لايمكن أن نلقي تبعات ما آلت إليه الأوضاع على الآخرين ثم نغسل أيدينا من كل مسؤولية وكأننا براء من كل ذنب، ضحايا أبديين لمؤامرة شيطانية لا نهاية لها أبدا أكد رئيس طاقم المفاوضات النهائية السابق مع إسرائيل أحمد قريع وأحد مهندسي اتفاقية أوسلو الشهيرة بان المفاوضات تبدو بلا نهاية، مشيرا إلى أن 8 حكومات إسرائيلية تفاوضت مع الفلسطينيين وكان القاسم المشترك بينها الإصرار على الاستيطان الذي دفع القيادة الفلسطينية برئاسة محمود عباس إلى اتخاذ قرارها مؤخرا بوقف المفاوضات المباشرة مع حكومة بنيامين نتنياهو لحين وقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 وأوضح قريع في محاضرة ألقاها الأحد الماضي في مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية بأن المفاوضات مع إسرائيل باتت مجرد لعبة علاقات عامة لكسب المزيد من الوقت لتنفيذ برنامجها على الأرض ولعدم إغضاب الإدارة الأميركية. وأضاف قريع: وقبل أن أمضي في عرض بعض من جوانب هذه التجربة التي عايشتها على طول الطريق الممتد من أوسلو عام 1993 إلى أنابوليس عام 2007، وما تخلله من محطات عديدة، في القدسوواشنطن واستوكهلم وروما وطابا ورام الله وغيرها، أود أن أتوقف قليلاً عند واحد من أحد أهم المعطيات الثابتة في هذه التجربة التفاوضية المديدة، وأعني بذلك الخيط الناظم لسياسة إسرائيل عبر سائر حكوماتها المتتالية منذ بدء عملية المفاوضات، التي تعاقب عليها ثمانية رؤساء حكومات، كان لكل واحد منهم تكتيكياً خاصاً به، وأسلوباً إخراجياً مختلفاً عن سابقه، إلا أنهم كانوا في المحصلة الأخيرة يعزفون ذات الأوركسترا الاستيطانية التوسعية المناهضة لحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدسالشرقية. وتابع قريع: فمنذ انطلاقة المفاوضات الفلسطينيّة - الإسرائيليّة في مؤتمر مدريد للسلام في أكتوبر 1991، أي منذ قرابة تسعة عشر عاماً، خضنا سلسلة بالغة الدِّقة والتعقيد لعمليّة تفاوضيّة شكّلت، في معظم مساراتها، ما يشبه فصولاً لمسرحيّة تنتمي إلى مسرح اللامعقول، شارك في بطولتها ثمانية من رؤساء الحكومات الإسرائيليّة المنحدرين من تيارات سياسيّة يمينيّة متطرِّفة ويساريّة عمّاليّة صهيونيّة، بطواقمها المختلفة، التي لم تختلف كثيراً عن بعضها البعض، في توجهاتها السياسيّة وأهدافها التي لم تتنازل قيد أنملة عن جوهر المشروع الاستيطاني الصهيوني الاستعماري التوسعي. بينما مثل الجانب الفلسطيني، في هذا المشهد التفاوضي المديد رئيسان لمنظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية هما الرئيس الشهيد ياسر عرفات، والرئيس محمود عباس. كما كان يوجد على الجانب الآخر من المشهد وسيط أمريكي تعاقب على أدائه كل من الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب، والرئيس بيل كلينتون، والرئيس جورج دبليو بوش الابن، وأخيراًُ الرئيس باراك أوباما. فيما ظل يجلس على مقاعد المتفرجين على العرض المسرحي كل من الدول العربية، ودول الاتحاد الأوروبي وروسيا، والأمم المتحدة بجمهورها العالمي، وبقي الشعب الفلسطيني طوال عرض هذا المشهد واقعاً تحت سياط الاحتلال وقمعه وجبروته. قد يكون الوقت قد طال أكثر مما ينبغي لمراجعة هذا المسار الطويل الملتبس لعملية مفاوضات ظلت متعثرة، تخرج من مأزق حاد لتدخل في مأزق أكثر حدة من سابقه. ومع ذلك فإن من المفيد إجراء المراجعات المطلوبة، وإعادة تقويم هذه العملية في هذه الآونة التي انكشفت فيها تماماً بواطن النوايا الإسرائيلية الرامية إلى كسب مزيد من الوقت لفرض مزيد من حقائق الأمر الواقع، بما في ذلك مصادرة الأرض وتوطيد دعائم العملية الاستيطانية التي تسابق الزمن، لعلنا بمثل هذه المراجعة نتمكن من تصويب المواقف العربية والفلسطينية، واستشراف الممكنات المستقبلية بصورة واضحة، واختيار البدائل الواقعية المناسبة. وأضاف قريع: وقبل إجراء مثل هذه المراجعة، ودراسة الخيارات والبدائل الممكنة، لا بد لنا من التعرف على المحصلة غير المكتملة لهذه التجربة التي عبرت أزمنة ثمانية رؤساء حكومات إسرائيلية متتالية، كل زمن منها مجرد تنويع في الشكل، يغطي على الإستراتيجية التفاوضية الإسرائيلية. وعرض أحمد قريع هذه التجربة في محطاتها الثمانية المتتالية مع ثماني حكومات إسرائيلية، كما يلي: كنتُ أشاهد الضباب السياسي يسد الأفق ويغلق مجال الرؤية كلما شخصتُ ببصري نحو مؤتمر أنابوليس. إلا أنني كنتُ من بين المقتنعين بضرورة استثمار الفرصة المتاحة من خلال دعوة الرئيس جورج بوش، والعمل على توظيف المؤتمر الدولي المزمع لخلق قوة دفع جديدة، ومن ثم إحداث الانطلاقة المطلوبة، على عكس ما كان عليه الحال عشية مؤتمر كامب ديفيد، إلا أنني كنتُ أرى بأم العين كل ما من شأنه أن يحوّل هذا المؤتمر إلى فرصة أخرى ضائعة، إن لم تمارس المجموعة الدولية، وفي مقدمتها الولاياتالمتحدة، كل النفوذ الذي تتمتع به لتحقيق متطلبات إنجاح هذا المؤتمر المرغوب به من أميركا بالدرجة الأولى. مقابل ذلك كله، كانت الولاياتالمتحدة، وهي صاحبة الدعوة وصاحبة فكرة أنابوليس، تبدي ثقة متزايدة بنجاح المؤتمر الذي خططت له، وتظهر اطمئناناً لا حد له بإعادة إطلاق عملية المفاوضات، فوق أنها كانت تعد على الملأ بأن الجانبين: الفلسطيني والإسرائيلي سيتفقان قبل موعد انعقاد المؤتمر على إصدار وثيقة مشتركة لطرحها على المؤتمرين في أنابوليس، وهو الأمر الذي اشتغلنا عليه طويلاً، بمساعدة نشطة من جانب وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس، إلا أننا لم نتمكن من تحقيقه، جراء ما سبق ذكره من مراوغات إسرائيلية هادفة إلى تضمين تلك الوثيقة مطالب ما كان للجانب الفلسطيني أن يوافق عليها أو يتعاطى معها، بما في ذلك مسألة الدولة اليهودية، ومطالب فلسطينية موضوعية حول المرجعية السياسية لهذه العملية ووقف الاستيطان وإجراءات عزل القدس وضمها، والتي ما كان الجانب الإسرائيلي راغباً في تضمينها. وبالعودة إلى الأجواء السابقة على هذا المؤتمر، وإلى الملابسات التي أحاطت بالدعوة إلى انعقاده، فإنه لم يغب عن بالنا ونحن نناقش هذه الدعوة في القيادة الفلسطينية، أنها دعوة أتت في نهايات الفترة الثانية لولاية الرئيس جورج بوش، أي أنها أشبه ما تكون بدعوة أخرى في الوقت الضائع، تماماً على نحو ما كانت عليه دعوة الرئيس بيل كلينتون لعقد مؤتمر كامب ديفيد في أواخر فترة رئاسته الثانية، الأمر الذي بعث فينا مخاوف لم تهدأ من قبل، وحملنا على تقبل فكرة المؤتمر الجديد بقدر كبير من التحفظ، وطرح علينا مزيداً من الأسئلة المقلقة. ومع الإدراك المسبق لكل تلك المحاذير التي أحاطت بالدعوة لعقد مؤتمر السلام الجديد، فقد كنتُ أرى من جانبي، وحتى قبل أن تفوّضني القيادة الفلسطينية مسؤولية قيادة وفد المفاوضات الفلسطيني، أن المؤتمر الدولي الجديد له أهمية كبيرة يجدر بنا عدم التقليل من شأنها. غير أنني كنتُ أرى في الوقت ذاته أنه يتوجب تحقيق عدة متطلبات موضوعية لتوفير مقومات نجاح هذا المؤتمر، وفي المقدمة منها التوصل إلى اتفاق مبدأي مع إسرائيل حول نهاية الطريق سلفاً، أي الاتفاق على ماهية الهدف الذي ينبغي أن يتوصل إليه الجانبان، وهذا يعني أنه يتوجب البدء في تحديد الهدف النهائي (دولة فلسطينية مستقلة) على خط الرابع من يونيو 1967 عاصمتها القدسالشرقية، ومن ثم العودة إلى بداية الطريق والتفاوض حول كافة القضايا والحقوق الوطنية الفلسطينية، إلى أن يتم الوصول إلى الاتفاق. وجرت سبع جولات تفاوضية للوفدين: الفلسطيني والإسرائيلي، وست لقاءات ثنائية بيني كرئيس لوفد المفاوضات الفلسطيني وبين السيدة تسيبي ليفني كرئيس لوفد المفاوضات الإسرائيلي، وإثر سلسلة طويلة من لقاءات فلسطينية أميركية لمتابعة هذه المفاوضات، ولقاءات أخرى مع الدول العربية والأوروبية، بدت لنا الأمور وكأننا نجري تمريناً رياضياً فكرياً حول مسائل النزاع، أو أننا بصدد عملية عصف فكري لا ترتب أي التزامات على أي من الجانبين. على أي حال، وفي خضم كل تلك السلسلة من اللقاءات والحوارات والاتصالات متعددة الاتجاهات، تركزت الجهود قبل أن نتوجه إلى أنابوليس على إعداد وثيقة فلسطينية إسرائيلية مشتركة لعرضها على المؤتمر، يجري التوافق مسبقاً على أسسها الميسرة لإنجاح الجهد الدولي المبذول على هذا الصعيد. غير أن كل ما قمنا به من محاولات حثيثة، وكل ما بذلته الدبلوماسية الأميركية من جهود متواصلة، لم يسفر في نهاية ذلك المطاف عن التوصل إلى صياغة مثل هذه الوثيقة، سواء في إطار المفاوضات الثنائية أو في إطار المباحثات المشتركة مع الأميركيين، الأمر الذي جعلنا نواصل الحوار حول هذه الوثيقة حتى اللحظة الأخيرة من افتتاح مؤتمر أنابوليس أواخر نونبر 2007. في ختام تلك السلسلة من الاجتماعات التمهيدية متعددة المستويات، ذهبنا إلى أنابوليس لعلنا ننجز في اللحظة الأخيرة، أي قبل الدخول إلى قاعة المؤتمر اتفاقاً على صيغة ورقة مشتركة تقدم إلى المؤتمرين وتصدر عنهم كبيان ختامي للمؤتمر الدولي. إلا أننا أخفقنا مرة أخرى في هذا المسعى، الذي استعيض عنه بإلقاء كل من الأخ أبو مازن، ورئيس الحكومة الإسرائيلية أيهود أولمرت، والرئيس الأميركي جورج بوش، كلمات افتتاحية منفصلة، تحمل كل منها على حدة وجهة نظر كل طرف من الأطراف المشتبكة في هذه العملية التفاوضية التي بدت عسيرة قبل أن تبدأ، تراوح مكانها طوال الوقت اللاحق. عدنا من أنابوليس لنبدأ جولات أخرى أكثر تركيزاً من سابقتها التمهيدية، حيث لا يتسع المقام هنا لاستعراض كل ما دار في تلك الجلسات التي تواصلت بكثافة، ثم انتهت بدون نتيجة حاسمة بتحقيق الاتفاق المنشود عشية انطلاق العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة أواخر العام 2008، وما رافقها ولحقها من أزمة إسرائيلية داخلية طالت رئيس الحكومة الإسرائيلية، وأدت في وقت لاحق إلى إجراء انتخابات عامة إسرائيلية، أعادت بنيامين نتنياهو مجدداً إلى رئاسة الحكومة، وذلك في وقت متقارب مع إجراء انتخابات رئاسية أميركية أوصلت باراك أوباما إلى البيت الأبيض، وسط استحسان دولي بانقضاء عهد جورج دبليو بوش وتوقعات كبيرة ببداية عهد أميركي أكثر انفتاحاً وأشد رغبة في التعاون لحل أزمة الشرق الأوسط. غير أنه قبل أن أسمح لنفسي بإلقاء نظرة تقويمية على مجريات العملية التفاوضية الراهنة، التي بدأت بقوة دفع أوجدها الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما، أود أن أتوقف قليلاً عند محطة أنابوليس، كي أشير إلى عدد من الاستخلاصات والنتائج الأولية المتعلقة بتلك الفترة التفاوضية التي اشتملت على بحث تفصيلي ومسهب لكل القضايا المتعلقة بالحل الدائم، بلا استثناء، من القدس إلى اللاجئين إلى الحدود والمستوطنات والأمن والمياه. استخلاصات ونتائج أولاً: أننا كسرنا حالة طويلة من الجمود السياسي استمر لنحو سبع سنوات كنا نلحّ خلالها، ودون نجاح يذكر، على ضرورة إحياء جهود السلام وإطلاق العملية السلمية من جديد، باعتبار ذلك خياراً فلسطينياً. ثانياً:تم دحض الزعم الإسرائيلي الذي لم ينقطع بعدم وجود شريك فلسطيني يمكن معه التفاوض لصنع السلام، وجرى رد الاعتبار تدريجياً لخيار المفاوضات بعد كل تلك السنوات الطويلة من المواجهات العسكرية والاجتياح والشلل والجمود التام. ثالثا: وبالمقابل لم نذهب إلى أنابوليس مرغمين. فقد كنا أكثر ميلاً إلى العودة للمفاوضات، حيث واصلنا هذه العملية دون أن نتنازل عن أي من ثوابت موقفنا الوطني، وذهبنا ونحن أشد وعياً، وأعمق تجربة، وأكثر إدراكا لقوانين اللعبة الإسرائيلية وتكتيكاتها. بكلام آخر، فقد بدأنا من أنابوليس مسعى سياسياً جدياً للخروج من النفق المظلم المديد، وقطعنا دابر الزعم الإسرائيلي القديم بعدم وجود شريك فلسطيني، ووفرنا من خلال ذلك فرصة مناسبة، وخلقنا ساحة اشتباك سياسي مباشر لإدامة كفاحنا متعدد الأشكال ضد الاحتلال، كما وضعنا المجتمع الدولي في مؤتمر أنابوليس أمام مسؤولياته المباشرة، وهو ما انعكس علينا إيجابياً في صورة فهم متزايد، وفتحنا جميع ملفات مفاوضات الوضع الدائم وشكلنا لجاناً لكل قضية من هذه القضايا. وحققنا بعض التقدم الطفيف في بعض القضايا التي تم التفاوض عليها رغم أننا لم نتمكن من الاتفاق ولو على ملفٍ واحدٍ من قضايا مفاوضات الوضع الدائم بالاتفاق. وها نحن اليوم نقف على عتبات فصل جديد من مسيرة مفاوضات تبدو بلا نهاية، إن لم أقل إننا أمام حلقة أخرى مفرغة قد ندور فيها لفترة غير معلومة النهايات، وهي حلقة تستحق في حد ذاتها معالجة منفصلة أسمح لنفسي بعدم الخوض في شجونها وشؤونها العديدة، وذلك لحساسية الوضع الفلسطيني ولأن هذه الجولة لم تكتمل فصولها بعد، ولأن تفاعلاتها مستمرة إلى اليوم، ناهيك عن أن مآلاتها مفتوحة على أضيق الاحتمالات الممكنة، بما في ذلك احتمال وقوعها في حفرة استيطانية لا مخرج منها، وفق كل المقدمات التي لا تخطئها عين المراقب. غير أنه يمكنني القول إن هذه الجولة الجديدة من المفاوضات، التي بدأت وسط أجواء تشاؤمية مكفهرة، وتحت أدنى السقوف من التوقعات، ناهيك عن الاستعصاءات التي رافقتها منذ البداية، كانت مجرد لعبة علاقات عامة لدى الجانب الإسرائيلي لكسب المزيد من الوقت لتنفيذ برنامجه على الأرض ولعدم إغضاب الإدارة الأميركية، حتى لا نقول مسايرتها إلى نهاية مطاف يقرر الطرف الإسرائيلي سلفاً أنه مغلق بإحكام شديد، من ناحية. ومن الناحية الأخرى فإن الطرف الفلسطيني الذي يعي تماماً توجهات تعطيل الحكومة الإسرائيلية ورغبات الإدارة الأمريكية فإنه لا يريد أن يتحمل مسؤولية تعطيل المفاوضات أو إفشالها قبل أن تبدأ، وبالتالي فإن أقصى ما يمكن لكل طرف تحقيقه، والحالة هذه، تجنب حمل «شرف» مسؤولية إفشال باراك أوباما الذي وضع هدف حل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي ضمن أولويات إدارته الواعدة بتبديل وجه الولاياتالمتحدة في العالم الإسلامي. ولعل الإخفاق المبكر الذي واجهته الإدارة الأميركية في مرحلة ما سميّ بالمفاوضات غير المباشرة، التي كان من المقدر لها أن تحرز بعض التقدم، كشرط لفتح الطريق أمام المفاوضات المباشرة، كان بمثابة إشارة مبكرة على عقم هذا النهج الذي أخفقت فيه زعيمة العالم عن القيام بدورها القيادي، بعد أن تراجعت بصورة مؤسفة عن الأهداف التي وضعتها لنفسها بنفسها عشية انطلاق هذه الجولة، حين وضعت متطلبات بدء المفاوضات بوقف تام لكل أشكال الاستيطان وإجراء محادثات تشمل مختلف القضايا المدرجة على جدول أعمال الحل الدائم. ويكفي إلقاء نظرة سريعة على مآلات المفاوضات المباشرة بعد مضي نحو شهر على انطلاقها من واشنطن، ورؤية ارتطام هذا المنهج التفاوضي لإسرائيل بصخرة الاستيطان الذي انفلت من عقاله غداة ما سمي بانتهاء فترة التجميد المؤقت، حتى نكتشف بكل جلاء ووضوح أن حسن النية الأميركية مهما كانت وفيرة لا تكفي وحدها لحمل اليمين الإسرائيلي المتطرف على التخلي عن أهدافه التوسعية، إذا لم تقترن الإرادة الحسنة مع ممارسات ضغوط دبلوماسية ومواقف أميركية واضحة في انحيازها للشرعية الدولية والقانون الدولي، ومع موقف فلسطيني موحد. القدس في المشروع الوطني الفلسطيني والأخطار المحدقة بها بعد كل هذا العرض الموجز عن مجريات العملية التفاوضية الراهنة، وهي تدخل في المأزق الذي كان متوقعاً لها من قبل، فإنني لا أجيز لنفسي أن أختتم شهادتي هذه كمفاوض، أو قل كشاهد عيان عن كثب، دون أن أمر على قضية القدس، ليس فقط بصفتي واحداً من أبنائها، ولا لأنها القضية المركزية الكبرى المتحكمة بمستقبل العملية السلمية، والنقطة الفاصلة بين خياريّ: الحرب والسلام، وإنما كذلك لأنني عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية المسؤول عن ملف القدس، التي تتعرض منذ أمد بعيد لهجمة استيطانية تهويدية لا تقل خطورة عن قرار إسرائيل بضم هذه المدينة وإعلانها عاصمة أبدية موحدة لها منذ حرب العام 1967. ذلك أن القدس تعرضت منذ الاحتلال الإسرائيلي الكامل لها إلى سعي إسرائيلي تهويدي محموم لتغيير الواقع الديمغرافي والجغرافي والمعالم التاريخية والعمرانية والدينية للمدينة المقدسة، عبر محاولات مستمرة لتغييب الهوية الحضارية الإسلامية والمسيحية العربية للمدينة، لصالح الإدعاء التاريخي المزعوم بأنها مدينة اليهود، وخصوصاً ما يتعلق بإعادة بناء الهيكل المزعوم على أنقاض المسجد الأقصى المبارك، وذلك بعد أن قامت إسرائيل كقوة احتلال بإعلان ضم المدينة المقدسة إلى كيانها السياسي في يوليوز 1980، وبالمصادقة على تعديل هذا القانون عام 2000 بمنح حماية دستورية وقانونية لفرض القانون الإسرائيلي على القدسالشرقية، بهدف منع أي حكومة إسرائيلية من التوصل لأي اتفاق يمس السيادة الإسرائيلية المزعومة على القدس. كما عمدت إسرائيل طوال الوقت إلى إتباع سياسية تقليص التواجد الفلسطيني داخل حدود البلدية الجديدة التي رسمتها إسرائيل، لإحكام سيطرتها على المدينة المقدسة من الناحية الجغرافية والسكانية، ومن خلال مصادرة الأراضي الأميرية لصالح الجيش والأغراض العسكرية وبناء المستوطنات الجديدة وتوسيع القائم منها، إضافة إلى استملاك ومصادرة الأراضي بقوة السلاح والتزوير، لتشكيل محيط حيوي لمعسكرات الجيش والمستوطنات فيما عرف بمناطق محميات طبيعية يحظر على الفلسطينيين استخدامها أو استغلالها أو الاقتراب منها، ناهيك عن الطرق الالتفافية والسعي لإخراج المقدسيين من أراضيهم عبر أساليب وسياسات القمع والسجن والاعتقال والمضايقات، وفرض الضرائب الباهظة والملاحقات القضائية التي تثقل كاهل الأفراد والمؤسسات المقدسية، ومنع البناء وهدم منازل المقدسيين بحجج واهية ومناقضة لكل القوانين والأعراف الدولية. وقد بلغت الوقاحة السياسية والصلف الإسرائيلي في تحدي كل ما هو شرعي وقانوني وإنساني حداً جعل سلطات الاحتلال تطلب من المقدسيين أن يقوموا بهدم منازلهم بأيديهم تحت شعار عنصري «اهدم بيتك بنفسك»، ففي هذا العام صدرت قرارات بهدم 200 منزل في حي البستان داخل حي سلوان في البلدة القديمة من القدس، في خطوة تهويدية لفرض واقع جديد وخلق ما يسمى «بالحوض المقدس»، وهو مصطلح استخدمته إسرائيل في نهاية القرن الماضي كأداة تهديد لمصير البلدة القديمة وضم أكبر مساحة ممكنة منها. ولقد نجحت الإجراءات التهويدية الإسرائيلية في مدينة القدس على مدى سنوات الاحتلال التي تجاوزت الأربعين عاماً، لا سيما بعد إقامة جدار الفصل العنصري المشؤوم بتحويل المدينةالمحتلة إلى حالة لا يمكن وصفها إلا بأنها مستوطنة كبيرة محاصرة من جميع الاتجاهات، فهي ليست كأي مدينة فلسطينية في الضفة الغربية، بل هي مدينة محاصرة ابتلعتها مستوطنات إسمنتية أصبحت مدناً في قلب المدينة وحولها، وزجت فيها بأعداد لا حصر لها من المستوطنين، سواء القادمون من العالم أو من مستوطنات أخرى في الضفة المحتلة. كما تم إقصاء الأحياء الفلسطينية قسراً وحشرها في جيوب متناثرة بين أطراف المدينة، وإحاطتها بالمستوطنات التي التفت حولها، تزحف وتتوسع وتنهش كالغول ما تبقى من مساحات من الأرض التي منع فيها البناء الفلسطيني. وفي مقابل ما تقوم به إسرائيل من تطهير عرقي للمدينة المقدسة من سكانها العرب الأصليين، وإخراج الأحياء الفلسطينية المقدسية خارج الجدار، يتم العمل وبشكل محموم وفي سباق مع الزمن على ضم التجمعات اليهودية وقطعان المستوطنين إلى داخل المدينة، لتحقيق مشروع القدس الكبرى. وفي واقع الحال، نحن أمام مدينة أقامت حكومة الاحتلال الإسرائيلي على مداخلها خمسة عشر حاجزاً احتلالياً شكلت معابر صممت كمعابر دولية للمدينة، لتحولها إلى سجن كبير مفتاحه بيد المحتل، وكذلك لنفي صفة الاحتلال عن المدينة وإحداث شعور عام وكأن الداخل إليها يتوجه إلى دولة أخرى، خصوصاً بعد إقامة جدار الضم والفصل والتوسع العنصري في شهر حزيران من العام 2002، الأمر الذي أدى إلى تسمين المستعمرات القائمة من حيث المساكن، وإنشاء وحدات استيطانية جديدة ضمن حدود المستعمرات القائمة. وبهذا تم ضم 88% من سكان المستعمرات إلى المنطقة الواقعة داخل الجدار. وفي نفس الفترة اتسعت وتصاعدت هجمة الأذرع الاستعمارية الاستيطانية من خلال إنشاء البؤر الاستيطانية، حيث بلغ عددها الكلي 205 بؤرة في نهاية العام 2009، وبالإجمال فقد تطور عدد المستعمرات في الضفة الغربية خلال السنوات 2009-1967 إلى 144 مستعمرة، بينما تضاعف عدد المستعمرين في الضفة الغربية أكثر من 40 مرة خلال تلك السنوات. إن الخطة الإسرائيلية المستقبلية الخاصة بالقدس عام 2020 تهدف إلى إخراج الأحياء والقرى والمخيمات الفلسطينية من المدينة وفي المقابل ضم الكتل الاستيطانية إليها، ما سيؤدي إلى تغيير الواقع القائم منذ آلاف السنين، حيث سنصبح أمام مدينة تخضع بشكل قسري لعملية إجهاض لتاريخها ونمطها العربي الإسلامي المسيحي من خلال تنفيذ مشاريع منها مشروع (عوزي فكسلر) المدير العام لجهاز التطوير في بلدية القدسالمحتلة، والذي ينص على هدم أسوار مدينة القدس القديمة مع تدمير المباني العربية التاريخية المقامة بين ثنايا هذه الأسوار، وبناء الهيكل المزعوم على أنقاض المسجد الأقصى بمنشآته وأوقافه وساحاته وعلى أنقاض هذه المعالم التي يصار إلى هدمها، ، وإنشاء شبكة قطارات كهربائية في قلب المدينة، وإقامة برج مراقبة بارتفاع (250) متراً، وتنفيذ مشروع تطوير المركز التجاري في القدسالشرقية. ويعمل هذا المشروع على تغيير المكانة التاريخية والدينية والعمرانية للقدس، وفق النظرة اليهودية المستندة إلى ما تسميه الحوض المقدس، وهو المنطقة الواقعة بين جبل الزيتون والحي اليهودي ومركز حارة النصارى حتى سلوان إلى باب الساهرة ورأس العمود والشيخ جراح وواد الجوز، وتحويل المدينة المقدسة ومنطقة الحرم إلى معالم سياحية وحدائق، وتطوير نظام المواصلات بينها لاجتذاب سياح العالم وإدخال المقدسات المسيحية والإسلامية في المشروع إلى جانب ما يزعم من المقدسات اليهودية فيها، وكذلك إنشاء شركة للإشراف عليها، وهذا المشروع عبارة عن خطة مفصلة لتهويد القدس والسيطرة على المسجد الأقصى تحت شعار تطوير السياحة في القدس. إن واقع المدينة المقدسة المحاصرة يتطلب وقفة موضوعية مع الذات، بكل حكمة ومسؤولية، بهدف تحصين مكتسباتنا، وترسيخ مواطن القوة في مسارنا السياسي والتنموي، والتصدي لمكامن الخلل فيه. كما يتطلب منا جميعاً، أصحاب قرار ومفكرين وباحثين ومخططين فلسطينيين وعرب، الوقوف وقفة جادة تستند إلى واقع معرفي وموضوعي لا يخلو من المنطق والدقة والرؤية الشاملة المعتمدة على تخطيط يستند في الدرجة الأولى إلى الحق الوطني والتاريخي لنا كفلسطينيين بشكل خاص، وكعرب ومسلمين بشكل عام، وعلى قرارات الشرعية الدولية والقانون الدولي. وفي ختام هذه الشهادة عن مفاوضات تريد لها إسرائيل أن تستمر حتى تستكمل قضم الأرض الفلسطينية وتمزيقها بالاستيطان والمصادرة وتهويد القدس وفصلها تماماً وبالكامل، ونسيان قضية اللاجئين بطرح ما تسميه يهودية الدولة والتوطين في الخارج وقتل المشروع الوطني الفلسطيني. هذه الشهادة التي أضعها بين يدي إدارة ومفكري واحدة من أهم خلايا الدماغ النشطة في العقل العربي، وأعني به مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، أود أن ألقي نظرة على الوضع الفلسطيني في سياقه الأشمل، كمكوّن من مكونات الوضع العربي القائم، لأقول إننا نقف اليوم على مفترق طرق وعر ومحفوف بشتى الأخطار. فنحن في بيئة إقليمية ودولية تبدلت تبدلاً هائلاً عما كانت عليه بالأمس القريب، تبدلت فيها القوى والمفاهيم والرؤى والموازين، وتقلبت على شعوبها العقائد والنظم والتحالفات والقوانين، إلى حد يبدو فيه الأمس وكأنه تاريخ بعيد، ويتجلى فيه الحاضر كفرع شجرة مقطوع عن الجذع، فيما المستقبل يتقدم بخطى سريعة وبقوة ذاتية متعاظمة قادرة على كسر المسلّمات العتيقة، وتقويض الحقائق التاريخية، واجتياز الحدود والسدود، وتغير معنى القوة ومغزى السيادة ومدلول الشرعية ومفاهيم العدل والحق والحرية، وغير ذلك كثير كثير مما أفرزته ثورة المعلومات الإلكترونية، وأنتجته حقبة هيمنة القطبية الأميركية أحادية الجانب وازدواجية المعايير الدولية. نعم لقد تبدل العالم من حولنا تبدلاً عميقاً، ونحن لا نزال نقف على مفترق الطرق ذاته، نواجه خيارات تضيق باضطراد، ونجيل أبصارنا في فضاء تكاد آفاقه تطبق على الأرض، نتداول فيما بيننا أوراقاً قليلة ذات صلاحية استعمال محدودة، نراهن على المتغيرات المستقلة تماماً عن فعل إرادتنا الذاتية، ونمسك عن تطوير الفعل الذاتي وتوظيفه التوظيف الأمثل في المكان الصحيح وفي اللحظة التاريخية المواتية لواقع الحال والآمال، لعلنا بذلك نتمكن من كسر متوالية الخسائر التي تغذي نفسها بنفسها منذ أمد بعيد. وعليه، فإنني أتطلع إلى أن نتمكن من مراجعة التجربة الوطنية الفلسطينية والعربية بكل ما لها وما عليها، وأن نقلّب محطاتها بجرأة عالية مع النفس: أين أصبنا وأين أخطأنا، من دون ادعاءات بالطهارة أو البراءة، ومن دون عملية جلد للذات وتبادل للاتهامات؟ أين قصرنا ومع من؟ مع أنفسنا، مع جيراننا، مع الأشقاء، مع الأصدقاء، مع العالم، أم مع كل هؤلاء بلا استثناء؟ أين هي مكامن قوتنا؟ هل هي في واقعية الخطاب واعتدال الطرح، أم هي في عدالة القضية وحجة الشرعية الدولية؟ على أي أرضية سياسية مناسبة علينا البناء؟ على أرضية المقاومة بأشكالها المختلفة والمتاحة، أم على أرضية العمل السياسي والمفاوضات؟ أم على أرضيتهما معاً؟. ومع أنه يمكن بسهولة إحالة ما آلت إليه هذه الأوضاع إلى كل من الاحتلال الإسرائيلي البغيض، والانحياز الأميركي والنفاق الدولي، والوضع الإقليمي ومشكلاته المستعصية، وحالة اللامبالاة العربية المؤلمة، وما إلى ذلك من أعداء وخصوم ومتآمرين، إلاّ إن ذلك كله لا يجيز لنا أن نلقي التبعات على كل هؤلاء وأولئك، ثم نغسل أيدينا من كل مسؤولية، وكأننا براء من كل ذنب، ضحايا أبديين لمؤامرة شيطانية لا نهاية لها أبداً.