هوليوود اسم مُستَلْهم للفرجة المفتوحة على فضاء الخارج والداخل. الفضاء الأول، حين يُحيل الفيلم على عوالم الذات في صراعها الوجودي داخل أعمال مؤلفين متنورين، والثاني عندما يكون الفيلم احتفاءً بالتنفيس، ومنح الذات قدراً من الإثارة اللحظية المريحة. في مدينة سلا ، «هوليوود» اسم قاعة سينمائية تراهن طيلة عامها المديد على الفرجة العامة هنا قاعة فسيحة بكل مواصفات العرض العالمية صوتاً وعمارة وصورة، لكن ميزتها الكبرى تتجلى في وجودها في مركز حارة شعبية سلاوية، كثافة سكانية كبيرة، صخب حياة لا تعرف الهدوء ليل نهار. وهو الأمر الذي اعتُبر في البداية مغامرة، فكيف لمهرجان سينمائي أن يجد له موطئ قدم وقبولاً في هكذا ظروف، خاصة مع وجود من ينادون بنخبوية الفن السينمائي، وبالتالي يجب وضعه في أماكن النخبة. لكن حدث أن صار المهرجان مع توالي السنوات صرحاً ثقافياً فعلياً بين جموع سكان الحي الذين ألفوا حضوراً يختلف جذرياً عما يروج وعما يسود من فراغ ثقافي. حضور بجنسيات عالمية لمخرجات ومخرجين وممثلين ونقاد وكتاب ومهنيين يجدون أنفسهم في عالم غير معهود فيه أن يحتفي بالفيلم بالمقاييس المهرجانية العالمية. كل هذا بفضل السينما التي كانت طيلة تاريخها لأزيد من قرن قاطرة كل ثقافة مرتبطة بالجماهير، وبالتالي قاطرة تغيير للعقليات. وحين تحضن مدينة سلا المسماة مدينة القراصنة مهرجانها حول السينما والمرأة، فإنها تؤكد ريادة يجب التنويه بدورها في أزمنتنا العربية المضطربة. سلا الحاضرة تمنح في مهرجانها السنوي الذي أتم إذن دورته التاسعة قبل أيام سينما العالم المُعبرة الفنية الناطقة بمواجهة المصير والقدر كعنوان أساسي، سمته صور بحبكات تغوص في المجابهة، من أجل تأكيد الذات مع الكرامة والعدل والحرية في شكل أصيل غير مسبوق. سينما الفن قبل أي شيء آخر، تمتزج فيه الصورة الحية بالكتابة بالنقاش الجدي الرصين الذي يتناول هموم المنطقة العربية الإسلامية في تعالق مع هموم العالم وهموم الإنسان، مع تأطير خاص منصب على عوالم النساء، قضية وإبداعاً خالصاً وجمالاً... أفلام جديدة وقوية وأفلام الدورة الاثنا عشر في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة القادمة من دول البرازيل وفرنسا وإيران والفيتنام وإيطاليا وبلغاريا وتركيا وليتوانيا ومصر وإثيوبيا وكندا والمغرب، كانت عند الموعد المنتظر في مجملها. هذا بالإضافة إلى الأفلام الوثائقية التي تخرجها نساء، والتي خُصصت لها هذه السنة جائزة خاصة بها، وأفلام العروض الموازية في قاعات متعددة في المدينة. أفلام يكفي أن نذكر بعضاً منها حاملة للأثر العاطفي في شكل لافت. الفيلم البرازيلي «الأم الثانية» لآنا مولايرت الذي يحكي حكايات متشعبة لأم عزباء خادمة في بيت أثرياء تربي ابن هذه العائلة الوحيد حتى مرحلة الشباب أكثر من الأم البيولوجية الحاضرة جسداً فقط. يحدث أن تستقبل ابنتها التي لها السن نفسها التي للابن. الأمر الذي يخلق تضارباً وتداخلاً في المصالح الشخصية الذاتية، والتي ستساهم تدريجياً في تغيير من وضعها الطبقي بسلاسة وبدون تعسف متكلف. في الشريط فكرة أصيلة حول التعويض على خلفية صراع أزلي مادي وسلوكي بين الأغنياء والفقراء ينتصر فيه أنف الكرامة تؤكده أمٌّ خبرت المحن. وإذا كانت المرأة البرازيلية تبدو ممسكة بدقائق حياتها بيدها، وتقاوم الخضوع لمتطلبات الفقر، فإن المرأة في تركيا لا تزال تكافح ضد الخضوع للرجل وفق ما تعلنه وقائع الفيلم التركي الجميل «موستانغ» لدونيز كامزيي إيركيفين. فتيات خمس في سنوات المراهقة وجدن أنفسهن وقد أُغلِق عليهن في البيت العائلي الكبير بقرية جبلية بعيدة عن المدن الكبرى، تحت سلطة عم بشوارب ومراقبة جدة خاضعة للتقاليد. الشريط المصور بحرفية كبيرة تضيئه بالكامل، كله جمال في جمال حين يتقفى التفاصيل الحميمية لحيوات صبايا ممنوعات من الهاتف والكومبيوتر وطبعاً من الخروج. لكنهن كما هو منتظر سيختلقن الحيلة تلو الحيلة لتجاوز الأسوار قبل أن يلتحقن بالمصير المقرر تحت ضغط الواقع الجاثم على صدورهن الناشئة، إما بالانتحار أو الزواج أو التمرد أو الهرب باتجاه اسطنبول. كل فتاة لها حكاية ترفد الفيلم بمواد حارقة ولطيفة في الوقت ذاته. بالقرب من تركيا، في ألبانيا تضطر النساء اللائي يبغين عدم الخضوع للذكر إلى التحول إلى ذكور باتباع تقليد محلي قديم يقضي بالتخلي نهائياً عن كل مظاهر الأنوثة. ذاك ما يقدمه الشريط الإيطالي للورا بيسبوري، لكن سفر بطلته إلى إيطاليا ووقوع عينيها على فتيات يمارسن السباحة الفنية في مسبح، سيعيدان الجسد إلى فطرته الأولى بعد معركة ترويها عدسة المخرجة بحنان واقعي لا يحابي العواطف السطحية. يشكل «الخضوع والحرية» تيمة برمجة متوازنة وممتعة، الخضوع لحالة قصوى، لعادة متأصلة، لمجتمع عتيق، لذكر متسلط. لكن يبقى الشريط المصري «ديكور» الفائز بالشهدة الذهبية للمهرجان مختلفاً. هو حكاية غرائبية من زمن آخر، وإن كان يشير إلى الخلفية الحالية لأوضاع مصر من خلال ذكر حالة الطوارئ في إحدى لقطاته. يروي فيه المخرج أحمد عبدالله السيد قصة امرأة تحترف هندسة ديكور الأفلام، تجد نفسها تتقمص فصول حياة بطلة فيلم تشتغل فيه. ويتحول الفيلم إلى سرد لحالتي عيش متداخلة ينقل عبرهما الفيلم البطلة من واقع إلى آخر. هو شريط المرايا وموضوعة المضاعف كموتيف للنبش في ذات تبحث عن تشكلها الحقيقي، في جو من الغموض ومن التوتر تجاه الواقعين المفروضين، وإزاء الشخوص المحيطين بها، وفي مصر التي يختلق المخرج لهما صوراً تختلف عن الواقع الفعلي لكن ظاهر أنه يتخيله به. في النقد ومع الكتابة هي أفلام شخصيات نسائية ترمي بكل الطاقة المخزنة في الجسد وفي الطبيعة الأنثوية بهدف اختراق العالم المعاكس لأحلامهن العادية الطبيعية في ممارسة حق الحياة، في عمق المأساة والصراع. جميلات وصبوحات بالتأكيد، بحكم أن السينما تجعل كل امرأة جميلة حين تركز عليها ضوء الكون الكامن في عدسة كاميرا، مُبدعة. وذاك عين ما تحبه ثلة من الكتاب والنقاد الذين يحرص المهرجان على استدعائهم سنوياً. فهو مهرجان رأى النور في ذهن محبات للسينما ورجال خبروا السينما يومياً في المشتل وعند العرض. وتأسيساً على ذلك، لا يرون في الفيلم مجرد صور لا غير، بل ذريعة الذرائع للحديث المُولِّد للأفكار والبرامج والاقتراحات غير المباشرة للأفلام القادمة أو للكتب. في كل صباح يسعون نحو قاعة الندوات بعد ليلة تمتلئ فيها العين بكل ما لذ وطاب من إبداع على شاشة قاعة هوليوود المغربية، وبعد إقامة تحترم راحة الجسد والعقل بين الرباط العاصمة وسلا الجارة التي تبرزها بهذا المهرجان الكبير. كل شيء متاح هنا كي تحتل الكلمة الموحية النافذة التي لها ألق المفهوم وفق طريقة الفيلسوف جيل دولوز حين يقترب بإزميله المكون من كلمات من مقترحات العمل السينمائي الحامل للمعنى. في الندوات رفقة مخرجات وممثلات من القارات الأربع الممثلة في المهرجان، وفي لقاءات التكريم لأصوات نسائية سجلت حضوراً في مجال الخلق الفني والأدبي والحقوقي السياسي. وفي ندوة تقديم الكتب، لا يمكن نسيان مرور كاتبة مثل لطيفة باقا التي كرمها المهرجان عبر مجموعتها القصصية «غرفة فيرجينيا وولف». والحقيقة أن كل هذا جعل الدورة التاسعة لمهرجان سلا لسينما المرأة، مجال إدهاش سينمائي حول المرأة في العالم الحالي في كل حالاتها وفي كل المراحل العمرية. * ناقد سينمائي