وجدنا أنفسنا أمام حائط مسدود مع باراك منذ وقت مبكر على استلامه رئاسة الحكومة الإسرائيلية، وكنا كلما انخرطنا في لقاءات إضافية مع هذا الزعيم الإسرائيلي، اكتشفنا شخصية مغايرة لتلك الشخصية التي تمكن من تسويقها لدى الرأي العام الإسرائيلي والدولي، وكنا نلمس مع مرور الوقت نهجا يقوم على التسويف والمراوغة أكد رئيس طاقم المفاوضات النهائية السابق مع إسرائيل أحمد قريع وأحد مهندسي اتفاقية أوسلو الشهيرة بان المفاوضات تبدو بلا نهاية، مشيرا إلى أن 8 حكومات إسرائيلية تفاوضت مع الفلسطينيين وكان القاسم المشترك بينها الإصرار على الاستيطان الذي دفع القيادة الفلسطينية برئاسة محمود عباس إلى اتخاذ قرارها مؤخرا بوقف المفاوضات المباشرة مع حكومة بنيامين نتنياهو لحين وقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة عام 1967 وأوضح قريع في محاضرة ألقاها الأحد الماضي في مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية بأن المفاوضات مع إسرائيل باتت مجرد لعبة علاقات عامة لكسب المزيد من الوقت لتنفيذ برنامجها على الأرض ولعدم إغضاب الإدارة الأميركية. وأضاف قريع: وقبل أن أمضي في عرض بعض من جوانب هذه التجربة التي عايشتها على طول الطريق الممتد من أوسلو عام 1993 إلى أنابوليس عام 2007، وما تخلله من محطات عديدة، في القدسوواشنطن واستوكهلم وروما وطابا ورام الله وغيرها، أود أن أتوقف قليلاً عند واحد من أحد أهم المعطيات الثابتة في هذه التجربة التفاوضية المديدة، وأعني بذلك الخيط الناظم لسياسة إسرائيل عبر سائر حكوماتها المتتالية منذ بدء عملية المفاوضات، التي تعاقب عليها ثمانية رؤساء حكومات، كان لكل واحد منهم تكتيكياً خاصاً به، وأسلوباً إخراجياً مختلفاً عن سابقه، إلا أنهم كانوا في المحصلة الأخيرة يعزفون ذات الأوركسترا الاستيطانية التوسعية المناهضة لحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدسالشرقية. وتابع قريع: فمنذ انطلاقة المفاوضات الفلسطينيّة - الإسرائيليّة في مؤتمر مدريد للسلام في أكتوبر 1991، أي منذ قرابة تسعة عشر عاماً، خضنا سلسلة بالغة الدِّقة والتعقيد لعمليّة تفاوضيّة شكّلت، في معظم مساراتها، ما يشبه فصولاً لمسرحيّة تنتمي إلى مسرح اللامعقول، شارك في بطولتها ثمانية من رؤساء الحكومات الإسرائيليّة المنحدرين من تيارات سياسيّة يمينيّة متطرِّفة ويساريّة عمّاليّة صهيونيّة، بطواقمها المختلفة، التي لم تختلف كثيراً عن بعضها البعض، في توجهاتها السياسيّة وأهدافها التي لم تتنازل قيد أنملة عن جوهر المشروع الاستيطاني الصهيوني الاستعماري التوسعي. بينما مثل الجانب الفلسطيني، في هذا المشهد التفاوضي المديد رئيسان لمنظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية هما الرئيس الشهيد ياسر عرفات، والرئيس محمود عباس. كما كان يوجد على الجانب الآخر من المشهد وسيط أمريكي تعاقب على أدائه كل من الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب، والرئيس بيل كلينتون، والرئيس جورج دبليو بوش الابن، وأخيراًُ الرئيس باراك أوباما. فيما ظل يجلس على مقاعد المتفرجين على العرض المسرحي كل من الدول العربية، ودول الاتحاد الأوروبي وروسيا، والأممالمتحدة بجمهورها العالمي، وبقي الشعب الفلسطيني طوال عرض هذا المشهد واقعاً تحت سياط الاحتلال وقمعه وجبروته. قد يكون الوقت قد طال أكثر مما ينبغي لمراجعة هذا المسار الطويل الملتبس لعملية مفاوضات ظلت متعثرة، تخرج من مأزق حاد لتدخل في مأزق أكثر حدة من سابقه. ومع ذلك فإن من المفيد إجراء المراجعات المطلوبة، وإعادة تقويم هذه العملية في هذه الآونة التي انكشفت فيها تماماً بواطن النوايا الإسرائيلية الرامية إلى كسب مزيد من الوقت لفرض مزيد من حقائق الأمر الواقع، بما في ذلك مصادرة الأرض وتوطيد دعائم العملية الاستيطانية التي تسابق الزمن، لعلنا بمثل هذه المراجعة نتمكن من تصويب المواقف العربية والفلسطينية، واستشراف الممكنات المستقبلية بصورة واضحة، واختيار البدائل الواقعية المناسبة. وأضاف قريع: وقبل إجراء مثل هذه المراجعة، ودراسة الخيارات والبدائل الممكنة، لا بد لنا من التعرف على المحصلة غير المكتملة لهذه التجربة التي عبرت أزمنة ثمانية رؤساء حكومات إسرائيلية متتالية، كل زمن منها مجرد تنويع في الشكل، يغطي على الإستراتيجية التفاوضية الإسرائيلية. وعرض أحمد قريع هذه التجربة في محطاتها الثمانية المتتالية مع ثماني حكومات إسرائيلية، كما يلي: السادسة - حكومة آرييل شارون لقد كانت التوترات السياسيّة في المنطقة، بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وميل الشارع الإسرائيلي نحو مزيد من التطرف والانحياز اليميني، فرصة لتسلُّم آرييل شارون رئاسة الحكومة الإسرائيليّة. وبالتجاوز عن تفاصيل لا يتسع لها المقام، فقد كانت الانتخابات الرئاسية الأميركية في تلك الأثناء تنتهي بفوز المرشح الجمهوري جورج بوش الابن، فيما كان المسرح السياسي الإسرائيلي يتهيأ وفق كل المؤشرات، لانتهاء عهد باراك لصالح مرشح الليكود أرييل شارون القادم بالنسبة إلينا من ذاكرة مثخنة بصور ضحايا المجازر في صبرا وشاتيلا ومشاهد الاجتياحات، بل كبلدوزر للاستيطان والتوسع والمصادرات، ورمز لا يعلو عليه في العنف وسفك الدماء وعجرفة القوة والعداء. ورغم ذلك كله وفيما كان الوقت المستقطع، قبل وضع تلك الاستحقاقات والتغيرات السياسية الدولية والإقليمية موضع التطبيق، فقد أجرينا في طابا مع فريق مفاوضات إسرائيلي ذي رغبة جادة في الوصول إلى اتفاق، آخر جولة مفاوضات كادت أن تستدرك نتائج فشل مفاوضات كامب ديفيد لولا أن ساعة الرمل كانت تعمل بسرعة أشد من سرعة تحقق تلك الرغبات المتقابلة ببناء أرضية اتفاق سلام كان في متناول اليدين. في غضون ذلك كله كانت الانتفاضة الثانية، التي بدأت مع تلك الزيارة الاستفزازية العدوانية المخطط لها إلى ساحات المسجد الأقصى من جانب أرييل شارون، وكان زعيماً للمعارضة الإسرائيلية في حينه، تتصاعد شعبياً وباضطراد شديد، وتعم مختلف مناطق الضفة الغربيةوالقدس وقطاع غزة، بل ووصلت إلى المدن والتجمعات العربية وراء الخط الأخضر، الأمر الذي أدخل متغيراً كبيراً على المشهد السياسي، وأدخل الصراع القائم في طور جديد، بدت فيه كل المكونات الفلسطينية، بما فيها السلطة الوطنية الناشئة، كطرف مستهدف على طول الخط المستقيم، من قبل قوات الاحتلال بكل أذرعها الأمنية، التي راحت تستدرج ردود فعل فلسطينية عفوية، لتبرير خطة مبيتة لإضعاف السلطة الوطنية وتقويضها فيما بعد، والعودة بالصراع إلى المربع الأول الذي تمتلك فيها إسرائيل سائر عناصر التفوق المادي. وكان لافتاً لنا في تلك المرحلة المبكرة من زمن الانتفاضة، الميول المفرطة من الجانب الإسرائيلي لاستخدام أشد ما في حوزته من أسلحة فتاكة وغير متناسبة على الإطلاق، مع مظاهر الانتفاضة وفعاليتها الشعبية، بما في ذلك استخدام الطائرات الحربية القاذفة المقاتلة من نوع F16 ومدفعية الميدان والدبابات، على نحو ما حدث في مدينة نابلس ورام اللهوغزة وغيرها. إن ما حفلت به وقائع الفترة الأخيرة من عهد إيهود باراك، وما خالطها من تشوش واضطراب وعنف وسوء تقدير ومراوغات، أسست في واقع الأمر لفضاء الحقبة الطويلة التالية من عهد أرييل شارون، وفتحت الباب واسعاً أمام العواصف التي حفلت بها هذه الحقبة الدامية، إلى حد بدت لنا نُذُر الانقلاب المتوقع في الخريطة السياسية الإسرائيلية آنذاك، أنها من صنع المؤسسة الرسمية الإسرائيلية قادها وبدأها باراك نفسه الذي وضع بنود أجندة جديدة لمن سيليه في الزعامة، وفتح سياقات لعبة إسرائيلية متجددة، ومهد الأرض تماماً أمام الزعيم الإسرائيلي القادم مباشرة من ساحة المسجد الأقصى إلى سدة رئاسة الحكومة، بكل ما عُرف عن هذا القادم المدجج بالعنف والاندفاع، من معارضة شديدة للعملية السلمية، ورغبة جامحة للاستحواذ على الأرض، والميل المفرط إلى فرض سياسة الأمر الواقع، وما إلى ذلك من سمات عديدة طبعت رئيس الحكومة الإسرائيلية اليميني الجديد بطابع العنف والتعصب. خلاصة الأمر، لقد أدى كل هذا التشويش والاضطراب، وكل هذه الشكوك والممارسات، إلى إضعاف منطق الاعتدال الفلسطيني من جهة، وإلى تعزيز قوة المواجهة بأشكالها المختلفة لدى الشارع من جهة أُخرى، الأمر الذي أوقع القيادة الفلسطينية بين مطرقة سياسات باراك المنفلتة من كل التزام أو اتفاق أو تفاهم سابق، وسندان الشارع الفلسطيني المتشكك، وفيما كانت قوى التطرف الإسرائيلي تحصد مزيداً من الشعبية، وتتبارى في إظهار انحيازها إلى منطق القوة والعنف،فانه في واقع الأمر، وجدنا أنفسنا أمام حائط مسدود مع باراك منذ وقت مبكر على استلامه رئاسة الحكومة الإسرائيلية، وكنا كلما انخرطنا في لقاءات إضافية مع هذا الزعيم الإسرائيلي الذي قال عقب انتخابه إن الوقت قد حان لإحلال السلام، اكتشفنا شخصية مغايرة لتلك الشخصية التي تمكن من تسويقها لدى الرأي العام الإسرائيلي والدولي، وكنا نلمس مع مرور الوقت نهجاً يقوم على التسويف والمراوغة. إن الموقف الذي وجدت فيه القيادة الفلسطينية نفسها في أعقاب التطورات السلبية السابقة كلها، وخصوصاً بعد فشل كامب ديفيد والعنف والقمع الإسرائيلي، وبعد تلك السابقة الهامة التي أثارها الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب اللبناني بفعل ضربات المقاومة، وبعد أن استمرت الانتفاضة عدة أشهر حافلة بالدماء وقوافل الشهداء والأسئلة المحيرة، كان هذا الموقف على درجة من التعقيد، حيث أدى إلى نشوء حالة من القلق حيال أي موقف أو خطة يمكن اعتمادها لمواجهة هذا الحشد الهائل من التحديات والأسئلة والاحتمالات المفتوحة على كل الاتجاهات. لم يكتف رئيس الوزراء الإسرائيلي شارون بتصعيد المواجهة مع ياسر عرفات والشعب الفلسطيني، ورفض التفاوض مع القيادة الفلسطينيّة من حيث المبدأ، حيث رفض أن تلمس يده يد القائد الفلسطيني في قمّة واي ريفير، ولم يكتف بذلك، بل شرع منذ اليوم الأول لرئاسته، في إطلاق حملة استيطانيّة مكثّفة، تكريساً لنهجه في فرض الأمر الواقع على الأرض، فقد شهدت تلك الحملة حمّى استيطانيّة غير مسبوقة في الضفة الغربية وفي مدينة القدس على وجه التحديد. وفي عهد شارون، انسحبت إسرائيل، في خطوة أحاديّة وغير منسّقة مع الجانب الفلسطيني من قطاع غزّة، وشرعت بالمقابل وفوراً في بناء جدار الفصل العنصري، الذي أقيم على حساب أراضي عدد كبير من المدن والقرى الفلسطينيّة، وضرب نطاقاً استيطانياً حول مدينة القدس، وتسبب في عزل العديد من المناطق والقرى في فلسطين. ولم يتردد شارون عن إعادة احتلال الضفّة الغربيّة بكاملها، واقتحام مدنها وقراها، والعمل على تدمير المقرات الأمنيّة الفلسطينيّة، ومداهمة مؤسساتها المدنيّة والحكوميّة ومقرات وزاراتها والعبث بمحتوياتها وتخريبها، مع محاصرة المقاطعة، المقر الرسمي للرئيس عرفات، الذي ظلّ تحت الحصار حتّى تمكن الأعداء من القائد الفلسطينيّ الكبير، الذي استشهد في الحادي عشر من نونبر 2004. ففي فترة انتقالية مهمة، امتدت نحو خمسة أشهر بين اندلاع انتفاضة الأقصى في شتنبر وانتخابات الكنيست الإسرائيلي في فبراير 2001، وكان إيهود باراك رئيساً للحكومة الإسرائيلية، استمرت الجهود الدبلوماسية والمساعي الحكومية، ليس فقط من أجل وقف إطلاق النار وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه عشية بدء الانتفاضة الثانية، بل أيضاً من أجل استئناف المفاوضات ومحاولة التقدم عن طريق التوصل إلى اتفاق يستدرك ما فشلت مفاوضات كامب ديفيد في التوصل إليه. في تلك الأثناء طرح الرئيس الأميركي بيل كلينتون معاييره لتحقيق سلام شامل، ثم جرت في طابا مفاوضات جادة ومكثفة عُرفت باسم مفاوضات اللحظة الأخيرة. كما تواصلت اللقاءات السياسية على أعلى المستويات بين طرفي الصراع من جهة، ومع الإدارة الأميركية من جهة أخرى. على أن التطور الأشد خطورة الذي وقع في غضون تلك المرحلة الدامية من حالة التصعيد العسكري المتبادل في مختلف المناطق الفلسطينية، كان قد تمثل في الهجوم الشهير على واشنطنونيويورك يوم الحادي عشر من شتنبر 2001، حيث أدت هذه الواقعة غير المسبوقة على الأرض الأميركية إلى تغيرات كاسحة في الرؤى والمواقف والمقاربات والاصطفافات الدولية، وأنتجت جملة من الاستخلاصات الكبرى والنتائج بعيدة المدى. في تلك الأثناء، كان المناخ السياسي الذي أوجده انصراف الإدارة الأميركية الجديدة عن بذل جهود دبلوماسية جادة، قد أخذ يرخي ظلاله الكئيبة على المشهد الفلسطيني وعلى المشهد الإقليمي في المنطقة، وكان التصعيد العسكري الهائل، الذي راكمه أرييل شارون منذ توليه الحكم قبل عدة أشهر، عبر خطته الأمنية التي تهدف إلى إخضاع الفلسطينيين بالقوة العسكرية وفرض الحلول التي يتوق إلى فرضها بالقوة، قد وفر البيئة الملائمة والشروط العملية المواتية لجولات جديدة في ردات الفعل المتبادلة على الأرض. وكانت فصائل المعارضة قد تمكنت من الدخول بقوة على خط الانتفاضة، عبر سلسلة من العمليات التي كانت تلقى صدى إيجابياً واسعاً لدى الأوساط الشعبية الفلسطينية المرحبة بكل عمل ثأري من شأنه أن يشفي غليل مشاعر الانتقام من قوة احتلال غاشمة أفرطت في استباحة الدم الفلسطيني، وأمعنت في سلسلة من الأعمال الوحشية ضد المدنيين الفلسطينيين من دون رادع، فضلاً عما يمكن أن تشكله تلك العمليات الثأرية من قوة ردع تكتسب صدقية متزايدة وتخلق ما يمكن أن نسميه ميزان خوف متبادل. كانت حكومة شارون التي تولت الحكم في إسرائيل قبل نحو ستة أشهر من 11 سبتمبر، قد نجحت في جر إدارة الرئيس الأميركي الجديد، الذي كان قد دخل البيت الأبيض في وقت متقارب من دخول شارون مكتب رئيس الحكومة، إلى موقف قريب من المفهوم الإسرائيلي الرائج بشأن ما أصرت كل الحكومات الإسرائيلية السابقة على تسميته بالإرهاب، إلاّ إنه على الرغم من ذلك ظلت هناك بعض الفوارق بين المفهومين: الأميركي والإسرائيلي فيما يتعلق بالتشخيص والتوصيف لما يعتبر بحق مقاومة مشروعة ضد احتلال أجنبي طويل لا يدعمه أي قانون دولي ولا تقر به أي شرعية دولية، وبين مزاعم إسرائيل وإدعاءاتها وخططها وبرامجها على هذا الصعيد. غير أن النجاح الأكبر لحكومة شارون في تلك المرحلة المبكرة من حكم الرجلين اللذين صارا صديقين، تمثل في إقامة ما يشبه الحُرم الأميركي على التعامل المباشر مع الرئيس ياسر عرفات قائد الشعب الفلسطيني المنتخب وزعيمه التاريخي، بعد أن نجح شارون في إقناع صديقه الوافد إلى البيت الأبيض أن ياسر عرفات يقف بنفسه ويقدم التمويل لما أسمياه الاثنان أعمالاً إرهابية. وقد ساعدت التوصيفات الأميركية الأولية المرتجلة لما وقع في نيويوركوواشنطن، وما شاب تلك التوصيفات من أحاديث عفوية وزلات لسان قد تكون مقصودة، عن هوية العدو الجديد، بما في ذلك الحديث عن صراع الحضارات وعن الحرب الصليبية وغير ذلك، في تسهيل مهمة إسرائيل الساعية بدأب شديد إلى دمج حربها ضد الشعب الفلسطيني في ما بدأت تلوح معالمه من حرب عالمية ضد الإرهاب، ستقودها الولاياتالمتحدة فيما بعد بكل جبروتها ونفوذها ومواردها العسكرية والاقتصادية والإعلامية اللامحدودة. ولولا الحاجة الأميركية الماسّة لبناء تحالف دولي واسع، يضم إليه أقوام من العرب والمسلمين، لجرى على رؤوس الأشهاد تصنيف الكفاح الوطني الفلسطيني في حينه على أنه إرهاب، وتم التعامل مع ياسر عرفات منذ ذلك اليوم على أنه بن لادن آخر كما كان يقول شارون، ومع المنظمة والسلطة على أنها طالبان، وذلك على نحو ما أخذت تروّج له إسرائيل علناً، وتحاول إقناع الولاياتالمتحدة به بإلحاح. وبعيداً عن حقل المناورات التكتيكية، والمراوغات الدبلوماسية، كانت التمهيدات الأميركية لشن الحرب على أفغانستان، وما تقتضيه من ضرورات بناء تحالف دولي واسع، تجري على قدم وساق داخل الولاياتالمتحدة وخارجها. وفي إطار تلك التمهيدات الأولية صاغت الإدارة الأميركية الجديدة لنفسها رؤية جديدة لمستقبل الصراع في الشرق الأوسط، كان علامة فارقة في مجمل السياسات الأميركية التقليدية إزاء هذا الصراع التاريخي المديد. إذ على الرغم من المحاولات الإسرائيلية، وما أحدثه 11 سبتمبر من خلط للأوراق، وما لحق بالعرب والمسلمين من أذى، فإن القضية الفلسطينية سجلت واحداً من الإنجازات التي تواصل العمل على مراكمتها، عندما أعلن الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش في خطابه أمام الجمعية العامة التابعة للأمم المتحدة في 10 نونبر 2001، أن إدارته تعمل من أجل شرق أوسط تعيش فيه دولتان: إسرائيل وفلسطين، بسلام معاً ضمن حدود آمنة ومعترف بها. وهو ما اعتبر أول اعتراف أميركي رسمي وعلى أعلى مستوى بضرورة إقامة الدولة الفلسطينية. في ذلك الوقت الحرج من عمر الصراع المحتدم على كل صعيد، بدا أن الفرصة المتاحة أمام القيادة الفلسطينية قد أخذت في التقلص على نحو عياني ملموس، حين تمكن المحافظون الجدد من إعادة إنتاج درجة عالية من التطابق بين وجهة النظر الأميركية ووجهة النظر الإسرائيلية بشأن تعريفات الإرهاب وتطبيقاته، وتمكنوا كذلك من إعادة التقارب الشخصي بين بوش وشارون الذي سبق أن قدم نفسه للرئيس الأميركي بأنه أقدم محارب ضد الإرهاب، ودافع عن وجهة نظره القائلة إنه لا يوجد إرهاب خيّر وإرهاب شرير، فالإرهاب هو الإرهاب، وإن ما تقوم به إسرائيل ضد الإرهاب الفلسطيني ما هو إلا جزء مما تعتزم أميركا القيام به ضد الإرهاب الدولي، الأمر الذي يتوجب معه، والحالة هذه، تنسيق الحرب الأميركية الإسرائيلية على الإرهاب في كل مكان، إذ ستركز الولاياتالمتحدة جهودها ضد طالبان وأسامة بن لادن، فيما تواصل إسرائيل جهودها المركزة على المعادل الفلسطيني للحالة الأفغانية، أي منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية وياسر عرفات في غضون تلك الفترة المشحونة بكل عوامل الانفجار على المستوى الإقليمي الواسع، ولدت مبادرة السلام العربية من رحم واقعتين حربيتين كبيرتين هما: واقعة 11 سبتمبر 2001 وواقعة الانتفاضة الثانية التي حدثت قبل وقت قصير من الهجوم الدموي على نيويوركوواشنطن، فبدت هذه المبادرة كأنها بداية هجوم دبلوماسي عربي شامل لوقف حالة التدهور المتفاقمة في الأراضي الفلسطينية من جهة أولى، ومنع بناء صورة نمطية سلبية عن العرب في أذهان الأميركيين، قوامها الإرهاب والعنف المقيت، على نحو ما كان آخذاً في التشكل بصورة متسارعة لدى مختلف الأوساط الغربية آنذاك. وفي غمرة التداعيات الشديدة هذه، والمضاعفات السلبية الخطرة لأحداث 11 سبتمبر، لم يتمكن كثير من المراقبين من رؤية البعد الفلسطيني العميق لمبادرة ولي العهد السعودي الذي أدرك بحسه السياسي الثاقب مدى المخاطر الناجمة عن تنامي مشاعر الغضب لدى العرب والمسلمين على العلاقات بين البلدان العربية والدول الغربية، جرّاء ازدياد بشاعة صور الضحايا الفلسطينيين المنقولة عبر الأقمار الصناعية يومياً، وتعاظم الاحتجاجات الشعبية والاحتقانات لدى الشعوب العربية، وعلى إسرائيل والدول الغربية الداعمة لها، ولا سيما الولاياتالمتحدة الأميركية. ففي ذلك الحين، أي قبل نحو شهر من 11 سبتمبر أبدى الرئيس الأميركي استجابة أولية لهذا التحرك الدبلوماسي السعودي، إذ رد على الأمير بندر بن سلطان سفير المملكة السعودية خلال لقاء في البيت الأبيض، قائلاً إن الحل النهائي لهذه الأزمة الطويلة والمعقدة ينبغي أن يتضمن قيام دولة فلسطينية بعد أن تتم السيطرة على العنف هناك. وبعد شهرين من الحدث الكارثي، أي في 11/11/2001 كان الرئيس بوش يلقي خطابه السنوي المشار إليه آنفاً أمام الأممالمتحدة، عارضاً للمرة الأولى قيام دولة فلسطينية، إذ قال: (نحن نعمل في اتجاه يوم تعيش فيه دولتان، إسرائيل وفلسطين، بسلام معاً، ضمن حدود آمنة ومعترف بها، وفق ما دعت إلى ذلك قرارات مجلس الأمن الدولي). وعلى أي حال فقد تجاهلت إسرائيل، وهي المخاطبة بهذه المبادرة، كل ما انطوت عليه الدعوة العربية الرسمية الأولى لسلام كامل، مقابل الانسحاب الكامل من كافة الأراضي العربية والفلسطينيةالمحتلة عام 1967، وحل عادل ومتفق عليه لقضية اللاجئين وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدسالشرقية وذلك مقابل التطبيع الكامل. وبينما كانت الدبابات الإسرائيلية تشدد حصار مقر الرئيس ياسر عرفات، كإعلان مدوٍ عن رفض حكومة شارون هذه المبادرة، كانت الإدارة الأميركية تصف على لسان الناطقين باسمها لهذه المبادرة ب»الخطوة الإيجابية والمهمة.» وبعد عدة أيام من إعلانها، وصف وزير الخارجية الأميركي كولن باول المبادرة بأنها «خطوة مهمة»، في حين مدح الرئيس بوش أفكار ولي العهد السعودي واصفاً إياها ب»مذكرة مفعمة بالأمل»، ثم تلته مستشارته للأمن القومي كونداليزا رايس بموقف مادح ومماثل لموقف رئيسها حيال هذه المبادرة. ولم تكتف إسرائيل بتجاهل مبادرة السلام العربية والحط من قدرها والتقليل من أهميتها ومغازيها التاريخية، بل عمدت في الوقت ذاته، وقبل أن يجف حبر هذه المبادرة، إلى شن أكبر وأوسع عدوان عسكري شامل لها في الضفة الغربية، منذ قيام السلطة الوطنية الفلسطينية، وهو ما بدت معه هذه العملية وكأنها الرد الإسرائيلي الملموس على العرض العربي الجماعي بتحقيق السلام العادل والشامل، أكثر مما بدت رداً على سلسلة من العمليات المتتابعة في ذلك الوقت. لقد شكلت هذه العملية العسكرية الإسرائيلية الواسعة إعادة احتلال كامل للضفة الغربية، مقوضة بذلك كل ما كنّا قد توصلنا إليه من اتفاقيات سابقة مع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة. كما بدت النوايا الإسرائيلية تشير إلى ما هو أبعد من القيام برد انتقامي على تلك السلسلة من العمليات الفلسطينية، وذلك عندما توجهت الجرافات والدبابات الإسرائيلية إلى مقر الرئيس ياسر عرفات المحاصر أصلاً في المقاطعة داخل مدينة رام الله وقامت بتدمير جميع جوانبه وساحاته لإحكام حصار الرئيس عرفات وقطع جميع الاتصالات الداخلية والخارجية معه، وساد لدينا شعور منذ تلك اللحظة أن لدى إسرائيل تقدير مفاده أن حكومة شارون، التي كانت تتهيأ منذ مدة للانقضاض على البنية القيادية للسلطة، قد شرعت الآن في اتخاذ آخر الخطوات لها على هذا الصعيد، وخصوصاً بعد أن بات الرمز الفلسطيني أبو عمار هو المستهدف مباشرة بهذه العملية العسكرية العدوانية الواسعة, وهو ما عبر عنه رئيس المخابرات الإسرائيلية (الشاباك) أفي ديختر في دفاعه عن ايهود باراك مؤخراً أمام هجوم رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق أولمرت الذي اتهم وزير دفاعه بأنه لم يواصل هجومه على غزة لإسقاط حركة حماس حيث رد ديختر بأن أولمرت جاهل في الأمور العسكرية وأن إسقاط حماس يحتاج إلى حرب طويلة ومريرة، كما فعلنا في الضفة الغربية في عملية السور الواقي التي استمرت لمدة 3 سنوات ولم تتوقف إلا بعد موت ياسر عرفات، ويضيف ديختر أن حرباً مثل هذه لا يمكن إقرارها في الظروف التي تمت فيها الحرب على غزة. وفي غمرة تلك المساعي والاتصالات الجارية على قدم وساق، وكان بعضها أوروبياً وبعضها الآخر أميركياً، بدأت تلوح في الأفق البعيد ملامح مبادرة أميركية جديدة لمعالجة الموقف المتأزم، على نحو أبعد من كل تلك المعالجات السابقة ذات البعد الأمني الأحادي القاصر وقد تكاثرت الأنباء بشأن تلك المبادرة التي قد يعلنها الرئيس جورج بوش باسمه، على وقع الاستعصاء المتواصل في جهود سائر المبعوثين الأميركيين إلى المنطقة، وفشلهم في تحقيق تهدئة ولو مؤقتة، وفق ما كان يدعو إليه الوسطاء الدوليون كافة. ولم تمر سوى أسابيع قليلة على طرح هذه «الرؤية» الأميركية للتسوية، حتى قررت حكومة أرييل شارون في 4 دجنبر 2001، وقف كل اتصالاتها بالسلطة الفلسطينية، باعتبارها «كياناً داعماً للإرهاب»، ويجب «العمل ضدها وفقاً لذلك». ففي مطلع العام 2002، صعّدت الحكومة الإسرائيلية، هجومها على السلطة الفلسطينية، بعد أن اتهمتها بالوقوف وراء شحنة الأسلحة التي كانت تحملها سفينة متجهة إلى غزة، وشنت هجوماً واسعاً على مقر قيادة الرئيس ياسر عرفات في غزة، وذلك على الرغم من قيام الأخ أبو عمار بإدانة «الهجمات الانتحارية». وأصدر أريئيل شارون أوامره إلى الجيش الإسرائيلي باجتياح مدن الضفة الغربية وإعادة احتلالها بالكامل، وفرض الحصار الكامل على مقر الرئيس ياسر عرفات في مدينة رام الله، تحت اسم (عملية السور الواقي). وكانت الإدارة الأميركية قد تجاوزت سلفاً مع هذا التصعيد الإسرائيلي إزاء السلطة الفلسطينية، فأشار الرئيس بوش، في تصريح أدلى به في 25 يناير 2002، إلى أن ياسر عرفات «خيّب آماله»، ثم في 4 أبريل 2002، وبعد أن أكد بوش اعتراف الولاياتالمتحدة «بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها في وجه الإرهاب»، دعا حكومتها، بهدف «إرساء أسس السلام في المستقبل»، إلى وقف توغلها في الأراضي الواقعة تحت السيطرة الفلسطينية والبدء بالانسحاب من المدن التي احتلتها، معتبراً أن التزام الفلسطينيين بوقف إطلاق النار، واستئناف «تعاونهم الأمني مع إسرائيل ضد الإرهاب» يتطلبان وجود قيادة فلسطينية أفضل. وكانت التقديرات الأولية لدى الأوساط القيادية الفلسطينية تشير آنذاك إلى أن استمرار حديث جورج بوش، في تلك الفترة، عن «الدولة الفلسطينية» إنما يهدف إلى تهدئة مشاعر شعوب العالم العربي وإقناع الأنظمة العربية بتأييد الحرب الأميركية الوشيكة على العراق. وهكذا، وبعد أن قادت الولاياتالمتحدة تحالفاً غربياً واسعاً لغزو العراق في مارس 2003، وفككت النظام القائم واحتلت بلاد ما بين النهرين، عادت مجدداً، وأظهرت رغبة في تحريك عملية السلام، بدءاً من وقف إطلاق النار كشرط لا بد منه من أجل العودة إلى مائدة المفاوضات التي هجرها أرييل شارون منذ توليه مقاليد الحكم في إسرائيل. ومن جانبها حاولت إسرائيل، بلا نجاح يذكر، إعادة تقديم ياسر عرفات إلى الأميركيين المتأهبين لغزو العراق على أنه صدام حسين مرة، وأنه نسخة معدلة من أسامة بن لادن مرة أخرى، تماماً على نحو تلك المحاولة البائسة التي قامت بها عشية الحرب على أفغانستان بتصوير عرفات أنه بن لادن بصورة منقحة. وبينما أبدت الإدارة الأميركية رفضها، مرة أُخرى، لمثل هذه التوصيفات الإسرائيلية، كان القادة الإسرائيليون يذهبون إلى مدى أبعد من ذلك، وخصوصاً غداة مقتل رحبعام زئيفي، قائلين: لقد انتهى عهد عرفات، وفق ما ردده شارون، أو أن السلطة هي كيان إرهابي، وفق ما قاله شاؤول موفاز رئيس الأركان، أو أن الرئيس الفلسطيني قد أنهى دوره التاريخي بنفسه، بحسب ما زعم بنيامين بن أليعيزر وزير البنية التحتية. وبعد إعلان انتهاء العمليات العسكرية الأميركية الكبرى في العراق، وبهدف الحفاظ على دعم الأنظمة العربية «المعتدلة» دعمت إدارة بوش رسمياً، في 30 أبريل 2003، مبادرة «خريطة الطريق» وكانت اللجنة الرباعية، المشكّلة من ممثلين عن الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والأممالمتحدة، قد وافقت، منذ 17 شتنبر2002، على الخطوط العريضة لهذه الخطة وكانت واشنطن قد جعلت من استحداث منصب رئيس الحكومة شرطاً محورياً لطرح «خريطة الطريق» على مائدة المفاوضات المنتظرة بين فلسطين وإسرائيل، مستجيبة بذلك لطلب مُلحّ من شارون الذي لم يتستَر مرة على سعيه المجنون ل»الانتصار» على الرئيس عرفات بتنحيته عن قيادة السلطة الفلسطينية، إذ إن لشارون حساباً طويلاً مع عرفات في أعقاب حرب لبنان ومجازر صبرا وشاتيلا، التي غرق في دم أبريائها وخرج منها يجر أذيال الهزيمة، علاوة على أنه فشل في كسر إرادة الصمود لدى الفلسطينيين إن لم نقل أنه زاد المقاومين صلابة، الأمر الذي خلق ما صار يعرف باسم عقدة (مرض شارون بهاجس عرفات). في غمرة ذلك كله بدا لي في حينه أن القيادة الفلسطينية، التي استجابت لمطالبات داخلية وخارجية بإدخال تعديلات جوهرية على النظام السياسي الفلسطيني (القانون الأساسي)، بصلاحيات رئيس الحكومة واختيار الأخ أبو مازن رئيساً لهذه الحكومة، الأمر الذي فسح المجال أمامه، بعد فترة قصيرة من السجال حول التشكيل الحكومي، وللتقدم إلى المجلس التشريعي بطلب الثقة، وفق مقتضيات الدستور الفلسطيني بعد إدخال التعديلات عليه، وباستعمال الآليات الدستورية على نحو لا يقبل الطعن بعد ذلك وقعت سلسلة من الأحداث الفلسطينية الكبرى، أود أن أذكرها سريعاً دون التوقف ملّياً عند أي منها. ومن أهمها طرح خطة خريطة الطريق على مجلس الأمن الدولي وتبنيها، ومن هذه الأحداث كذلك استقالة الأخ أبو مازن من رئاسة الحكومة الفلسطينية بعد نحو أربعة أشهر من إعلانها، ومن ثم تكليفي بهذه المهمة أواخر العام 2003، ومن الأحداث الدراماتيكية الهامة والمؤلمة في تاريخ هذه المرحلة من تاريخ شعبنا الفلسطيني استشهاد القائد الرمز ياسر عرفات، وبعد ذلك انتخاب الأخ أبو مازن رئيساً للسلطة الوطنية الفلسطينية، ثم تجديد تكليفي بتشكيل حكومة فلسطينية جديدة. كما جرت كذلك أحداث لا حصر لها، لعل في مقدمتها تنفيذ إسرائيل لخطة انسحابها أحادي الجانب من قطاع غزة عام 2005، تلتها عملية إجراء ثاني انتخابات تشريعية فلسطينية عام 2006 فازت فيها حركة حماس وخسرتها حركة فتح.