئيسيتين و يتعلق الأمر ب : منصور عبد السلام و إلياس نخلة باعتبارهما الحجر الأساس الذي شيد عليهما عبد الرحمان منيف أحداث هذه الرواية. تبدأ " رواية الأشجار و اغتيال منصور " بحوار داخلي طويل يتحدث فيه منصور عبد السلام عن نفسه و عن المعاناة التي تكبدها ليل نهار من طرف الأجهزة الأمنية أثناء مطالبته بالحصول على جواز سفر قصد النزوح إلى الخارج، مما يجعل هذه الشخصية تعيش صراعا نفسيا مريرا و تتعرض للتنكيل و التعذيب و التشريد، دفاعا عن قضايا إنسانية صرفة تؤمن بها ، إلا أن هذا الإيمان لم يصمد طويلا و تكسر على صخرة الواقع و تبخرت أحلام هذا الثائر الذي يحمل بين ثناياه شرارة التغيير التي سرعان ما انطفأت من جراء كل أشكال التسلط و القهر و أمست هذه الشخصية انهزامية نتيجة لجوئها إلى التحرر الشخصي و الفردي، بعدما كانت تحمل شعار الدفاع عن حرية الوطن ككل. إن الواقف مليا عند مقطع لشخصية " منصور عبد السلام" الذي يقول فيه: * لا تضعف ، أتسمع ما أقوله لك،لا تضعف،و هذه الأشياء الأخيرة التي قد تخلف في نفسك ذكرى و تخلف عاطفة ، أتركها،لقد اجتزت القنطرة كلها وحدك و لا حاجة بك الآن ، الآن ترى في العيون ذلك الأسف المستسلم ، إنهم لا يفكرون فيك ،و حتى لو قالوا شيئا ،.......أترك كل شيء وراءك ، و إذا استطعت فلا تنظر إلى الخلف أبدا * ( ص 17). يشكل هذا المقطع بمثابة خلاصة لدور منصور عبد السلام في هده الرواية، لأنه استطاع أن يقول كل شيء عن نفسه بزخم هده الكلمات و قوتها المتمثلة في تلك الجمل القصيرة، الكاشفة لكينونة هدا الأخير، بحيث نجد أنفسنا أمام شخصية بطل قوي يوحي أنه لا يهاب الهروب و يتنكر لماضيه، إلا أن النهاية تقول عكس ما يظهر،إن هده الشخصية تنهج سياسة اللاأدرية لعدم اكتراثه بالآخرين، ما دام يملك أسلحة الخلاص الفردي جواز سفر، بطاقة القطار، الشهادة الصحية و الموافقة على العمل). ص 17 ،و زمن هذا المقطع هو زمن التفكير في الذات و لا شيء غير الذات، مما جعل منه زمنا قصيرا جدا. و من خلال ما سبق ذكره، نستشف أن منصور عبد السلام رسم لنفسه صورة واضحة و لم يترك للآخر مجال البحث عن تصنيفه و وضعه في خانة معينة، كما أن المقطع المذكور يعترف و يقر صراحة على أنانية هذه الشخصية تجاه الآخرين، إذ لا يفكر هذا البطل إلا في نفسه فقط، ثم ما لبث يعطي صورة مغايرة عن حقيقة ذاته في الفصل الثاني، حينما تحاور مع أحد الركاب الجالسين معه في القطار، إذ نجد هذه الشخصية تقدس العمل بل تكاد تدعو إليه الناس دعوة نبي لدين جديد، يقول منصور عبد السلام : " العمل هو الشيء الوحيد الذي يفتش عنه الإنسان، يغامر من أجله، حتى و لو تعرض للخطر، للموت" ص 28. و لا ينتهي حرصه على العمل عند هذا الحد بل يؤكده مرة ثانية في الفصل الثالث أثناء تبادله الرسائل مع فرانسوا مارتان و شارل بونيه، و عبر مونولوج داخلي يكشف منصور عبد السلام على نفسية أخرى ذات معطيات جديدة تصرح بشكل أو بآخر على أن هذه الشخصية لم تعد تمثل ذلك السياسي الحالم عندما تعرضت للطرد من الجامعة أولا و من عقر داره ثانيا، كما يصرح به علانية " و لقد أصبحت واقعيا، زالت من ذاكرتي الأفكار الحالمة" ص 31. و قد عرج هذا الفصل أيضا على جلسات منصور عبد السلام مع الخمور لكونها مسكنا و مهدئا تبعده عن مشاكل الواقع المعيش، يقول في هذا الصدد " تفضل لنشرب ، أفضل شيء أن يشرب الإنسان لكي ينسى " ص 36. إنها كلمات عميقة التعبير عن حقيقة إنسانية في أكثر مظاهرها التباسا و تعقيدا ، لا سبيل إلى رؤية الإنسان العربي في واقعه الحي من دون أن نطرح أسئلة مريبة و محيرة ، هذه هي الحقيقة الأولى التي تطالعنا بها هذه الرواية منذ الوهلة الأولى و بإلحاح شديد. إن رواية الأشجار و اغتيال مرزوق تطرح شخصية منصور عبد السلام و من خلالها الجماهير و خاصة المثقفة منها على نحو لا يخلو من القلق و هو قلق الوجدان العربي تجاه واقعه المزري، إنها بالفعل مشاهد من تجارب مثقف يحاول أن يتقمص شتاتا مبعثرا من الروح الجماهيرية، و مواقف مختلفة تجسد معاناة إنسان في تجربته الحية إلى درجة كاد يفقد فيها هويته و انتماءه ، و يتجسد ذلك في قول منصور عبد السلام : " التفت إلي الرجل السمين و سألني بغضب : و أنت ؟ و بلهجة ساخرة و متحدية قلت له: مسلم يا سيدي ، مجوسي، لا أعرف " ص 39. و خلاصة القول، يتضح من خلال الفصول الثلاثة الأولى من القسم الأول التي يشكل القطار مكانها و فترة خروج منصور عبد السلام من وطنه زمانها ،أن هذه الشخصية تكشف عن نفسها انطلاقا من الحوارين الداخليين السالفين الذكر، و من ثمة يمكن تصنيفها شخصية ذات معمارية رمزية، أراد من خلالها الروائي أن يقدم لنا وجهة نظره في مفهوم الوطن و الدين و العمل السياسي و أزمة المثقفين في مواجهتها لكل أشكال التسلط و القهر، مما جعلها في سياق دهني و فكري يتسم بالتعقيد، و يصعب معه القبض و المسك بتلابيب هذه الشخصية،و السبب في اعتقادي يكمن في الرتابة التي ميزت البناء المعماري لهذه الشخصية من جهة، و لغياب حدث قوي وواضح المعالم بالدقة الذي من شأنه تسهيل عملية الكشف و المكاشفة و الابتعاد عن قول الشيء و نقيضه،و ادعاء البطولة و الإيمان بالقضايا الوطنية الكبرى،و الانتهاء في نهاية المطاف في ديار المهجر و الارتماء في أحضان الخمور بل على وشك أن يفقد هويته و انتماءه من جهة ثانية. إذا كانت هذه هي الطباع التي ميزت معمارية البناء الروائي لشخصية منصور عبد السلام ، الثائر المسالم، و الفارس الجبان و الحامل لقضية الحرية و التغيير و الذي لم يعد يمثل شيئا من ذلك ؟ فما هو حال معمارية شخصية إلياس نخلة يا ترى في هذه الرواية ؟