لقد كان الجابري مسكونا بهاجس العمل على بلورة رؤية جديدة للتراث العربي الإسلامي، باصطناع منهجية حديثة معاصرة في البحث و الفهم و الإفهام. فما نوع هذا المنهج الذي يقترحه للتعامل مع التراث؟ لقد عولج التراث العربي الإسلامي، بمناهج مختلفة، انطلاقا من رؤى معينة، صريحة أو ضمنية. وهو يقرأ التراث قراءة عصرية، يقدم الجابري نقدا للمناهج المتداولة في دراسة التراث. لقد انتقد صاحب كاتب"نقد العقل العربي"، القراءة السلفية، باعتبارها قراءة انتقائية تسعى إلى تأكيد الذات أكثر من سعيها إلى أي شيء آخر، قراءة خطابية تمجد الماضي بمقدار ما تبكي الحاضر، «نحن أمام قراءة إيديولوجية جدالية، كانت تبرر نفسها عندما كانت وسيلة لتأكيد الذات وبعث الثقة فيها. إنها آلية للدفاع معروفة، وهي مشروعة فقط عندما تكون جزءا من مشروع للقفز والطفرة» يقول الجابري في "نحن و التراث" قبل أن يضيف:«القراءة السلفية للتراث،قراءة لا تاريخية،و بالتالي فهي لا يمكن أن تنتج سوس نوع واحد من الفهم للتراث هو:الفهم التراثي للتراث.التراث يحتويها و هي لا تستطيع أن تحتويه لأنها:التراث يكرر نفسه». وانتقد الجابري القراءة الاستشراقية، فهي قراءة تعالج تراثنا معالجة خارجية، تعالجه كموضوع، وليس كذات وموضوع. كما أنها مؤطرة إيديولوجيا برؤى تمليها نزعة التمركز حول أوروبا، النزعة التي تجعل معطيات تاريخ أوروبا ومعطيات حاضرها، مرتكزا ومرجعا. «الرؤية الاستشراقية، قراءة أوروباوية النزعة، تقوم على قراءة تراث بتراث» يقول الجابري في ذات الكتاب. في حين اعتبر القراءة اليسارية العربية للتراث العربي الإسلامي، قراءة «لا تتبنى المنهج الجدلي كمنهج للتطبيق بل تتبناه كمنهج مطبق. وهكذا فالتراث العربي الإسلامي يجب أن يكون انعكاسا للصراع الطبقي من جهة وميدانا للصراع بين المادية والمثالية من جهة أخرى. ومن ثمة تصبح مهمة القراءة اليسارية للتراث هي تعيين الأطراف و تحديد المواقع في هذا الصراع». لم يتوقف الجابري عند نقد مناهج السلفيين والمستشرقين، ونقد التطبيق الآلي للمنهج الماركسي فحسب، بل إنه اختار منهجا للبحث، ذا قاعدة ابيستيمولوجية، منهج يصلح للتعامل مع التراث العربي الإسلامي ومع التراث الإنساني عامة. إن الأساس المنهجي للرؤية التي حاول الجابري اعتمادها في دراسة التراث ،يقوم على: - المعالجة البنيوية: وتتلخص في دراسة التراث من النصوص كما هي معطاة لنا. وهذا يقتضي-وفق الجابري-محورة فكر صاحب النص حول إشكالية قادرة على استيعاب جميع التحولات التي يتحرك بها ومن خلالها صاحب النص. - التحليل التاريخي: ويتعلق الأمر هنا أساسا بربط فكر صاحب النص بمجاله التاريخي بكل أبعاده الثقافية والسياسية والاجتماعية. - الطرح الإيديولوجي: يقصد به الكشف عن الوظيفة الإيديولوجية، الاجتماعية السياسية، التي أداها الفكر المعني أو كان يطمح إلى أدائها. هذا المنهج كما حدده المفكر الجابري لقراءة التراث قراءة عصرية، يهدف إلى جعل التراث معاصرا لنفسه، على صعيد الإشكالية النظرية والمحتوى المعرفي والمضمون الإيديولوجي، الشيء الذي يتطلب معالجته في محيطه الخاص، المعرفي و الاجتماعي والتاريخي. وهو الأمر الذي يقتضي فصله عنا. وفي الوقت نفسه جعله معاصرا بنقله إلينا ليكون موضوعا قابلا لأن نمارس فيه وبواسطته عقلانية تنتمي إلى عصرنا. »و بهاتين العمليتين معا يصبح التراث موضوعا لنا بدل أن يبقى موضوعا فينا يقدم نفسه ذاتا لنا. إن ذلك ما يجعلنا قادرين على أن ننوب نحن عنه في فهم العالم بدل أن نتركه ينوب عنا. و بعبارة أخرى إننا بذلك نتحرر من سلطته علينا ونمارس نحن سلطتنا عليه». يوضح الجابري في كتابه"التراث والحداثة". و لتوضيح هذا، يورد الجابري في مؤلفه "التراث والحداثة" مثالا يجدر بنا إيراده بالكامل: و يتعلق الأمر بنص من التراث، وهو الحديث النبوي، والذي جاء فيه: «كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار». و بعد أن ينظر صاحب "الخطاب العربي المعاصر" في الجانب البياني البلاغي للنص، وبعد النظر في العلاقة البنيوية التي تحكم الوحدات الخطابية فيه، وبعد تحليل بنيته العميقة، يخلص إلى أن :«سياق العلاقات القائمة بين و حدات الخطاب في النص، يقتضي أن المقصود ليس المحدثات بإطلاق، بل فقط تلك التي تكون بدعة في الدين، أي تلك التي تضيف جديدا إلى نظام العبادة في الإسلام، وهو نظام محدد مقرر كامل لا يجوز لأحد إضافة أي شيء إليه أو حذف أي شيء منه». ويضيف موضحا: «نحن نعرف أن الصيام الذي هو فريضة في الإسلام هو صيام شهر رمضان، فإذا أراد شخص أن يتعبد بإضافة يوم أو أيام إليه فإنه يحدث أمرا مبتدعا في الدين، يفسد نظام الدين، ومن هنا الضلال وبالتالي الوعيد بالنار كجزاء، ذلك لأنه لو جاز لكل واحد أن يزيد في الدين بنية التعبد لفسد الدين و لأصبح فوضى لكل دينه الخاص». البدعة هي زيادة في الدين، يقصد منها المبالغة في التعبد، ذلك هو مفهوم البدعة كما حددها الجابري، وذلك هو المعنى الفقهي الشرعي للبدعة المقصود في الحديث.«غير أنه حدث أن وسع استعمال كلمة "بدعة" لتحمل مضمونا إيديولوجيا، و ذلك في المنازعات بين الفرق الكلامية (السياسية)». وبهذا النوع من التحليل يصبح الحديث الشريف:«كل محدثة بدعة و كل بدعة ضلالة و كل ضلالة في النار»،معاصرا لنفسه، أي أن مضمونه قد أصبح محدودا بنظام القيم الذي ينتمي إليه،بالميدان الذي يرتبط به،ميدان العبادة و التعبد. بهذا التحليل، جعل الجابري الحديث الشريف معاصرا لنفسه، بربطه بمحيطه الخاص. فكيف نجعل هذا النص معاصرا لنا على صعيد الفهم والمعقولية؟ الجواب يقدمه الجابري في ذات الكتاب، فلنستمع إليه مرة أخرى يقول:«علينا الآن أن ننقله إلينا لنجعله معاصرا لنا. إن الأمر يتعلق ب"الابتداع" بالحداثة والجدة. وبناء على ما تقدم يصح القول إن الذين يعتقدون أن الإسلام ضد الحداثة والتحديث مخطئون، سواء أكانوا من أنصار الحداثة المعاصرة أم كانوا من الواقفين ضدها. إن ما يرفضه الإسلام،هو الأمور المحدثة في الدين قصد التعبد، أما تلك التي يبتكرها الإنسان من أجل راحته ومنفعته وتسخير الطبيعة تسخيرا نافعا للإنسان والإنسانية فهي لا تدخل في مفهوم البدعة بالمعنى المشار إليه، بل منها ما هو مرغوب فيه، و قد سمى الفقهاء المحدثات النافعة ب"البدع الحسنة".و هناك حديث نبوي يثني على كل "من سن سنة حسنة". والسنة الحسنة و البدعة الحسنة هي بمعنى واحد». تعميق الوعي بمشكل من المشاكل يتطلب منهجا ورؤية. والمنهج والرؤية متلازمان.المنهج تؤطره وتوجهه دوما رؤية ما. وكما سبقت الإشارة إلى ذلك، فإن المزاوجة بين المنهج البنيوي والتحليل التاريخي والطرح الإيديولوجي هي الأساس المنهجي للرؤية اعتمدها صاحب نقد العقل العربي في قراءة التراث قراءة عصرية. وإذا سألنا الجابري عن الرؤية التي أسس عليها مشروعه الفكري؟ أجاب:«يتعلق الأمر بالمنطلقات التي ترتكز عليها القراءة التي نقترحها وتستمد التوجيه منها». وعناصر الرؤية التي يقدمها الجابري، يمكن إيجازها في: - وحدة الفكر: وحدة الفكر في المنظور الجابري تعني وحدة الإشكالية «إن ما يحدد وحدة فكر ما، في مرحلة تاريخية ما، هو وحدة إشكالية هذا الفكر». ولتوضيح هذه الدعوى يأخذ الجابري مثلا قريبا منا، يقول:«لقد عالج الفكر العربي الحديث، فكر عصر النهضة، إشكالية واحدة هي إشكالية النهضة، و من هنا وحدته. فما كان يهم قاسم أمين-مثلا- الذي عالج مشكل المرأة داخل إشكالية النهضة، ليس المرأة ككيان معزول، بل المرأة كعنصر في النهضة يشكل تحريرها مشكلا من مشاكلها، لذلك عندما أخذ يحلل وضعية المرأة العربية اضطر إلى طرح مشكل التربية ومشكل الديمقراطية ومشكل التراث ومشكل اللغة والتقاليد...أي طرح إشكالية النهضة كاملة». - تاريخية الفكر:التمييز بين المحتوى المعرفي والمضمون الإيديولوجي في الفكر الواحد. تنطلق الخطوة الثانية للرؤية التي يصدر عنها الجابري في قراءته للتراث، من التمييز بين المحتوى المعرفي والذي يتكون من نوع واحد ومنسجم مع المادة المعرفية، وبالتالي مع الجهاز التفكيري: مفاهيم، تصورات، منطلقات....والمضمون الإيديولوجي الذي يحمله هذا الفكر ذلك الفكر، أي الوظيفة الإيديولوجية-السياسية والاجتماعية- التي يعطيها صاحب أو أصحاب الفكر لتلك المادة المعرفية. عند تطبيق هذا المنهج على عدة فلاسفة مختلفين، أنجز حولهم دراسات، من بينها دراسة حول الفارابي. وبعد قراءته لفلسفة الفارابي السياسية والدينية، في ضوء معطيات عصره ومشاكل مجتمعه، بغية الكشف عن الوظيفة الإيديولوجية التي أداها فكر الفارابي في زمانه، نجد الجابري ينتهي إلى النتيجة التالية، يقول:«إن الفارابي عبر بصورة لاواعية-أي إيديولوجية-عن مطامح قوى التقدم في عصره، مطامحها في قيام حكم مركزي يسود فيها العقل و يكون قادرا على الإمساك بجميع السلطات، وبالتالي توجيه المجتمع العربي الإسلامي وتوحيده فكريا وسياسيا واجتماعيا». يقر الجابري في ذات الكتاب، ويضيف: «لقد كانت تلك القوى تستشعر الخوف على مصيرها ومصير دولتها الفتية، نظرا إلى عجزها البنيوي عن فرض سيطرتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية على المجتمع العربي الإسلامي التي كانت دولته-دولة الخلافة-آخذة في التفكك والانحلال، فجاء الفارابي بمدينته الفاضلة ليعبر عن حلم تلك القوى، حلمها في إقامة دولة العقل والإخاء العقلاني. بعد أن ضاقت دولة الدين بنفسها و بفعل تطوراتها الداخلية، فكريا و سياسيا و اجتماعيا». وفي المحصلة، نجد الجابري يؤكد أن الأمر لا يتعلق باصطناع منهج معين جاهز، ولا تبني رؤية مسبقة جاهزة جامدة. فالمنهج مهما كان هو أداة، والأداة لا تبرز فعاليتها إلا عند استعمالها، إلا بمقدار مطاوعتها وقدرتها على التكيف مع المعطيات التي تعالجها.