«لامباريني» عاصمة السياحة.. لكن.. إلى حين تقع مدينة «لامباريني» - عاصمة إقليم «لوموايان أوكووي» ومركزه الإداري والاقتصادي - على بعد 250 كيلومترا جنوب شرق العاصمة ليبروفيل.. إنها ترسو على مداخل واحدة من أكبر دلتا المياه العذبة في القارة الإفريقية.. مدينة صغيرة.. يسودها الهدوء والسكينة. كانت فيما مضى مركزا تجاريا يسيطر عليه الملوك Nkombé وRanoké من قبيلتي «كالوا» و»أنانكا» وكانت تدعى «ماسوكو» باللهجة المحلية. تعود شهرتها العالمية إلى الدكتور ألبرت شويتزر الحائز على جائزة نوبل للسلام عام 1952، وترتكز أهمية هذه المنطقة بشكل أساسي على بحيراتها ونهرها الكبير. إنها أشبه بمتاهة من الجزيرات الصغيرة تحيط بها الأنهار الممتدة أحيانا إلى البحيرات الكبيرة. كما أن زائرها لا بد أن يأكل من سمكها المميز المسمى «كارب». وحسب تصريح أدلى به السفير الغابوني بأنغولا لجريدة Angop يوم 20 غشت 2010 فان هذه المدينة - التي يقطنها حوالي 50000 نسمة - ستشكل في السنوات المقبلة الدورادو جديدة بفضل اكتشاف حقل كبير للنفط مما سيعزز الأداء الاقتصادي للغابون. وأضاف أنه إلى جانب الشركات الفرنسية التقليدية التي تدير النفط منذ الاستقلال ستشارك أيضا شركات أخرى بما فيها الشركات الأمريكية متعددة الجنسيات. وشدد الدبلوماسي الغابوني على أن بلده لا يمكن أن يظل مجرد مورد للمواد الخام إلى الخارج مشيرا إلى الحاجة إلى تحويل البلاد إلى دولة نامية من خلال تحويل المواد الخام وتصنيعها محليا. أقمت في منزل ابن خالتي رشيد بالحي الإداري.. منزل واسع شيد فوق تلة تطل على النهر.. كان رشيد قد اشترى عنزا ليذبحها مرحبا بي غير أنها ولدت جديا في نفس اليوم الذي وصلت فيه.. ونجت من موت محقق ..إنها بشرى خير.. ومن حينها وابنته شيماء لا تفارق العنز وصغيرها.. تحنو عليهما ولا تدع أحدا يقترب منهما. فيما مضى كان الناس يتنقلون بين حيي أدوما وايزاك بواسطة القوارب، أما اليوم فهناك جسران كبيران يربطان بين ضفتي النهر ويؤمنان الوصول إلى مختلف أحياء المدينة. التجار والحرفيون وسائقو سيارات الأجرة، المصبوغة باللونين الأبيض والأزرق، كلهم من الوافدين الذين تعلموا اللهجات المحلية وشكلوا روابط وثيقة مع السكان الأصليين. مستشفى شوايتزر: في اليوم الثاني توجهت رفقة مصطفى إلى مستشفى شوايتزر الذي تأسس سنة 1913 على يد عالم اللاهوت البروتستانتي والفيلسوف والموسيقي والطبيب البير شوايتزر الذي ولد بمنطقة الالزاس يوم 14 يناير عام 1875 وكرس حياته لخدمة الإنسانية. عرف عن هذا الشخص تقديسه للحياة وتفسيراته لباخ وأيضا مؤلفاته المتنوعة في مجالات الفلسفة واللاهوت والطب والموسيقى.. حصل على جائزة غوته عام 1928 وجائزة نوبل للسلام عام 1952 التي خصص ريعها لبناء مركز لإيواء مرضى الجذام. من المؤكد أن اسم مدينة «لامباريني» سيقترن إلى الأبد بوجود الدكتور شوايتزر الذي قضى معظم حياته في مواجهة الأمراض والعلل ولا يزال المستشفى، الذي أسسه على مفاهيم مبتكرة بمقاييس ذلك الوقت، قائما إلى الآن. ويمكن للمرء زيارته واستخلاص العبر من المتحف المخصص لتجربته الإنسانية الفريدة.. كل شيء فيه ينبض بالحياة ..غرفته.. سريره.. أدوات عمله.. بيانوه.. وأشياؤه المألوفة.. واليوم، فإلى جانب المباني القديمة التي لا تزال شاهدة على عظمة المكان ونبل مقاصده، أقيم سنة 1981 مستشفى حديث على مساحة تعادل 80 هكتارا، ويشمل العديد من التخصصات.. يؤمه المرضى من مختلف أحياء المدينة. البحيرات.. والجزيرات: مساء يوم الأحد أقترح علي ابن خالتي حفيظ زيارة إحدى البحيرات القريبة.. بحيرة «زيلي» الواقعة على بعد حوالي 14 كلم شمال شرق مدينة «لامباريني».. انطلق بنا الزورق من على الرصيف الموجود في الجانب الأيسر للنهر.. تقدم بضع كيلومترات ليعرج بنا داخل قناة ضيقة لا يتجاوز عرضها سبعة أو ثمانية أمتار تحيط بها النباتات المائية المتسلقة والأشجار الكثيفة.. المياه هنا منخفضة .. أحيانا تعرقل الرمال سير الزورق فينزل مساعد المراكبي ليدفعه.. سار بنا المركب وسط منعرجات مائية لمدة تقارب الساعة قبل أن نلج بحيرة «زيلي».. إنها بحيرة لا تزيد مساحتها عن 5 إلى 6 كيلومترات لكنها تعج بالعديد من الجزر الصغيرة.. بين الفينة والأخرى تمر قوارب تحمل العائدين من المدينة واليها.. ينتشر الصيادون - من بينهم نساء - يلقون بشباكهم، قبل الغروب، في عرض البحيرة أملا بصيد وفير من أسماك «الكارب» الذي تشتهر به المنطقة. في طريق عودتنا.. كان الظلام قد خيم على الأجواء.. تبدو «لامباريني» من بعيد أيقونة متلالاة.. تتراقص وسط الأضواء. لم تضع فرصة زيارة البحيرات الكبرى بعد أن تعذر علي السفر إلى «فرانس فيل»، ففي يوم الثلاثاء كنت وحدي في قارب «أمل 3» رفقة البوركينابي ادريسا وصديقته.. انحدر بنا المركب جنوبا.. بعد حوالي نصف ساعة، تركنا الطريق المؤدي إلى «بورجونتي» وانعطفنا يسارا في مجرى مائي ضيق نسبيا.. المكان موحش للغاية.. بين الماء والسماء، ظلال من الأعشاب تتدرج في لونها من الأخضر الفاتح الممزوج بالصفرة إلى الأخضر القاتم.. فجأة انبرى المراكبي إلى جانب الشط وأوقف المحرك.. انتظرنا بضع دقائق فإذا فرس النهر يطل علينا برأسه.. أعداد منه تعيش في هذا المستنقع تظهر وتختفي.. واصلنا طريقنا وسط نفس القناة.. مررنا على سرب من طيور البجع يتخذ من أعالي الأشجار موطنا له.. كما شاهدنا بعض القردة التي ما أن تسمع صوت المحرك حتى تفر وسط الأدغال.. بعد ساعة ونصف تقريبا انتهى بنا المطاف في بحيرة «أونانكي» التي تبلغ مساحتها 160 كلم مربع.. وسط المياه تنتشر جزر صغيرة خضراء وعلى التلال المحيطة بالبحيرة يمكن رؤية قرى تخترق الغابات، أغلب سكانها من قبيلة «مييني».. بعد استراحة لمدة عشر دقائق واصلنا رحلتنا صوب بحيرة «ايفارو» التي عبرنا إليها بعد حوالي 25 دقيقة من المنعرجات الضيقة. بحيرة صغيرة يعتبرها البعض امتدادا لبحيرة «أونانكي».. بسرعة وصلنا إلى فندق «ايفارو» الذي أقيم على شبه جزيرة صغيرة لا تتجاوز مساحتها الهكتار الواحد.. انه الآن مهجور لم نجد فيه إلا حارسان أحدهما من مالي والآخر غامبي يتناوبان الحراسة كل شهر مع حارسين آخرين.. تعود ملكية هذا الفندق لرئيس مجلس الشيوخ الغابوني السابق «جورج راويري» الذي توفي يوم 9 ابريل سنة 2006.. بنايات ضخمة تنوء تحت وطأة اللامبالاة ..وسكنيات مجهزة بالأثاث الفاخر تتآكل بفعل الزمن.. مولد كهربائي لا يزال قابلا للاستعمال.. ومسبح صغير غزته الأعشاب والأوساخ.. وعموما فقد عادت الطبيعة إلى هذا المكان وفق قوانينها الخاصة. بعد استراحة قصيرة ودعنا الحارسين وعدنا إلى «لامباريني» متتبعين المسار الذي أتينا منه.