انطباعات إفريقية في الوقت الذي يفضل فيه أغلب المواطنين المغاربة الذين يقضون عطلهم الصيفية خارج أرض الوطن، التوجه إلى دول أوروبا، تركيا وأمريكا.. اختار عبد اللطيف الصافي، أن يقضي عطلته السنوية خلال شهري يوليوز- غشت 2010 بإفريقيا السوداء وبالضبط بدولة الغابون.. ويبدو أن هذا الاختيار جلب عليه، عتاب أصدقائه بل منهم من استهزأ باختياره هذا. فحتى رجل الأمن المكلف بمراقبة جوازات السفر بمطار محمد الخامس بالبيضاء، استغرب بدوره، من مواطن مغربي يختار في عز فصل الصيف، أن يقضي عطلته بالغابون، بل دفعه الفضول إلى سؤاله عن سبب هذه الرحلة إلى بلد الغابون.وبعد أن أنهى الصافي رحلته، قام بتدوين كل تفاصيل هذه الرحلة، التي يأخذنا فيها إلى أعماق تاريخ واقتصاد هذا البلد إضافة إلى تفاصيل أخرى، وسنعمل على نشر «مشاهد من رحلة إلى الغابون»، -وهو العنوان الذي اختاره الصافي لرحلته هذه-، على مدار هذا الأسبوع على شكل حلقات/ نوافذ نطل منها على هذا البلد الإفريقي، الذي تتواجد به أيضا جالية مغربية. إفريقيا.. فقر وثراء هذه القارة السوداء.. أنهكها الاستعمار الأوروبي وتكالب عليها الرجل الأبيض منذ قرون.. فاستنزف خيراتها.. واستعبد أهاليها.. وعندما هم بمغادرتها مرغما، عمل على تمزيقها إلى أجزاء متنافرة بما أتاح له الاستمرار في إحكام قبضته عليها.. ومراقبتها.. وحكم عليها بالتخلف والجمود.. إفريقيا.. بلد الديكتاتوريات المتعاقبة المدججة بالقمع والطمع.. والأنظمة المصنوعة في مختبرات المخابرات الأوروبية والأمريكية.. بلد الانقلابات المتتالية المدعومة بمرتزقة بيض.. والاغتيالات السياسية التي ذهب ضحيتها قادة وطنيون من عيار ثقيل .. بلد الحروب القبلية.. والصراعات العرقية.. والأوبئة المتنوعة.. و.. و.. هذه هي إفريقيا التي صنعتها الآلة الامبريالية على مدى قرون من القهر والبطش والاستعباد .. وتلك هي الصورة التي رسختها في مخيلة الناس من كل الأصقاع. إن من لم يقرأ رواية « ابك يا بلدي الحبيب «لآلان باتون و» الجذور» لاليكس هالي لن يعرف أبدا أن لإفريقيا وجهها الآخر.. إفريقيا فرانز فانون وليوبولد سيدار سنغور وسوينكا وشينوا اتشيبي وميريام ماكيبا وآخرون كثيرون.. إفريقيا الطبيعة الخلابة والتنوع البيولوجي الهائل.. والموارد الطبيعية الوافرة.. إفريقيا الأهازيج البدوية والأناشيد الروحانية والرقصات العجائبية. إن من لم تسكنه سمرة هذه القارة.. ولم يتحمل جسده شمسها الحارة.. سيبقى على الدوام أسير تلك الصورة الاستعمارية المتجاوزة. من البيضاء الى ليبروفيل.. جوا بعد حوالي ست ساعات على متن طائرة تابعة للخطوط الملكية المغربية، نزلنا بمطار ليون مبا الدولي بالعاصمة ليبروفيل.. هذا المطار الذي بدأ الاشتغال سنوات الخمسينات، يمتد مدرجه على طول 3000 متر.. ويوجد اليوم في وسط حضري آهل بالسكان مما يجعله محاصرا يصعب توسيعه لتلبية الطلب المتنامي على المدى البعيد.. مما جعل السلطات الغابونية تفكر في إحداث مطار جديد ببلدة « أنديم» الواقعة على بعد 60 كيلومتر شرق العاصمة . كانت الساعة تشير إلى الواحدة صباحا حينما أنهيت اجرءات الدخول.. وأصبحت خارج المطار. ها أنذا الآن أطأ أرض الغابون التي كانت زمن الاستعمار الفرنسي منفى للعديد من السياسيين والوطنيين أمثال علال الفاسي زعيم حزب الاستقلال المغربي وأحمدو بامبا شيخ الطريقة المريدية بالسنغال.. ها أنا أتنسم هواء الغابون في هذا الفصل الجميل.. والجاف.. في الغابون تتوزع السنة إلى فصلين فقط أحدهما رطب والآخر جاف.. موسم أمطار قصير يمتد شهري أكتوبر ونونبر يليه موسم جاف قصير من دجنبر إلى يناير ثم يبدأ موسم أمطار طويل ويدوم أربعة أشهر من فبراير إلى مايو وأخيرا موسم طويل جاف يمتد أربعة أشهر. الغابون من الاستكشاف إلى الاستقلال في عام 1472 سيكتشف البرتغاليون مصب كومو وسيطلقون عليه اسم Gabao قبل أن يتحول بعد ذلك إلى الغابون. و في القرنين السادس عشر والسابع عشر سيتوالى التجار الانجليز والهولنديون والفرنسيون على السواحل الغابونية قبل أن يتمكن المستكشفون الفرنسيون من توقيع معاهدات مع ملوك الغابون تخول لفرنسا احتلال هذه الأراضي واستغلالها لصالحها. وبعد 121 سنة من الاحتلال الفرنسي ، سيولد على الساحل الغربي لإفريقيا الوسطى بلد جديد اسمه جمهورية الغابون. ففي الساعات الأولى من صباح يوم 17 غشت 1960، وبحضور وفد هام من فرنسا يتقدمهم وزير الدولة المكلف بالثقافة آنذاك السيد اندريه مالرو، سيقوم السيد ليون مبا- بصفته الوزير الأول المعين من طرف الإدارة الاستعمارية و الذي كان من أشد المناهضين للاستقلال مدافعا عن فكرة بقاء الغابون تحت الغطاء الفرنسي - وسيعلن في كلمة مقتضبة بمقر الجمعية العمومية بليبروفيل ، استقلال دولة الغابون، عندها ستخترق صيحات هائلة جدران الجمعية العمومية وستتلوها عاصفة من التصفيقات الحارة . وكرجل واحد ، سيقوم كل من في القاعة ليستمعوا لأول مرة في التاريخ، إلى النشيد الوطني للجمهورية الناشئة « لاكونكورد / التوافق» الذي وضعه قبل بضعة شهور من إعلان قيام الجمهورية السياسي الغابوني المخضرم جورج داماس أليكا المتوفى سنة 1982، وقبل ذلك ببضع ساعات كان مبعوث الجنرال ديغول قد سلم للسلطات الغابونية الجديدة رسالة جاء فيها: «...على الغابون أن تعلم جيدا بأن فرنسا ستظل دائما إلى جانبها، وهي تعلم بالتأكيد بأنها تستطيع اليوم كما الأمس أن تعتمد عليها.. «ومنذ ذلك الحين وكل شيء في الغابون يعتمد كليا على فرنسا التي تهيمن اليوم بقوة على النفط والمعادن والأخشاب وحتى الدعم التقني في الإدارة العمومية. ِّليبروفيل.. مدينة المتناقضات: قضيت الليلة الأولى مع عبد الرضا، رجل الأعمال اللبناني .. هذا الجنوبي القادم من بنت جبيل إلى أدغال إفريقيا.. كان ودودا ومثقفا.. تداولنا في مواضيع كثيرة.. الوضع اللبناني.. التجاذبات الإقليمية والدولية.. العائلة. وفي الصباح توجهنا إلى مطعم لبناني حيث تناولنا الشاي وفطيرة تسمى « ميتيس» نصفها مغطى بالزعتر والنصف الآخر بالجبن . كل الزبائن هنا لبنانيون ينتمون إلى الطائفة الشيعية.. على باب المطعم علقت ورقة تعزية للشيخ حسين فضل الله.. بعد ذلك أقلني عبد الرضا بسيارته إلى حي «بوتي باري» حيث المحل التجاري لخالي الحاج عزيز.. أصغر أخوالي.. كان يتابع دراسته الثانوية -شعبة العلوم الاقتصادية- قبل أن يسافر إلى الغابون منتصف الثمانينات ويؤسس بعد بضع سنوات من الكد شركة لبيع مواد البناء ويستقدم تدريجيا عشرات من الشبان من المغرب الذين أصبح أغلبهم يدير محلات تجارية كبرى في كل من ليبروفيل و بورجونتي ولامباريني وفرانس فيل ويبيعون مواد البناء والمواد الغذائية على وجه الخصوص. «بوتي باري».. انه الحي الأكثر رواجا حيث يوجد بائعو الأقمشة بألوانها الزاهية وعلى ناصيته يتربع سوق مون بويت الأكبر على مستوى إفريقيا الوسطى والذي يستحوذ عليه مئات الباعة بالتقسيط والباعة المتجولين والحمالين من مختلف دول جنوب الصحراء وإفريقيا الوسطى خاصة من مالي والسينغال والبينين والنيجر والكامرون.. ويتم فيه تداول ملايير الفرنكات الإفريقية (cfa).. العملة الوطنية للغابون.. وهي العملة التي ورثتها عديد دول افريقيا الوسطى والغربية عن الاستعمار الفرنسي إضافة إلى الكامرون (ألمانيا) وغينيا الاستوائية (اسبانيا) وغينيا بيساو (البرتغال).. و تتولى الخزانة العمومية الفرنسية كفالة الفرنك الإفريقي في إطار معاهدة ماستريخت. ليبروفيل العاصمة السياسية والإدارية لدولة الغابون أسسها المستكشف الفرنسيLouis Edouard Bouët-Willaumez عام 1849 وهي تمتد عشرات الكيلومترات على الساحل الشمالي الغربي من البلاد ، تستحم ضواحيها الجنوبية على مصب نهر «كومو» في حين تغطي الغابات وأشجار المانغروف واجهتها الشمالية على امتداد واسع وغير مأهول. يشكل شارع الاستقلال الشريان الحيوي لمدينة ليبروفيل الذي يربط بين أحيائها المتميزة بطابعها الإفريقي الخاص. إنها مدينة تجمع بين كل المتناقضات وتعيش حالة من الاختناق طول النهار بسبب ضيق شوارعها و الحركية الدؤوبة للسيارات كما أنها تأوي أكثر من ثلث سكان الغابون البالغ عددهم 1 383 000 نسمة حسب إحصاء 2006 وهي تضم كافة المجموعات العرقية الغابونية و يعيش بها عدد كبير من المهاجرين من افريقيا الوسطى والغربية وكذلك الأوروبيين واللبنانيين وأيضا المغاربة.. كما بدأت تتزايد بها أعداد السكان ذوي المنشأ الصيني.. والمثير أن البنيات التحتية لمدينة ليبروفيل لا تتماشى مع الوثيرة المتسارعة التي تعرفها البنايات الجديدة والأنشطة الاقتصادية المتزايدة. من وسط المدينة إلى شارع شاطئ البحر في اتجاه المطار الدولي تبدو مدينة ليبروفيل مدينة على النمط الأوروبي.. بنايات من الاسمنت المسلح ترتفع طابقين وأكثر تحتلها أساسا المؤسسات البنكية والفندقية والمنشآت الحكومية والشركات الكبرى، في حين يغلب الطابع الإفريقي على أنماط السكن بمختلف الأحياء السكنية أو هي مزيج من الطابعين الأوروبي والإفريقي كما هو الحال بأحياء كلاص و لالالا وأولومي وهودوكيكي وأويندجي وغيرها. فالبنايات في هذه الأحياء إما من الخشب مغطى بالقصدير أو من الاسمنت مغطى بالقصدير لكنها في أغلب الأحوال لا تتجاوز طابقا واحدا. وتنتشر الحانات والنوادي الليلية في كل أحياء المدينة. فالغابونيون يقبلون على شرب النبيذ بشراهة.. مما يتسبب في كثير من الأحيان في حوادث مميتة ويؤثر بشكل ملموس على مردوديتهم في العمل، الأمر دفع السلطات إلى فرض إغلاق كل الحانات والنوادي على الساعة العاشرة ليلا. أمام القصر الرئاسي تنشط حركة غير اعتيادية.. الاستعدادات على قدم وساق للاحتفال بخمسينية الاستقلال التي توافق 17 من شهر غشت.. تغيير أعمدة الكهرباء وإصلاح الأرصفة وصباغة المرافق وواجهات المحلات.. متعهدو حفلات فرنسيون يضعون المعدات الصوتية والضوئية في الساحة المقابلة للقصر الرئاسي. أما في قلب حي «بوتي باري» فالأشغال جارية ليل نهار في ملعب كرة القدم لاحتضان بطولة كأس إفريقيا للأمم سنة 2012 الذي ستنظمه الغابون بصفة مشتركة مع غينيا الاستوائية.