صرخة مبدع في وجه المتطفلين على مجال الكتابة الزجلية تعد حياة المبدعين إبداعا على هامش الإبداع الذي ينجزونه على بياضات الفراغ ليعلن إبداعهم عن اختراق لذاكرة الأزمنة والأمكنة، وذلك من خلال السفر بلا جوازات في عوالم يسكنها هاجس الإقامة في سؤال الإبداع، وهو سؤال يكتوي فيه المبدع بجمر مخاضات المولود الإبداعي، الذي ينخر به المبدع ذاكرة سؤال الوجود والكينونة، وهي كينونة عادة ما تكون موزعة بين التذكر والشرود، الغياب والحضور بين الذاكرة والنسيان، الوجود والعدم، وفي أفق ذلك يختار المبدع الإقامة بين أحضان القصيدة، عله يكتب سيرة إبداعية لذات، يجترح مبدعها لغته، بحثا عن تضميد جرح الذات الحالة برؤيا للعالم مخالفة لما يراه الناس، وهذا ما يؤجج في الذات المبدعة / الكاتبة الرغبة في الرحيل والتيه الإبداعي عبر هذا الامتداد النصي. يعيش المبدعون عذابات الكتابة ويلتاعون بطقوسهما التعبدية، ويكابدون جراءها العديد من المحن، لأن منجزهم الإبداعي ليس شيئا عابرا، وإنما هو شهادة تواجد حقيقي في الكون، وشهادة العبور إلى العبور، وفي ذلك يكون الإنسان مرتاح البال لأنه ترك ما يذكر به على مر الأجيال، فالكتابة سباحة في تلابيب وغياهب الذات في ضوء علاقتها بالواقع ،إنها إعلان عن مواقف الإنسان من الحياة والوجود ،ومن ثمة كان على الكاتب أن يفتح نافذة في الظلام الدامس ليتسرب منها قليل من النور إلى النفوس الظمأى .وعليه كذلك أن يحدق دائما وأبدا في الظلام ليرى ما لايراه الناس، لأن المبدع ليس إنسانا عاديا بل هو إنسان مسكون بهاجس الوعي فرويد. لا مراء في ذلك، إذ إن لفحة الألم، تعتمل في صدر الكاتب تسعة أشهر، تسعة أعوام، بل ربما العمر كله، تعصف به ألام المخاض فيلدها إبداعا يتنفس المبدع من خلاله ،وحين يكون الإنسان مسكونا بقوى الإبداع، فهو لن يصبح فنانا فحسب بل يغدو هو ذاته عملا فنيا كما يقول نيتشه"يموت المبدعون و يعذبون أنفسهم كثيرا من أجل القبض على خيط الإبداع الهارب باستمرار، هنا يدخل المبدعون في رحلة ملؤها التيه إلى قرارة النفس البشرية في لحظات حضورها بل وحتى في غيابها، عله يصطاد لحظة للكتابة عنها، فيدخل في معركة شك وتوهم مع نفسه فيسائلها أو ليس بالتوهم يخلق المبدع عالمه الإبداعي؟ إن أية محاولة حفر أو نبش في أعماق حياة المبدعين، تقودنا بالضرورة إلى القول إن من الأركان المؤسسة لحياة المبدع فوضاه و ثورته في وجه المعنى المألوف والجاهز،إذ تروم الذات المبدعة خلخلة جبروت وسلطة المعنى،إلى معنى يغرفه الكاتب من رؤية حياتية شكلت في لاوعيه إبداعا ينتظر الإفراج عنه. هكذا حال المبدعين، لا ترسو حياتهم على بر، تراهم دوما وأبدا لا كالبشر العاديين، إنه الوعي الشقي، والقلق الإبداعي عندهم،الذي يسكنهم أينما حلوا وارتحلوا ،لايهدأ لهم بال ولا يغفولهم جفن إلا وهم يمارسون متعة القول الإبداعي. إن حالة المبدع محمد عزيز بن سعد في هذا العمل الزجلي الموسوم ب"الطنز العكري"الصادر عن دار القرويين الدارالبيضاء بلغة زجلية تمتح من العامية والدارجة المغربية، لغة التواصل اليومي،لغة المواطن البسيط، لغة السوق والشارع،والعامة، لغة يتحقق فيها السهل الممتنع، لغة تطفح باكتواء المبدع الزجلي الرائي محمد عزيز بنسعد بجمر القصيدة الزجلية المحتفية بعبق الترات المغربي الأصيل، فالرجل من طينة المبدعين الذين يعشقون حرقة الحرف، ويكرسون حياتهم من أجل الرقى بالقول الإبداعي. ولعل هذا ما يسعى إليه صاحب "الطنز العكري" في منجزة الزجلي فعلى امتداد هذا العمل وانطلاقا من كل العناوين المشكلة للديوان: الطنز العكري ، لقصيدة... حركة وتبوريدة ،قلم الماية ، وجع الدواية، رحبة البال...وهبال ولا دباب الله، بوهالي بلا دعدوع ، قصيدة البوهالي، ينصب المبدع/الزجال نفسه مدافعا عن فن القول الزجلي، منتصرا له في معركة أدبية ونقدية حول قصيدة الزجل،جعل محمد عزيز بنسعد وغيره من المبدعين الزجالين، يخوضون في غمار هذه المعركة النقدية من داخل نصوصهم الإبداعية، بمعنى أن يتحول النص الإبداعي من سؤال الالتزام والتعبير عن قضايا وهموم المجتمع إلى سؤال الالتزام والاحتراق بنار القصيدة ذاتها. إن "ديوان الطنز العكري" صرخة مبدع في وجه الطفييلن عن مجال الكتابة الزجلية، والمستخفين بهذه الكتابة، لذلك فعزيز بنسعد يرى هؤلاء يمارسون "الطنز العكري" عليه وعلى القصيدة الزجلية. ولا أدل على ذلك من كون الطنزله دلالات وحمولات سلبية في الثقافة المغربية فهو يحيل على الضحك على الذقون والسخرية، والسخرية هنا تمارس في واضحة النهار وبنية واضحة ومبيتة و استخفافية من خلال ربط الطنز بالعكري. يقول الزجال في قصيدة: لقصيدة ... حركة وتبوريدة: اح منويا غنوا ح هكاك.. وقرقبنا عليه سوارات الرياح يا أولاد سيدي بو معنى فينكم؟ فصلو لينا من ثوب الحرف سلهام معنى يواتينا...يلبسنا ونلبسوه ويجي على قياسنا، ونخرجوا حتى حنا ونتعنكرو بيه ،غداف يوم عيد الكلمة يخرجو الحروف من الجوف واللي ما قرا ... يتفرج ويشوف الكلمات الحادكات والسربات الحاركات علاش كاداات إنها غيرة المبدع على فن القول الزجلي التي دفعته إلى إدانة الواقع، ودعوة المبدعين الزجالين للنهوض بهذا الفن الإبداعي إنه صوت مبدع أصيل مسكون بحب الزجل، فهو كحارس عرين لقصيدة الزجلية ينتقد أعداء النص الزجلي ويقول لهم بكيفية تشكيل القصيدة ومخاضها الأليم ،ولسان حاله ينطق بالمثل المغربي الدارج"اللي قال العصيدة باردة يدير ايدو فيها". وفي ذلك يقول في نفس القصيدة في : ها العيطة كاين اللي لقلم هو عكازة سعدات كل من عن حرف وحازه ليوم ملى لقصيدة واركب وسعفوا مهمازة ماشي ع جي...وسرج الحرف الحران راه... يحرن ليك ماشي ع جي واركب على ظهر الحرف وهمزو ينو ضبيك إن للكتابة طقوسها التعبدية الخاصة، فحالة الكتابة أشبه بالصلاة والخشوع وحالات الفناء والحضور عند المتصوفة. فالإتيان بالمعنى، ونسجه في ألفاظ عملية صعبة تحتاج إلى صبر جراء ألم مخاض الكتابة العسير، فهذا الفرز دق يقول تأتيني لحظات يكون فيها اقتلاع ضرس أهون من كتابة بيت شعري واحد بين هذا وذلك يفضح محمد عزيز بنسعد الخصوم و المنتقدين والمستخفين رافعا شعار كفى من السخرية والضحك على الذقون أو بعبارة دارجة "راكم غير طنازة باركا من الطنز. وفي نفس هذا المعنى يواصل محمد عزيز بنسعد الصراخ في وجه هؤلاء: وانت ماور ديته من عين الله ما خليته يرعى ف عزو وحليبه ف الضرع غرز ما علفتيه من نعمة الله وصباعد على لجامو كزو ف الشوم والحرنة والكز ما نسحيته في سبيل الله رزم وعظامو برزو ودحيتيه شوف الطنز سخرية هؤلاء يقابلها سخرية من المبدع تجاههم وفي منحى أخر يدخل الزجال بنسعد في حوار شفاف مع ذاته مستنطقا ذاته الإبداعية محاورا الأخر / السلطة والرقيب إذ قد يكون القصد من وراء هذا الاستخفاف هو عمق، المبدع وأصالة صوته الإبداعي الصادق تجاه مجتمعه، وخوف السلطة من سلطة إبداعه يقول في قصيدة الطنز العكري: تهموني بالكتبة وما نجروا ليام قلم تهموني بالكتبة وما فرشوا ليا أوراقهم البيضا طرفوها عليا خافوا من لمداد مدادي ينوض ليها ف نصاصات الليل وتصدق الكلمة شاربة من الحرف معانيه إن تجربة المبدع الزجال محمدعزيز بنسعد في هذا المنجز الزجلي "الطنز العكري" تجربة إبداعية خصبة في تكونها الفني والموضوعاتي. وفي امتداداتها الزجلية التراثية ، سيما وأن مبدع هذه التجربة الإبداعية صوت زجلي مسكون بهاجس النص الزجلي، الذي يكتوي بجمره ويدافع عن هذا النص إبداعا وتنظيرا بكل ما أوتي من قوة إبداعية وطاقة زجلية، في وجه خصوم وأعداء هذا الفن الإبداعي واصفا إياهم بمحترفي السخرية والضحك على الذقون. *ناقد مغربي