لازم التشريف الإنسان منذ ظهوره، سواء في علاقته بالطبيعة أو بوسطه الإجتماعي والثقافي والسياسي. كانت بدايات التشريف تعبيرا على علاقة الإنسان بالطبيعة وفهمه الخاص لقواها «الخارقة» من رعد وبرق وفواجع، وإحساسه بضعفه اتجاهها، ومن تم حاجته النفسية في الرغبة في العيش في سلام معها بتقديم القرابين والهدايا لها. يعني ظهور المقدس ومجموعة من القوى التي كان الإنسان يعبدها. كان التشريف يأتي من التحت إلى الفوق، وبالخصوص مع ظهور الأشكال الأولى للألوهية، التي ظلت ملتصقة بقوى الطبيعة. انتقلت العلاقة بالتشريف والوسام الذي يرمز له من الفوق إلى التحت عند اليونان، وتوسع نطاقه ليشمل ميادين أخرى، حتى وإن كانت لها علاقة بالمقدس بطريقة من الطرق، وبالخصوص في المنافسات الأولمبية القديمة. وبما أن مثل هذه المنافسات كانت تعوض إلى حد ما الحروب، فإن التشريف أصبح يتأسس على أساس حربي عسكري. بالتدريج، أصبح للتشريف في العصور الحديثة، أي مع بداية بناء جمهوريات على أنقاض الإقطاع والملكيات والإمارات إلخ، علاقة بالوطنية والتضحية من أجل الشعب أو الأمة.وعلى الرغم من أنه لم يفقد من معناه الحربي شيئا إلى غاية اليوم، فإنه توسع ليهم ميادين أخرى سواء أكانت علمية، رياضية، سياسية، ثقافية إلخ. وخير مثال على هذا النوع من التشريف، هناك جائزة نوبل العالمية. للتشريف أنثروبولوجيا علاقة وطيدة بالكرامة الإنسانية، لأنه يعتبر قيمة مضافة للكرامة الأنطولوجية، لكنه مرافق بخطر تضييعه، بما أنه كرامة مُكتسبة ممنوحة، قد تضيع إذا لم يف «المُشرَّف» بما ينتظره منه المرء من وراء تشريفه أو اتضح بأنه لا يستحقه إطلاقا، نظرا مثلا لسلوك أخلاقي سلبي له أو استغلاله لهذا التشريف في أغراض لا تليق أخلاقيا واجتماعيا، وبالخصوص للكسب الغير الشرعي أو لظُلم الآخرين إلخ. وبما أنه قيمة إضافية، فإن الإنسان كإنسان يتهافت عليها ويرغب فيها، بوعي أو بدون وعي، وما التسابق على الجوائز الرياضية أو الأدبية أو الشعرية إلا مثال على ذلك، وبالخصوص عندما توظف هذه التشريفات عن طريق الجوائز، توظيفا براغماتيا، وبالأخص كأدوات للماركتين المادي أو المعنوي. فغالبا ما يزدحم القارئ مثلا على مؤلف أو مؤلفات كاتب ما، نال جائزة أدبية أو علمية ما، لأن هذا التشريف يرمز إلى كفاءة هذا المؤلف في ميدانه. ما يهمنا في هذا النص هو الميكانيزمات الداخلية للتشريف في الميدان السياسي والوظيفة التي يقوم بها لبناء أو إعادة بناء رموزه وإحكام سيطرته بطريقة لينة، أي ما يمكن تسميته ب «السلطة الرمزية»، ما دام صاحب القرار لا يحكم دوما بالقوة والعنف، بل تسمح له أدوات ممارسة السلطة بإمكانيات عديدة أخرى. فالمنطومة الرمزية لأية سلطة، هي في العمق جوهر سلطتها، لأنها تذهب إلى أعمق مكونات ممارسة السلطة وقد تصبح حبالا تكبل بها المحكوم، وبالخصوص إذا كان للرمز معنى يوحي بخيرة الحاكم ورغبته في حكم تشاركي، أو على الأقل إيحاء السلطة الرمزية بذلك. ولنتذكر الغزو الثقافي الذي أصيبت به الدول العربية والمسلمة، والذي رافق الغزو العسكري والسياسي، ولا ننسى بأننا لم نتخلص إلى غاية كتابة هذه السطور من هذا الغزو، على الرغم من تخلصنا من الغزو العسكري، بل يتعقد أكثر فأكثر. إن التشريف السياسي القادم من الأعلى إلى الأسفل هو ميدالية ذات وجهين، واحد سلبي وآخر إيجابي، طبقا لنية المُشرِّف والمُشرَّف. هناك علاقة تأثير متبادلة لا مفر منها بين الإثنين، وبالخصوص إذا كانت العلاقة بينهما متشنجة. الجانب الإيجابي في التشريف هنا هو رمزية الصلح الذي يحمله، أو التعايش السلمي، ولا يحدث هذا إلا إذا توفرت الشروط الضرورية لذلك، كأن يشعر المانح للتشريف إما بملامح ضعف الممنوح، وبتشريفه له يستشرف إخضاعه التام لسلطانه، أو أن يعي بأن المشرَّف، وعلى الرغم من تشنج العلاقة سابقا معه، قد خدم بهذا التشنج سلطانه بطريقة ما، إما في القديم وإما في اللحظة الراهنة. هناك إذن نوع من الإنتصار الرمزي للطرفين، وهو انتصار مشترك، ليس فيه غالب ولا مغلوب، بل الرقي بالعلاقة إلى مستوى إنساني أسمى وأفضل. وهنا يُضمر التشريف نوعا من الإعتراف المتبادل بالآخر وبكرامته الأنطولوجية. ويعم هذا الإعتراف، حبا إنسانيا متبادلا، قوامه الإحترام وليس الخوف من بطش المانح. ويتم هذا بالخصوص إذا شُهد للممنوح بخصال إنسانية، ليس من صاحب السلطة نفسه، بل من عامة الشعب، كتفانيه في خدمة قضايا بعينها واستقامته الأخلاقية وقبوله من طرف أعدائه أو منافسيه أنفسهم. ويكون التوشيح هنا، اعترافا رمزيا إضافيا لصاحب السلطة بفئة مجتمعية وسياسية، قد يكون الهدف هو تدجينها، إذا فهمت هذه الفئة تشريف رمزها كمحاولة في هذا الإتجاه، أو مد اليد لها بُغية بناء سياسة مشتركة، هدفها الأول والأخير هو الوطن والمواطنين. إذن بما أن نية التوشيح وقبوله لا تكون واضحة من الطرفين، فإن الهدف القابع ورائها يكون حمالا لتأويلات عدة، منها الإيجابي ومنها السلبي، لكن الرمز القار الذي يبقى واردا هو مد اليد للجانب الآخر. في هذا النوع من التشريف، تكون هناك سلطة رمزية «الممنوح» وسلطة فعلية «المانح»، تحاول عملية التشريف صحرها في وحدة، قد تكون خطرا على الممنوح، لكنها لا تكون كذلك بالنسبة للمانح. وهو خطر يوزن بقوة معارضة أو قبول القاعدة التي تتخذ من الممنوح رمزا لها. ولا يعني هذا الأمر إلا هذه القاعدة دون غيرها، فإذا حشرت قاعدة أخرى أنفها في الأمر، إما إيجابيا أو سلبيا، فإنها في العمق تحشره فيما لا يعنيها. يعتبر هذا التوشيح إذن من أعقد التوشيحات السياسية وأصعبها على الإطلاق، سواء بالنسبة للمانح أو للمنوح، لأنه حمال لرمزية معقدة في جوهرها، تقود إلى تأويلات واستنتاجات افتراضية. في المقابل هناك التشريف الجماعي، يهم أشخاصا من فئات اجتماعية مختلفة وفي ميادين متعددة. الهدف الأسمى لمثل هذا التشريف هو حث المواطن في الدولة الحديثة على العمل من أجل خير الوطن في الميدان الذي يكون نشيطا فيه، ويعتبر المُوشَّح هنا رمزا وقدة للآخرين، وخاصة إذا كنا نعلم أن الدولة الحديثة مؤسسة على مبدأ التنافسية والرغبة في التألق والشهرة لأفرادها، كأسس سيكولوجية وتربوية شعبية. فالتشريف هنا هو تكريم، يحمل في طياته رمز الأمل في أن يكون أي مواطن موضوع هذا التشريف يوما ما. ومن هنا بالضبط تنطلق عملية التنافس لخدمة الوطن كقيمة مثالية مطلقة. يذوب سلطان المانح في سلطان الوطن، ويُصبح الهدف ليس هو إرضاء سلطة من السلط، بل تحقيق سبل الوصول إلى التشريف كرمز للإعتراف بخدمة الوطن. من طبيعة الحال، لا يعمينا هذا على رؤية الجانب البرغماتي لصاحب السلطة من وراء التجائه لهذه الطريقة في ممارسة سلطته وتثبيتها والمحافظة عليها، لكنها تبقى طريقة إيجابية على العموم، أحسن بكثير من اللجوء إلى القهر والشطط، بل قد تساهم في الإفراج عن فهم سلبي للسلطة من طرف المواطن، ليصبح فهما إيجابيا ديناميكيا، ينخرط فيه الجميع، بما أن السلطة المتقاسمة تشاركيا هي الضامن الوحيد للرفاهية المادية والمعنوية للحاكم والمحكوم. خلاصة القول، فإن التشريف، كاعتراف ومد اليد للآخر من أجل مشاريع مجتمعية وسياسية واقتصادية مشتركة، لصالح الوطن والمواطنين، وبغض النظر عن النيات التي تنبني عليها، هي تقليد إيجابي في مجمله، تفرضه فلسفة بناء الدولة العصرية في جميع بقاع المعمور. وخير تشريف لكل مواطن كريم هو تشريف نفسه بنفسه بالتزامه بخدمة وطنه في ميدان تخصصه، كيفما كان هذا الميدان، والسهر على المصلحة العامة قبل المصلحة الخاصة، وعدم الركون إلى النقد السلبي الهدام أو الهدم الفيزيقي العلني العنيف لبلد، نحن في حاجة إليه، وهو في غنى عنا، قد يلفضنا إذا كنا لا نستحقه. فحب الوطن لا يُمنح ولا يعبر على نفسه في التعصب الأعمى له أو ضده، بل بوعي المرء بأن: «الكثير من الناس البسطاء في أماكن صغيرة كثيرة المنشغلون بأشياء صغيرة كثيرة باستطاعتهم تغيير وجه المغرب نحو الأحسن».