"الجديدي" ينتصر على الرجاء بثنائية    جامعيون يناقشون مضامين كتاب "الحرية النسائية في تاريخ المغرب الراهن"    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    الوزير قيوح يدشن منصة لوجيستيكية من الجيل الجديد بالدار البيضاء    حقائق وشهادات حول قضية توفيق بوعشرين مع البيجيدي: بين تصريحات الصحافي وتوضيحات المحامي عبد المولى المروري    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    الدورة ال 44 لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب بالمنامة .. السيد الراشيدي يبرز الخطوط العريضة لورش الدولة الاجتماعية التي يقودها جلالة الملك    الدكتور هشام البوديحي .. من أحياء مدينة العروي إلى دكتوراه بالعاصمة الرباط في التخصص البيئي الدولي    التجمع الوطني للأحرار يثمن المقاربة الملكية المعتمدة بخصوص إصلاح مدونة الأسرة    حصيلة سنة 2024.. تفكيك 123 شبكة لتنظيم الهجرة غير النظامية والاتجار في البشر    38 قتيلا في تحطم طائرة أذربيجانية في كازاخستان (حصيلة جديدة)    فرض غرامات تصل إلى 20 ألف درهم للمتورطين في صيد طائر الحسون بالمغرب    المهرجان الجهوي للحلاقة والتجميل في دورته الثامنة بمدينة الحسيمة    انقلاب سيارة على الطريق الوطنية رقم 2 بين الحسيمة وشفشاون    رحيل الشاعر محمد عنيبة أحد رواد القصيدة المغربية وصاحب ديوان "الحب مهزلة القرون" (فيديو)    المغرب الرياضي الفاسي ينفصل بالتراضي عن مدربه الإيطالي غولييرمو أرينا    رئيس الرجاء يرد على آيت منا ويدعو لرفع مستوى الخطاب الرياضي    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    الندوة 12 :"المغرب-البرتغال. تراث مشترك"إحياء الذكرىالعشرون لتصنيف مازغان/الجديدة تراثا عالميا. الإنجازات والانتظارات    الإنتاج الوطني من الطاقة الكهربائية بلغ 42,38 تيراواط ساعة في متم 2023    حركة حماس: إسرائيل تُعرقل الاتفاق    روسيا: المغرب أبدى اهتمامه للانضمام إلى "بريكس"    السعودية و المغرب .. علاقات راسخة تطورت إلى شراكة شاملة في شتى المجالات خلال 2024    عبير العابد تشكو تصرفات زملائها الفنانين: يصفونني بغير المستقرة نفسياً!    أخبار الساحة    الخيانة الزوجية تسفر عن اعتقال زوج و خليلته    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    تأجيل أولى جلسات النظر في قضية "حلّ" الجمعية المغربية لحقوق الإنسان    الريسوني: مقترحات مراجعة مدونة الأسرة ستضيق على الرجل وقد تدفع المرأة مهرا للرجل كي يقبل الزواج    التنسيق النقابي بقطاع الصحة يعلن استئناف برنامجه النضالي مع بداية 2025    بعد 40 ساعة من المداولات.. 71 سنة سجنا نافذا للمتهمين في قضية "مجموعة الخير"    جهة مراكش – آسفي .. على إيقاع دينامية اقتصادية قوية و ثابتة    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    برنامج يحتفي بكنوز الحرف المغربية    مصرع لاعبة التزلج السويسرية صوفي هيديغر جرّاء انهيار ثلجي    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    ابتدائية الناظور تلزم بنكا بتسليم أموال زبون مسن مع فرض غرامة يومية    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    لجنة: القطاع البنكي في المغرب يواصل إظهار صلابته    نزار بركة: 35 مدينة ستستفيد من مشاريع تنموية استعدادا لتنظيم مونديال 2030    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب    مجلس النواب بباراغواي يصادق على قرار جديد يدعم بموجبه سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية    باستثناء "قسد".. السلطات السورية تعلن الاتفاق على حل "جميع الفصائل المسلحة"    تقرير بريطاني: المغرب عزز مكانته كدولة محورية في الاقتصاد العالمي وأصبح الجسر بين الشرق والغرب؟    ماكرون يخطط للترشح لرئاسة الفيفا    بطولة إنكلترا.. ليفربول للابتعاد بالصدارة وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    ضربات روسية تعطب طاقة أوكرانيا    تزايد أعداد الأقمار الاصطناعية يسائل تجنب الاصطدامات    مجلس النواب بباراغواي يجدد دعمه لسيادة المغرب على صحرائه    ارتفاع معدل البطالة في المغرب.. لغز محير!    وزير الخارجية السوري الجديد يدعو إيران لاحترام سيادة بلاده ويحذر من الفوضى    السعدي : التعاونيات ركيزة أساسية لقطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هكذا أقرأ ميشال فوكو
نشر في بيان اليوم يوم 18 - 09 - 2015

بعد ثلاثين عاماً على رحيل ميشال فوكو، (1928 1984)، احتفت الأوساط الثقافية، في فرنسا، بهذه الذكرى، بما يليق بفيلسوف وكاتب شغل ساحات الفكر وميادين النضال بأفكاره ومواقفه وسجالاته، طوال مسيرته الفكرية.
تجلى هذا الاحتفاء، الذي لا سابق له، بنشر ما لم ينشر له من نصوص مكتملة أو دروس جامعية أو أحاديث صحفية، كما تجلى في الكتابة عن فكره وسيرته في معظم المجلات والصحف الاسبوعية والشهرية. هذا فضلاً عن كم هائل من الأوراق التي دون عليها المعلومات والمواد الأولية التي استند اليها في تأليف ما ألفه على مدى أربعين عاماً. هذه الوثائق قد وجدت فيها الدولة الفرنسية كنزاً وطنياً، ولذا فقد أصبحت في عهدة مكتبة فرنسا الوطنية.
الحاضر أبداً
يعد فوكو بين فلاسفة فرنسا الأكثر تأثيراً والأقوى حضوراً، كما تشهد نصوصه ومصطلحاته التي يجري تداولها على نطاق واسع، لدى المختصين والقراء عامة، في فرنسا وفي العالم. ولا مبالغة في القول بأننا ازاء مؤلف استثنائي من حيث قوة اثره وانتشار نصوصه. وهو يحضر اليوم أكثر من اي يوم مضى. فكلما حسبنا أننا تجاوزناه يفاجئنا بحضوره في غير مسألة أو قضية.
وهكذا، إذا كان فوكو رحل، فانه يحضر بجسده الآخر، أعني بنصوصه المميزة والخارقة. فهي أعمال لا تمحى ولا يخفى أثرها. كونها تشكل مادة لا تنضب لقراءة ما لم يقرأ فيها مما هو جديد وثمين، تماماً كما ان حياته، بأسرارها والغازها، تشكل مادة لكتابة ما لم يكتب عنها مما هو ملغز ومثير، من هنا هذا الفيض من التحليلات والتأويلات أو الاستثمارات والانتقادات التي تخضع لها أو تحظى بها تجربة فوكو الحياتية ومغامراته الفكرية المفتوحة.
الأثر الخارق
يعود الأثر الخارق لفوكو، لكونه احدث تغييراً جذرياً في المشهد الفكري والفلسفي، سواء من حيث الحقل والمنهج، أو من حيث الأطروحة والعدة، فضلا عما احدثه من تحول في أسلوب الكتابة وفي طريقة ممارسة الفلسفة.
لقد افتتح فوكو آفاقاً جديدة لعمل الفكر غير مسبوقة، بقدر ما استخدم طريقة مختلفة في التفكير تجددت معها مشكلات الفلسفة ولغة الفهم، بقدر ما تغيرت خرائط المعرفة وعلاقات السلطة. هذا شأن المفكر المبدع، انه يأتي من مكان نجهله، بقدر ما يأخذنا الى افق لم نكن نتوقعه، مجترحا بذلك امكانا لفهم ما كان يستعصي على الفهم أو لفعل ما كنا نعجز عن فعله.
التجربة الوجودية
كان منطلق فوكو في كل ما كتبه هو التجربة الوجودية المعاشة والملموسة، بكل ابعادها العشقية والمعرفة والسياسية والفنية.
والتجربة، بحسب مفهومه لها تنطوي على ثلاثة أبعاد متداخلة ومتراكبة، شكل معرفي يبني به المرء علاقته مع الحقيقة، نمط سلطوي ينظم علاقة الواحد بالآخر، كود (معيار) خلقي يدير به الشخص علاقته بذاته ورغباته. يضاف الى ذلك بُعدٌ رابع يتناول كيفية تمفصل الداخل مع الخارج، كما يترجم في انماط العلاقة بين الوعي والعالم، بين الرؤية والعلامة، بين الخطابات والوقائع.
النص والحقيقة
كسر فوكو التقليد الراسخ الذي كان يتعاطى اصحابه مع المعرفة كنتاج صاف للوعي والفكر والعقل والمنطق؛ بقدر ما تعاطوا مع الحقيقة من خلال مقولات الماهية والمطابقة والضرورة... لقد عاد فوكو الى ما هو في المتناول، بعيداً عن كل تهويم ايديولوجي أو تشبيح ذاتي أو قطع وثوقي دوغمائي..
إذن عاد الى الارشيف الذي هو الاثر الباقي، كما يتجسد في ما ينتجه البشر، حول الذات والعالم، ومن بينهم العلماء والفلاسفة، من الخطابات التي لا نهاية لها بمنطوقاتها وتشكيلاتها وأنظمتها..
إشكالية الخطاب
وهو عاد الى الخطابات، لا لكي يقف على مقاصد مؤلفيها أو لكي يكشف عما كانت تريد قوله ولم تقله، ولا لكي يبين اين اصابت واين أخطأت. بل لكي يبين عما تستعبده بالذات في ما هي تتكلم عليه.
والخطاب انما ينسى نفسه وحقيقته ويحجب بنيته وسلطته، بقدر ما يخفي كيفية تشكله، اي البداهات التي يتأسس عليها، او الآليات التي يستخدمها، او الألاعيب التي يلجأ اليها، او القوى التي يوظفها ولا يعود هذا الحجب الى قصور معرفي أو إلى خلل منهجي، هناك عائق وجودي يحول دون ان يكون خطاب الواحد اداة للتفكير وموضوعاً له في آن وتلك هي اشكالية الخطاب هناك في كل ما نفكر فيه أو نعرفه أو نبرهن عليه، جانب غير مفكر فيه، يخرج عن نطاق السيطرة ويبقى في دائرة العتمة.
الحفر المعرفي
هذه هي المنطقة التي حاول فوكو اقتحامها بتحليلاته الاثرية الاركيولوجية: الاشتغال على الخطابات بالحفر في طبقاتها وتفكيك بنياتها أو بتعرية بداهاتها وكشف طياتها، متجاوزاً بذلك المقاربة الابستمولوجية التي تعمل بثنائية الصح والخطأ أو العقلي وغير العقلي، نحو ثنائية جديدة المفكر فيه وغير المفكر فيه، كاشفا بذلك عما تمارسه الذات المفكرة، فيما هي تفكر فيه من الصمت والجهل والنسيان، وعما يتستر عليه العقل فيما يعقله ويستدل عليه من ضروب الحمق والجنون واللامعقول..
هذا ما فعله فوكو عندما باشر مشروعه، كتابة تاريخ الافكار في ميادين الفلسفة وعلوم الانسان، بدءاً من عصر النهضة حتى نهاية القرن التاسع عشر، مروراً بالعصر الكلاسيكي وعصر الأنوار، وكما تجلى ذلك بشكل خاص في كتابه «الكلمات والاشياء» (1966)، ثم في كتابه «أثريات المعرفة» (1969)، وفيه يتناول المنهجية التي استخدمها في الكتاب الأول.
أسفرت حفريات فوكو عن صوغ مفاهيم جديدة، سواء باستخدام مفردات قديمة بمعاني جديدة، أو بنحت مصطلحات جديدة، مثل الخطاب، التدابير، اثريات المعرفة، الممتنع على التفكير، الابستيميه (épistèmé).
أتوقف عند هذا المصطلح الأخير الذي هو مفتاح لفهم الانجاز الفوكوي، والذي هو ايضا مثار للالتباس والجدال، سواء من حيث مفهومه أو من حيث ترجمته الى اللغات الأخرى. هذا اللفظ يعني في اليونانية «العلم»، وقد استخدمه فوكو بتوجه جديد، على سبيل إعادة الابتكار، بقدر ما اشتغل على موضوعات جديدة. والمصطلح يتعدى ترجمته الى نظام معرفي، كما نقل الى العربية. والأولى ترجمته باستخدام كلمة «حفيرة» والحفيرة مفهوم مفتوح على تعدد البعد من حيث الدلالة.
يمكن القول بأن مصطلح الحفيرة يعني كيفية التمفصل بين الكلمات والأشياء، بين الخطابات والموضوعات، بين الممارسات الخطابية والممارسات العملية، بين التشكيلات الخطابية وبين الانساق المعرفية والفروع العلمية.
كذلك يمكن القول بأنه وسيط يقع على الحد الفاصل بين ما يخرج في كل فكر عن التفكير ويشكل قاعدته أو اساسه في آن.
ولذا فهو الذي يتيح في عصر معين انتظام الخطابات وانبجاس المعارف. أي هو الذي يتيح للافكار ان تترتب وللعلوم ان تتشكل وللعقلانيات ان تشتغل. وهو الذي يفسر ايضاً، كيفية الانتقال من نظام معرفي الى آخر، أو من حقبة فكرية الى أخرى.
بكلام آخر، هو الذي يقف وراء الامكان وعدمه، وهو المسؤول عن الانفتاح والانغلاق، عما يقال وعما يمتنع على القول، عما بوسع العلم تصوره وعما يستبعده في ما ينتجه البشر، وسواء تعلق الأمر بأنساق المعرفة أم بأبنية الواقع.
التشابه والتمثيل
مثال ذلك ان مقولة «التشابه» قد مثّلت في عصر النهضة الأوروبي النظام الغائر أو الصورة الأولى للمعرفة التي وقفت وراء تكوين خطاب الانسان الذي اصبح هو المركز والمرجع، بقدر ما كان ينظر الى العالم من خلال مفردات التماهي والتمرأي، وبقدر ما كانت العلامات تعكس طبيعة الاشياء. هنا تكون الأولوية للمعنى على اللفظ والمدلول على الدال هنا يتطابق التأويل بوصفه منهجاً مع السيمياء بوصفها علم العلامات.
مع الدخول في العصر الكلاسيكي، عصر ديكارت، لم يتم الانتقال على سبيل التدرج والتطور، بل حدث انقطاع، إذ حلت محل مقولة التشابه مقولة «التمثيل» المركبة، اي قابلية التمثيل لأن يتمثل ذاته، أو كون الشيء الذي يمثل شيئاً آخر يتضمن فكرة التمثيل ذاتها. هذه المقولة هي التي سمحت بنشوء خطاب العقل القائم على القياس والنظام والترتيب. ولذا اخلى هنا التأويل مكانه الى منهج النقد والتحليل، وحلت محل فكرة التماهي ثنائية التشابه والتباين في تعريف الاشياء وتصنيفها.
مع الدخول في القرن التاسع عشر، تنهار صورة الانسان التي ولدت في عصر النهضة وبلغت ذروتها في العصر الكلاسيكي مع مقولة «الإنسان سيد الطبيعة ومالكها« بقدر ما اخترق مفهوم «التاريخ» كل ما كان الانسان يخلع عليه طابع التعالي، فيما هو في الحقيقة محايث، ومتغير، أو عابر وزائل، اي اعمال لها تاريخيتها ونسبيتها. هذا ما كشفته علوم التحليل النفسي والاثنولوجيا والاقتصاد السياسي والألسنية الحديثة.
المعنى والمنظومة
من الأمثلة الأخرى ان الانتقال من علم النحو الى الألسنية الحديثة لم يكن ممكناً لولا تغير حفيرة المعرفة الأولى، اي الانتقال من مقولة «المعنى» الى مقولة «المنظومة» تماماً كما ان الانتقال من مقولة «الوظيفة» الى مقولة «المعيار» هي التي أتاحت التحول من علم الحياة الى علم النفس، وأن الانتقال من مقولة «الصراع» الى مقولة «القاعدة» هو الذي أتاح الانتقال من تحليل الموارد الى علم الاقتصاد.
هنا يثار السؤال: ما هو هذا الشيء أو العنصر أو المبدأ أو الجذر الذي يملك كل هذه القدرة العجيبة على التوصيف والتصنيف أو على الشرح والتفسير أو على الفهم والتشخيص، في كل ما ينتجه الانسان، بوصفه كائناً يتكلم ويعرف او يرغب ويعمل، من تدابير تشمل الخطابات والمعارف والمؤسسات والقوانين والاجراءات الادارية والأنشطة المدينية.
ما وراء الذات
إذا عدنا الى فوكو، نقف على غير تعريف لمصطلح «الحفيرة»، كم يحاول شرحه في ثنيات دراسته وطيات خطابه.
فهو صورة، ولكنها ليست مجردة، وانما هي متجذرة في ارضها او تربتها التي تشكل شرط امكانها.
وهو اصل أو اساس، ولكنه دوما متوار، ولا يمكن القبض عليه.
وهو مبدأ قبلي يسبق أي معرفة ولا يعرف بذاته، ولكنه ليس متعالياً بل تاريخي ومحايث.
وهو شكل، ولكنه ليس بمثابة روح عصراً او بداهة تتحكم في كل الخطابات والانساق، أو نمط عقلاني يخترق كل المعارف. بل حقل كثيف ومفتوح لا ينضب من العلاقات المتشابكة بين الممارسات الخطابية والاشكال المعرفية. ولذا هو لا يقرأ بمفردات الأنا المتعالي او سيادة الذات، ولا بمفردات التدرج والتقدم، بل بمفردات الانفصال والقطيعة والتفاوت والاختلاف والعتبة.
هنا يحضر السؤال حول عما اذا كانت الحفيرة الاثرية هي بنية، خاصة وأن فوكو، قد صنف بين اعلام البنيوية، لا شك أنها بنية، ولكنها بنية غائرة، عميقة، لا واعية، بقدر ما تلعب من وراء الذات «السيدة« بلغوناتها الصامتة ورغباتها المخاتلة وافكارها الملتبسة وشيفراتها الملغزة. وهذا ما حمل فوكو على الحديث عن «نهاية الإنسان».
بالطبع ليست الحفيرة بنية جامدة أو ثابتة بقوانينها الابدية، كما تعامل معها بعض البنيويين الذين يأخذون بالواقع كما يقدم نفسه، وانما هي متحولة ومتحركة باستمرار، اذ الواقع بحسب «المنطق التحويلي» وليس الماهوي، هو في حراك مستمر، تماما كما ان الفكر هو في توتر دائم، ولو تم ذلك بصورة معتمة او صامتة. ما يعني ان العالم هو مجموعة من البنى الخاضعة دوماً للتعديل والتغيير، سواء تعلق الأمر بمنظومات وتشكيلات، او بأفراد وجماعات، أو بتدابير وإجراءات. ولا عجب. فإذا كنا نعتقد بأنه لا وجود لحقيقة نهائية، فمآل ذلك أن الكلام على الحقيقة لا ينتهي، كما تشهد خطاباتها من البداية حتى اليوم.
وهكذا نحن مع مصطلح الحفيرة إزاء مفهوم يتّسم بالاشتباه والازدواج، بل التعارض. من هنا فإن محاولات فوكو إيضاحه، المرة تلو الأخرى، لا تبدد الالتباس ولا تقفل الكلام، لأن كل تعريف جديد، باستخدام عبارة مختلفة، إنما يُحدث إزاحة في الدلالة أو تغييراً في المعنى.
المفهوم والتباسه
وهذه هي إشكالية التعريف. أنه يصل دوماً بصاحبه إلى مأزقه. إذ الشيء لا يُعرّف بذاته، بل بأعراضه ورسومه، أي بنسبته إلى سواه من الأشياء التي تندّ عن الحصر والاستقصاء، ولذا لا تعريف يخلو من اعتباط أو إقصاء.
وإذا كان فوكو عندما يتحدث عن اللغة، في القرن السادس عشر، لا يرى سوى «نص أول» وما ينتج حوله من التأويلات التي لا نهاية لها، فإن نصه، هو نفسه، يستدعي ما لا يتناهى من التأويلات المختلفة، وربما المتعارضة، تعارض فوكو نفسه في غير مسألة، كقوله بأن الحفيرة ممكنة هو علاقتها بالنظام. أو قوله بأن العلامة تمتلك «بعض الأفضلية» في العصر الكلاسيكي، في حين يقول أنها تابعة للمعنى، لأن الصورة الطاغية والمهيمنة، في هذا العصر، وكما يؤكد فوكو مراراً، هو التمثل وقدرته على أن يتمثل ذاته.
أو كقوله إن نظام العلامة هو ثلاثي في القرن السادس عشر، فيما هو ثماني في القرن السابع عشر، مع أن هذا النظام لا يمكن إلا أن يكون ثلاثياً: الاسم والمسمى والتسمية، الكلمة والشيء وكيفية تمفصلهما، خاصة وأن التمثيل في العصر الكلاسيكي، بوصفه الصورة الأولى، هو ذو بنية مركبة ومضاعفة.
ثمة أمر آخر، يفسر هذا التردد بين النقيضين، هو ما خصّ شساعة الحقل الذي تناوله فوكو بالدرس والتحليل، سواء في هذا العصر أو ذاك. وهذا مطبّ وقع فيه أكثر أصحاب المشاريع الفكرية ولا سيما في العالم العربي.
إذ لا يمكن لمقولة أو صورة أو نموذج أن يختزل عصراً أو تراثاً أو ثقافة أو هوية. نحن إزاء حقول للدرس هي من الاتساع والكثافة والغنى والتعقيد، بحيث إن إدراجها تحت مقولات كلية أو نظريات شمولية لا يخلو من وهم وادعاء أو من حجب وإقصاء.
لذلك كله، يصعب القبض على ماهية مفهوم «الحفيرة». وهذا شأن المفاهيم القوية. فهي من الغنى والكثافة، بحيث لا سبيل إلى استنفاد الكلام عليها، كما هي مفاهيم «التعالي» عند كنط أو «التفكيك» عند دريدا أو «الاختزال» عند هوسرل، كل واحد منها مفتوح على إمكاناته الغنية واحتمالاته المتعددة أو المتعارضة. انه علاقته بما ينسج به من الهوامات والاستعارات والأطياف، بقدر ما هو علاقته بما يتقاطع معه أو يتعارض من المفاهيم والمقولات.
قد يكون في مصطلح الحفيرة شيء من كل المقولات التي استبعدها فوكو عند ديكارت أو كنط أو هيغل أو هوسرل أو سارتر. ولكننا إزاء تركيب مفهومي جديد هو أقرب ما يكون إلى النظام في «صورته الأولى» والعارية، أو في «كينونته الخام». ولذا فهو بمثابة نظام الأنظمة الذي يسعى التحليل الأثري كشفه، لمعرفة نمط وجود الأشياء، كما يختبرها الإنسان ويعيشها أو كما يفكر فيها ويصنّفها أو يصنعها، وكما تتجسّد في الشيفرات اللغوية والمنظومات الإدراكية أو في الممارسات العملية والإجراءات التاريخية.
فيض المعنى
أياً يمكن إن نص فوكو هو أغنى وأوسع بكثير من أطروحاته وتعريفاته، بقدر ما يفيض دوماً عما ينطق به أو يقوله. ولذا فإن قرائه يقرأ فيه ما لم يقرأ، بقدر ما يقرأ في صمته أو يفكك شيفراته أو يتسلل من بين شقوقه وفراغاته أو يلتفت إلى هوامشه ومنافيه... نحن إزاء أعمال أحدثت انقلاباً لا سابق له، في ما يخص تحليل الخطاب.
قبل فوكو كان الخطاب مجرد انعكاس للواقع أو مرآة للحقيقة. مع فوكو أصبح الخطاب هو نفسه ممارسة فكرية تشكل منطقة خصبة لعمل الدرس والتحليل، بقدر ما أصبح واقعة تترك أثرها في تركيب المفاهيم وإنتاج المعارف، وعلى نحو يغير علاقتنا بالواقع. وبتغيير النظرة إلى الخطاب تتغير العلاقة مع الفكر والذات والمعنى والمعروفة والحقيقة.
فالذات ليست جوهراً فكرياً خالياً من الأهواء والوساوس، وإنما هي ما يتناساه الفكر في فعل التفكير نفسه، الأمر الذي يزيح الكوجيتو عن عرشه، بوصفه مماهاة تامة بين الذات وذاتها أو بين الذات والأشياء.
والمعرفة ليست وقوفاً على دفتر الشروط الضرورية، بل هي خرق للشروط للانتقال من عتبة إلى أخرى، نظراً لأن الخطاب يتناسى من دون شروط إمكانه.
والمعنى ليس هو ما تهبه الذات المتعالية للأشياء، بل هو ثمرة أنظمة العلاقات وتشكيلات الخطاب التي تفيض دوماً عما تقوله أو تصرّح به.
والحقيقة ليست قبضاً على الماهيات الصافية بعقول محضة، ولا هي تراكم للمعارف الصحيحة أو تصحيح متواصل لها، أي هي لا تسبق محاولات إقرارها، وإنما هي ثمرة ممارسات فكرية وخطابية أو مجتمعية وسلطوية، أي لها تاريخها وإجراءاتها كما لها سياستها ونظامها ومؤسسات إنتاجها وتداولها، وهي تختلف من عصر إلى عصر، ومن مجال إلى آخر، ومن ثقافة إلى سواها.
السلطة والمعرفة
هنا أيضاً اقتحم فوكو منطقة جديدة لعمل الفهم والتشخيص، كانت مستبعدة، بل مرذولة، من جانب الفلاسفة الذين تناولوا مسألة السلطة بعقل فوقي، مركزي، نخبوي.
لقد نزل فوكو من سماء التنظير المتعالي أو الخاوي إلى أرض الواقع المعاش. فاهتم بدرس المؤسسات التي تشكل قاع السلطة وأرضها، كالمدرسة، والثكنة، والسجن، والملجأ، والمستشفى...
مثل هذه المؤسسات هي التي وقفت وراء ولادة المجتمع الأوروبي الحديث، أي «المجتمع الانضباطي»، الذي تشكّلت معه، على الأجساد والعقول، سلطة جديدة بمعاييرها وآلياتها وشبكاتها التي تشتغل بالمراقبة والضبط أو القولبة أو التطويع أو التهميش والإقصاء، من خلال ثنائيات السوي والمنحرف، أو البالغ والقاصر، أو العاقل والمجنون... هذا ما تجلى بشكل خاص في كتاب فوكو «المراقبة والعقاب»، الذي استخدم فيه مقاربة جديدة خرائطية، جيولوجية، حصيلتها تغير مفهوم السلطة من جانبين: الأول أن السلطة لم تعد تفهم بوصفها تقتصر على الدولة بمؤسساتها وأجهزتها وشرطتها وقوانينها، ولا بوصفها مجرد نظام شامل للسيطرة (تنّيناً) من فرد على آخر، أو من جماعة على أخرى. بحسب تحليل فوكو للخرائط تفهم السلطة بوصفها جملة من «علاقات القوة» المحايثة والمنبثة في الفضاء الاجتماعي بكل مجالاته ودوائره ومؤسساته. بهذا المعنى تبدو علاقة الواحد بالآخر هي علاقة سلطوية تتشكل في المجال الذي تمارس فيه، من خلال لعبة المواجهات التي تدعمها، أو الاستراتيجيات التي تستخدمها لكي تفعل وتؤثّر، أو لكي تترجم في جهاز مؤسسي أو في شكل قانوني أو في خضوع اجتماعي.
الجانب الثاني هو ربط السلطة بالمعرفة. نحن هنا إزاء زوجين من المفاهيم لا ينفك أحدهما عن الآخر، كما بيّنت تحليلات فوكو لكيفية تشكل السلطة في المجتمع الحديث. فعلوم الإنسان في مجالات النفس والاجتماع والاناسة، لم تنشأ في عقول صافية يحركها شغف المعرفة لا غير، وإنما هي نشأت وأصبحت ممكنة مع تشكل المجتمع الانضباطي والعصر الصناعي: إنتاج معرفة حول البشر، أفراداً وجماعات، لإخضاعهم وتطويعهم. وهكذا لكل سلطة معرفتها، كما لكل حقيقة سياستها.
لا شك أننا تجاوزنا، اليوم، «المجتمع الانضباطي». فمع الدخول في عصر العولمة والمعلومة والشبكة، ثمة شكل إنساني جديد يولد هو «الإنسان الرقمي» الذي لم يعد مجرد مادة لإنتاج معرفة وسلطة على العقول والأجساد. ولكنه أصبح هو نفسه ينتج معرفة وتلك هي حصيلة الانتقال من مجتمع العضلة إلى مجتمع المعرفة. أصبح بوسع كل فرد أن يقرأ المعلومات ويتصرف بها عبر الشاشات. ما يعني أن الفرد يملك اليوم هوامش لممارسة حريته لم يكن يملكها في العصور السابقة.
ولكن ذلك لا يعني أن الفرد يعيش اليوم في زمن الفردوس، حتى في المجتمعات التي يبلغ فيها منسوب حريات التعبير درجة عالية. فالمجتمع لا يكفّ عن إنتاج مظاهر التفاوت والتمييز أو الإقصاء والتلاعب. ولكن آلياتها وأشكالها تتغير من عصر إلى عصر. ولذا، فإن أشكال المقاومة تتغير مع تغير المعطيات. وإذا كان لكل سلطة معرفتها، فلكل سلطة أشكال مقاومتها.
إدارة الجموع
بعد سنوات من كتابته «المراقبة والعقاب»، عاد فوكو إلى معالجة مسألة السلطة، ولكن بتوسيع الحقل وتغيير الموضوع، فانتقل بذلك من السلطة على صعيدها المجهري بوصفها تطويع الأفراد، إلى السلطة على صعيدها المكبّر، بوصفها إدارة السكان في بلد ما، من حيث الولادة والتناسل أو من حيث الصحة والاستشفاء. هذا ما تجلى في مصطلحين ابتكرهما فوكو أو استثمرهما.
الأول هو «السياسة الحيوية» والثاني هو السلطة الحيوية». وإذا كان الأول يشير إلى حقل جديد، فإن الثاني يشير إلى ممارسة سياسية، أي إلى ما بوسع الكثرة والجموع، من السكان، أن تفعله في مقاومة آليات الضبط وقوالب الهيمنة. بهذا يتحول المفهوم إلى أداة مقاومة ضد منطق الدول، على ما استثمره الفيلسوف الإيطالي طوني نيغري.
لا شك أن أهمية فوكو لا تكمن في مواقفه النضالية، بل في كونه يدرس ويحلّل كي يشخّص الواقع بصوغ إشكالياته أو تركيب مفاهيمه. وهذا هو رهان الفيلسوف الذي هو مفكر محترف: تجديد العدة الفكرية، من غير ذلك يتحوّل إلى مفكر عقيم أو إلى مناضل فاشل، أو إلى داعية منافق يشتغل بخدمة مشروع إيديولوجي أو نظام سياسي، مُتهماً سواه بالتعصّب والتحيّز، فيما هو لا يحسن التستّر على تعصّبه وتحيّزه الفاضح.
بهذا المعنى فإن عملاً فكرياً يسهم في تفكيك آليات السلطة وأشكال الهيمنة والمصادرة، كما فعل فوكو في كتاب «المراقبة والعقاب» هو أكثر فاعلية، بكثير، في مجال التنوير والتحرير والتغيير، من الخطابات الأيديولوجية النضالية التي تحدثنا عن الحرية والعدالة والاشتراكية والسلم بصورة مجردة، لا تمت بصلة إلى مجريات الواقع الحي، وعلى ما كان مصائر الشعارات والقضايا التي تُرجمت بأضدادها لدى أصحاب المشاريع الشمولية والأنظمة الأحادية.
ولعل هذا ما حمل فوكو على القول بأننا نشهد تحولاً من المثقف الكوني الذي يتحدث عن قضايا عامة استهلكت وباتت اسماً على غير مسمى، نحو المثقف الخصوصي الذي ينشغل بقضايا حية وملموسة في هذا المجال او ذلك القطاع.
وإذا كان فوكو كرّس أحد أهم الأعمال لقضية السجون، فإن ذلك أسفر عن تركيب مفهوم جديد للسلطة تتغير معه أشكال المقاومة. ولكن ذلك لا يعني نهاية المثقف الكوني، سيما إذا كان فيلسوفاً، لأن الفيلسوف هو، بالتعريف عالمي وكوني، كونه يشتغل بالقضايا التي تهم كل الناس كالحقيقة والحرية والسلطة والهوية، كما هي حال فوكو بالذات. ما تغير هو علاقة المثقف بمهمته ودوره وأشكال تدخله في الشؤون العامة التي تحتاج إلى إعادة الصوغ والابتكار، وذلك هو التحدي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.