الصخرة.. التي ولدت حوتا اليوم الأحد .. أغلب المحلات مقفلة .. قرر ادريس أن نتغذى في منطقة « كاب لوبيز « على بعد حوالي 20 كيلومترا عن المدينة .. كان سالم ينتظرنا أمام المقر الرئيسي لشركة safi plus .. واتجهنا نحو شارع ليون مبا .. عبرناه ثم انعطفنا في اتجاه المطار .. وقبل الوصول إليه انحرفنا يمينا ومن تم واصلنا مباشرة على طريق ساحلية و معبدة .. الشواطئ الرملية البيضاء ممتدة على مد البصر .. على اليمين محطة النفط حيث يتم تحميل النفط الخام للتصدير .. وفي اليسار تقف منارة علاها الصدأ.. قمتها من نحاس .. شيدت عام 1911 وهي الآن مهددة بالانهيار.. وبعيدا إلى الإمام قرية الصيادين حيث السمك الطازج .. تناولنا الغذاء في مطعم شعبي .. متخصص في الأسماك .. بصعوبة وجدنا طاولة فارغة .. المطعم يعج بالزبائن من جنسيات مختلفة .. غابونيون ..أوروبيون.. أفارقة .. انتظرنا طويلا قبل أن تحضر النادلة قطعا صغيرة من الموز المقلي والأرز وشيء من القريدس كبير الحجم و3 قنينات كوكاكولا.. وانتظرنا بعد ذلك مدة أطول قبل أن تضع بين يدينا سمكتين مشويتين .. في طريق العودة إلى المدينة ، توقفنا عند الشاطئ .. ذهب الأطفال إلى الماء تراقبهم أمهم .. أما أنا وإدريس فتخلصنا من نعلينا ورحنا نتمشى فوق الرمال البيضاء.. والدافئة .. بعد أن تركنا سالم مع الأولاد . وسط البحر ..باخرة متوسطة الحجم تشق عباب الموج في اتجاه ميناء بورجونتي.. وغير بعيد تتراءى كويرات حمراء تهتز فوق الماء .. لعلها شبكة صيد .. أما على الشاطئ .. فهناك جذوع أشجار تغطيها الرمال.. وألواح خشبية متناثرة.. هنا وهناك .. فجأة استوقفنا شيء غير عادي .. ملقى على الشاطئ.. يشبه صخرة ضخمة..ثابتة.. لا يتحرك منها سوى الجزء المدلى كقطعة قماش أو جلد رخو.. تهزه المياه كلما تكسرت الأمواج وزحفت مسرعة نحو الشاطئ ..لم نتجرأ على الاقتراب منها .. ولم نستطع تحديد هويتها.. و كم كانت دهشتي عظيمة ، بعد حوالي عشرة أيام ، بينما كنت أتصفح العدد 10395 ليوم 05 غشت من جريدة «لونيون» الرسمية والأكثر انتشارا في الغابون .. ففي الصفحة العاشرة المخصصة للمجتمع والثقافة اجتذبتني بعض الصور وفوقها عنوان بارز وعريض : العثور على حوت ميت في شاطئ « فور دو لو».. تمعنت جيدا في الصور .. حقا انه ذلك الشيء غير العادي الذي شد انتباهنا قبل أيام في شاطئ «كاب لوبيز».. يا الهي لقد كان حوتا ميتا ..اتصلت على الفور بإدريس وأخبرته بالأمر.. حينها تذكرنا « العنبر» أيام السبعينات والثمانينات ..وذلك الرجل الأسمر القادم من صحراء المغرب الشرقي.. يفترش الثرى في ساحة رحبة الزرع أو موقع الدلالات بكليميم .. يلبس دراعة زرقاء.. ويضع أمامه قطعة من جلد أفعى.. وبيض النعام وريشه.. وميزانا صغيرا.. يتحلق حوله الناس واقفين .. يؤكد أمامهم بصوت الواثق ، وبين يديه قارورة مغلفة بجلد مزركش : لقد جئتكم بهذا من بلاد السودان .. ثم يرفع كلتا رجليه فوق رأسه موضحا فوائد « العنبر».. وحسب الصحيفة فان رائحة كريهة ومقززة عمت كل أرجاء حي « فور دو لو» مما دفع السكان إلى البحث عن مصدرها ، إلى أن فوجئوا بهذا الكائن الضخم ملقى على الشاطئ.. بلا روح. ولم تعرف أسباب موته. ومعلوم أن أكثر من 10 ٪ من الحيتان الحدباء في العالم تهاجر من مناطقها بالقطب الجنوبي إلى خليج غينيا. وتحدث هذه الهجرة خلال فصل الشتاء ..وحسب تقرير للجنة الدولية لصيد الحيتان لعام 2005 فان هذه الحيتان المهاجرة لاتصل إلى الغابون إلا في شهري يونيو و يوليو. وتعتبر مدينة «مايونبا « الواقعة جنوب البلاد بإقليم « نيانجا» المكان الأفضل لمشاهدة أول الحيتان التي تصل إلى الغابون أو لمراقبتها عند عودتها إلى الجنوب، بعد قضاء موسم جاف في المياه الدافئة..أو للاستمتاع بعروضها الفنية الرائعة .. وأصواتها الجذابة. من بورجونتي إلى لامباريني عبر نهر « أوكووي» اليوم الجمعة، استيقظت باكرا، أقلني أخي في سيارته إلى حيث ترسو القوارب المتوجهة إلى «لامباريني» عبر نهر « أوكووي» إنها وسيلة النقل الوحيدة التي تربط بين مدينتي «بورجونتي» و»لامباريني» و لا تكون متوفرة إلا يومي الاثنين والجمعة فقط من كل أسبوع . غير بعيد تبدو منصات الذهب الأسود في عرض البحر، مما يؤكد أن معظم حقول النفط – البرية والبحرية - تقع في مدينة بورجونتي وضواحيها . غير أن الدولة الغابونية لا تسيطر إلا على 25% من مجموع الإنتاج الذي تراقبه شركة غابون للتكرير ( sogara ) التي أنشئت عام 1967 براس لوبيز ضواحي بورجونتي ، في حين تعود نسبة 16% للمستثمرين من القطاع الخاص أما الباقي فتسيطر عليه شركة توتال الفرنسية. أما مجال التوزيع فيعود لمتعهدين خواص كتوتال وشيل وبيزو وليبياوال . وقد انضمت الغابون إلى منظمة الدول المصدرة للنفط ( OPEP) عام 1974 وانسحبت منها عام 1995. تمام الساعة السابعة صباحا ، انطلق بنا القارب « لافيلاجواز» وعلى متنه أكثر من 50 راكبا وراكبة ، اخترت الجلوس فوق السطح لاستمتع بالمناظر الطبيعية التي قيل لي عنها الكثير .. وضعت على كتفي لحافا ازرقا اتقاء من البرد. بعد حوالي عشرين دقيقة تقريبا غادر القارب المياه المالحة وانساب يشق نهر أوكووي. جميع الركاب أفارقة .. أحدهم كان يقف على حافة المركب يحمل في يده اليمنى آلة تصوير وفي اليد الاخري قنينة ويسكي .. على يميني جلس رجل قارب سنه الستين وعلى يساري انكمشت امرأة .. قصيرة .. ممتلئة .. تريد أن تغفو .. تركزت عليها الأنظار . أمامي صف من الرجال كلهم شباب ..أحدهم ذو عينين يغلب عليهما الاصفرار كان بين الفينة والأخرى يبتسم لي .. ها نحن الآن وسط نهر يمتد مآت الكيلومترات .. كلما توغلت فيه تحس وكأنك داخل متاهة من الجزيرات والبحيرات وألسنة مائية تنساب ببطء ملتهمة اليابسة .. على الضفاف أشجار متشابكة لا تترك أمامك مجالا أبعد للرؤية .. من حين لآخر يمر قارب أو مركب في الاتجاه المعاكس .. يلوح بعض الركاب بأيديهم محيين .. خاصة ذالك الأبكم ..النحيف .. الذي يمشي جيئة وذهابا على السطح وهو يشير بكلتا يديه محييا أو محدثا الآخرين. ما إن وصلت الساعة التاسعة حتى برز فجأة عامل بالمركب يحمل قفة مليئة بالمشروبات الكحولية وغير الكحولية وأكلات جاهزة .. أغلب الركاب اختاروا « الخمر الأحمر» حتى المرأة القصيرة لم تصمد طويلا أمام إلحاح الآخرين فتناولت جعتين، أما أنا فاكتفيت بقنينة ماء معدني جلبتها معي. قال لي ذو العينين الصفراوين وهو يبتسم ابتسامة ماكرة : خذ واحدة .. تذوقها .. ستعجبك إنها خالية من الكحول . أجابه ذو البطن المنتفخة : إنهم يفضلون الشاي .. وهكذا بدأ حديث طويل عن الإسلام والجهاديين وعن المغرب و الثروات الغابونية .. قال لي ذو العينين الصفراوين : أنتم تذهبون إلى الموت برحابة صدر ولا تخافون منها بينما نحن الغابونيون نحب الحياة ونتمسك بها .. أن تقول لأحد سأقتلك فانه سينتفض وسترتعد فرائصه وسيفعل أي شيء قد يتبادر إلى ذهنه ليقتلك حرصا على حياته. صاح ذو البطن المنتفخة : لا نريد بن لادن في بلادنا . لم أعره أي اهتمام لأنني لم استسغه منذ البداية كان يبدو عليه الغرور وهو يحمل محفظة جلدية سوداء .. انتبه ذو العينين الصفراوين إلى علامة الخطوط الملكية المغربية الماثلة على لحافي الأزرق عرف أنني مغربي فسألني : هل أنت من منطقة سوس. قلت من المنطقة المجاورة لها.. كانت معلوماته عن المغرب جيدة .. لم يزره قط لكن أحد إخوته كان يتابع دراسته بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء .. ومن المعلوم أن المغرب يخصص سنويا 40 منحة تعليمية للغابونيين .. ويوجد حاليا ما يقارب 300 طالب غابوني يتابعون دراستهم بمختلف الجامعات والكليات المغربية. شيئا فشيئا ، بدأت الأصوات ترتفع .. والركاب يمشون دون توقف فوق السطح.. الخمر والجعة بدآ يفعلان فعلتهما .. التفت إلي الرجل بجانبي وقال : من غير المعقول أن يبيعوا الخمر في المركب .. قد يسقط أحدهم في الماء..سكت لحظة تم أضاف : هؤلاء الشباب أصبحوا غير مبالين .. أحفظ عن والدي وصية تحدد لي أربع أولويات هي : العمل في الحقل ثم بناء منزل فالزواج وبعد ذلك يأتي الأولاد.. كان الشاب ذو العينين الصفراوين يتحدث إلى راكب آخر مستنكرا أن يكون بلده من بين أغنى الدول فهو يتوفر على النفط والمنغنيز والذهب والاورانيوم والخشب وساكنته لا تتجاوز بضع مآت الآلاف ولا يستفيد من كل هذه الخيرات.. حينما أصبحنا أكثر قربا من « لامباريني « بدأت أشاهد بعض المنازل المتناثرة على الضفتين بنيت على ركائز مصنوعة من الخشب .. ونساء ورجال وأطفال يتنقلون بواسطة زوارق تعمل بالمحركات أو عن طريق المجاديف. في حدود الساعة الثانية بعد الظهر – تماما كما أكد لي الرجل الذي بجانبي مرارا – وصلنا إلى لامباريني .. عند باب الخروج وقف مراقب بلباس مدني .. تفحص جواز سفري وسجل التلقيح ثم غادرت المركب .. أمامي وجدت مصطفى ابن خالتي ينتظرني.