نجح الفريق الفلسطيني المفاوض في خلق الأجواء لجعل الاحتلال الإسرائيلي أرخص الاحتلالات، لكنه، في الوقت نفسه، جعل فيه أكثر الاحتلالات كلفة لأصحاب الأرض، لشعب فلسطين. ترى ما الذي يعنيه الرئيس محمود عباس بقوله إن الاحتلال الإسرائيلي هو أرخص الاحتلالات؟ البعض يقول إن عباس يحاول بذلك أن يبعث برسالة إلى بنيامين نتنياهو: أن زمن البقاء في الأرض الفلسطينية دون دفع الثمن الباهظ لهذا الاحتلال قد شارف على النهاية، وأن إسرائيل باتت تقف أمام خيارين: إما أن تعود إلى طاولة المفاوضات، وإما أن تتحمل مسؤوليات ما سوف تؤول إليه الأمور، وبحيث تنتهي فترة الهدوء، ويبدأ الوضع الفلسطيني بالتحرك باتجاهات أخرى، من شأنها أن تكلف الاحتلال غاليا. غير أن مراقبين آخرين يقولون إن الرئيس عباس يبعث إلى تل أبيب، وإلى واشنطن، رسالة مغايرة، يقول فيها إنه لولاه لما كان الاحتلال الإسرائيلي هو أرخص الاحتلالات. وأنه هو الذي نجح، بعد طول جهد، في نشر الهدوء في المناطق الفلسطينيةالمحتلة. وأنه هو الذي رفع شعاراته ضد عسكرة الانتفاضة وتعهد بعدم السماح باللجوء إلى العنف ما دام في موقع المسؤولية. مقابل هذا يطالب عباس كما يقول المراقبون الولاياتالمتحدة وإسرائيل بأخذ هذا الدور بعين الاعتبار، ورد الجميل إلى المفاوض الفلسطيني، وحفظ ماء وجهه، والعودة إلى طاولة المفاوضات، مع وقف (ولو مؤقت) للاستيطان (ملاحظة: كان الرئيس عباس قد اقترح وقف الاستيطان لمدة شهرين يشكلان فترة كافية برأيه للاتفاق على الحدود بين الدولة الفلسطينية وإسرائيل، يسمح بعدها للدولة الصهيونية بالبناء في المناطق الخاصة بها دون اعتراض من الجانب الفلسطيني). ويضيف المراقبون أن الرئيس عباس أراد أيضا أن يقول للإسرائيليين والأميركيين إنه لا يستطيع الوقوف طويلا عند محطة الانتظار. وأن استمرار الهدوء رهن بوجود عباس على رأس السلطة. وأن الزمن ليس مفتوحا أمام الجانب الفلسطيني. وبالتالي على الجانبين الأميركي والإسرائيلي أن يحسما أمرهما، وأن يزيلا عقدة العودة إلى المفاوضات، وإلا فإن القادم سوف لن يكون تحت السيطرة. **** واضح تماما، في طيات حديث عباس، أن الجانب الإسرائيلي لم يكن ليمارس هذا التعنت، وهذا الصلف، وهذا الدلال، في رفضه وقف الاستيطان لولا أنه يعيش، في المناطق المحتلة، حالة من الهدوء والاستقرار: فلا مقاومة فاعلة تكبده الخسائر البشرية يوميا. ولا ضغط اقتصادي وسياسي عربي وأوروبي وأميركي، بل عروض وأوراق تفاهمات وحوافز مقدمة له على طبق من فضة. السؤال الواجب طرحه هنا: من المسؤول عن الوصول بالحالة الفلسطينية إلى ما هي عليه الآن، بحيث أصبح الاحتلال الإسرائيلي أرخص الاحتلالات؟ الجواب الذي لا تردد في قوله: إنها السياسة التي اتبعها الرئيس عباس منذ توليه رئاسة السلطة ورئاسة (م.ت.ف.)، وحين عمل على إعادة صياغة العديد من المفاهيم، من بينها مفهوم المقاومة المسلحة، الذي تحول مرة إلى ما يسمى ب«عسكرة الانتفاضة». وكأن هذا التوصيف يحاول أن يقول إن صاحبه مع الانتفاضة الشعبية، وضد أن تتحول هذه الانتفاضة إلى عمل عسكري لمجموعات مسلحة تحل محل الشعب كله. وتحولت المقاومة المسلحة، على لسان بعض مستشاري عباس إلى ما يسمى ب«فوضى السلاح» في مناطق السلطة، في استغلال فظ لتجاوزات بعض المسلحين، وتحميل المقاومة المسلحة، الجادة والجدية، مسؤولية هذه التجاوزات، علما أن الجميع يعرف تماما من هم هؤلاء الذين زرعوا فوضى السلاح، واستغلوا اسم المقاومة في ممارسات وصراعات وخلافات لا علاقة لها بالمقاومة. ثم انحدرت التسمية درجات إلى الأسفل، لتتحول المقاومة (المسلحة والشعبية معا) إلى «العنف» حين تعهد الرئيس عباس شخصيا، وفي أكثر من خطاب وتصريح، بمنع «العودة إلى العنف»، ما دام هو في موقع المسؤولية للأسف، نجح الرئيس عباس في وضع حد للانتفاضة، ولعسكرة الانتفاضة، ولفوضى السلاح، وللعنف، لكن من جانبه الفلسطيني. لكنه فشل في منع فوضى السلاح عند المستوطنين، وفشل في منع العنف الإسرائيلي ضد الفلسطينيين. وبذلك لم يتحول الاحتلال الإسرائيلي إلى أرخص الاحتلالات، بل تحول إلى أكثرها كلفة لأصحاب الأرض، أي للفلسطينيين. فإلى جانب تدمير الاقتصاد الفلسطيني، وسرقة الأرض، وتهويد القدس، يجري القتل، والاعتقال، وتدمير كل ما من شأنه أن يوحي بأن الفلسطينيين مصرون على بناء مستقبلهم الحر والمستقل في دولة خاصة بهم ذات سيادة وعاصمتها القدس. **** في مذكراته حول مسؤولياته في إدارة الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، يتحدث مارتن أنديك، يوم كان سفيرا للولايات المتحدة في إسرائيل، فيتناول الفترة الأولى من انتفاضة الاستقلال التي اندلعت في أعقاب فشل مفاوضات كامب ديفيد في يوليوز 2000. يقول إنديك إن العنف اجتاح المناطق المحتلة، وإن رجال الشرطة والأمن الوطني الفلسطيني اتحدوا مع الشعب الفلسطيني ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي. ويضيف أنه كلما التقى رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك، لاحظ أن هذا الرجل كان يقضي معظم لياليه ساهرا لا ينام، وأن هذا كان يبدو واضحا على قسمات وجهه.. لماذا كان النوم يقاطع باراك؟ السبب، كما أكده مارتن إنديك، هو عدد الإسرائيليين القتلى برصاص المقاومة الفلسطينية المسلحة. كان باراك يقول لأنديك: «لا أستطيع النوم وكل يوم يسقط منا قتلى برصاص الفلسطينيين». أما الحل، الذي ارتآه باراك [هذا الرجل القادم إلى السياسة من رئاسة هيئة الأركان، وهذا الجنرال الذي لم يسجل في سجله نقطة سوداء واحدة].. الحل هو العودة إلى المفاوضات مع الفلسطينيين، لأنه كان مقتنعا، من موقعه كعسكري، أن لا حل أمنيا وعسكريا للانتفاضة وللمقاومة، وأن الحل لن يكون إلا سياسيا. هذا الاستنتاج توصل إليه أيضا رئيس الأركان الأسبق (في زمن الانتفاضة الأولى) اسحق رابين. لذلك كانت مفاوضات طابا. وعندما فشلت هذه المفاوضات، وفشل باراك في وقف الانتفاضة، اضطر، تحت الضغط الداخلي، إلى الذهاب إلى الانتخابات المبكرة، وسقط سقوطا مدويا في مواجهة خصمه أرييل شارون، والذي اقتنع هو أيضا باستحالة الوصول إلى حل عسكري مع الفلسطينيين، فلجأ إلى مشروعه المعروف ب «الانطواء»، «الحل من طرف واحد» عبر الانسحاب من القطاع، تمهيدا للانسحاب من مناطق في الضفة والاحتماء وراء جدار الفصل والضم العنصري. مثل هذه الدروس الغنية، التي يسجلها لصالح الشعب الفلسطيني أعداؤه قبل أصدقائه، ليست دروسا مجانية، بل كلفت الشعب الفلسطيني غاليا. ما كان لهذه الدروس أن تضيع هباء. ولا يصح، بعد كل هذا، التعنت وراء خيار سياسي يشكل راحة للبعض لأصحابه، ويضمن لهم مصالحهم، لكنه يسير بالقضية الوطنية نحو الطريق المسدود، ويكلفها في السياق خسائر مجانية، لا تثمر، ولا تصب في خانة المراكمة الإيجابية. لم يعد من حق الفريق الفلسطيني المفاوض أن يستفرد بالقرار الوطني وإن يتجاهل الهيئات الفلسطينية المقررة. ولم يعد من حقه أن يستغل حالة الشلل التي تعانيها هذه الهيئات ليسير بالسفينة الفلسطينية في الاتجاه الخاطئ ومصرا في الوقت نفسه على عدم تحويل الدفة نحو الطريق السليم. البرازيل والأرجنتين (ولربما دول أخرى في الطريق إلينا) أعلنت اعترافها بالدولة الفلسطينية المستقلة بحدود الرابع من حزيران (يونيو) (في الوقت الذي يبدي فيه الفريق الفلسطيني المفاوض استعداده لتبادل الأراضي، والتبادل لا يكون إلا لصالح إسرائيل). وإن مثل هذا الاعتراف، إذا لم يلقَ أجواء سياسية فلسطينية تثمره، وتحوله إلى قوة إضافية للشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، تحول إلى مجرد إعلان، تحترق قيمته السياسية مع مرور الوقت. الأمور باتت ناضجة. وإن أي تأخير في قطف الثمرة الناضجة، معناه إن هذه الثمرة سوف تسقط على الأرض لتخترقها الديدان والحشرات ويجتاحها العفن والاهتراء.