تخترق الجسد المغربي ثلاث ثقافات سياسية متبانية و هي الثقافة الانقسامية و ثقافة الإجماع وثقافة المشاركة،هذه الثقافات يقابلها ثلاثة حقول يتكون منها النسق السياسي المغربي. لكن السيادة و الريادة و الهيمنة هي لثقافة الإجماع السائدة في حقل إمارة المؤمنين. إنه لا يمكن لأي نسق سياسي أن يحافظ على وجوده و استمراره إلا إذا ناسب نوع الثقافة السياسية السائدة في المجتمع. فالسلطة السياسية تمارس و ظائفها في بيئة و محيط و عليها أن تتفاعل مع البيئة و المحيط لكسب خضوعه و قبوله. فحيازة السلطة لعناصر القوة المادية لا يكفي لوجودها و استمرارها، بل لا بد من لازمة ثانية و هي القبول .و القبول يعني كسب ولاء العقول و النفوس. في المغرب تسود ثلاثة ثقافات: الأولى انقسامية و هي تتصور المجتمع كمجموعة وحدات أي مجموعة قبائل و هي تبلورت عبر تاريخ ممتد و طويل، هذه الثقافة ترى في السلطة مجرد أداة للتحكيم، و السلطان هو ذا منزلة تعلو على جميع الوحدات القبائل. غير أن هذا لا يعني الحياد السلبي للسلطان، بل هو حياد إيجابي يلزم أن تتوفر له سلطة التدخل الفعلي لإجبار الجميع على قبول قراراته فهو ذو قوة فعلية مصاحبة لدوره التحكيمي. و السلطان لا يستمد مشروعيته من أي من العصبيات أو القبائل بل يستمدها من ذاته، فهو من سلالة الشرفاء، فهو فوق القبائل ، و حكمه جاء لأن الظروف التاريخية هي التي استدعته للقيام بوظيفته التحكيمية. ثاني الثقافات السياسية، ثقافة الإجماع، و هي تنظر إلى المجتمع كوحدة " روحية" تتجسد في الجماعة المسلمة و السلطة مصدرها المقدس،و إنها و ديعة من الله أودعها للسلطان، ظل الله في أرضه، فلا دور للجماعة المسلمة في خلق السلطة، كما لا يمكن تقاسم هذه السلطة مع أي طرف هنا لا مجال للحديث عن مفهوم الإرادة الشعبية، فدور الأمة سلبي، دورها الخضوع و الطاعة. و من مشتقات هذه الثقافة عدم السماح بوجود وسطاء بين أمير المؤمنين و الرعية. كما أنه منها تشتق قاعدة أن " البيعة " ليست منشأة للسلطة بل هي معلنة لها فقط. كما أن البيعة لا تعني قيودا مفروضة على الخليفة بل هي مجرد " العهد على الطاعة ". هذه الثقافة تبرر الاحتكار المطلق للسلطة. ثالث الثقافات السياسية السائدة، ثقافة المشاركة و ظهرت بعد اصطدام المغرب بثقافة المستعمر، إذ وجد نفسه مجبرا على اقتباس مفاهيم الدولة الحديثة من دستوورانية و احزاب و برلمان و حكومة و أشكال المشاركة السياسية، هذه الثقافة تتصور الملك كمؤسسة و الفرد كمواطن، و الأحزاب السياسية كفاعل سياسي لا محيد عنه، و الانتخابات كدليل على المشاركة في القرار السياسي. هذه الثقافة تسود لدى الفئات المتعلمة، خصوصا في العالم الحضري. لكنها هي تعرف حركية اكثر و تغيرات متواصلة لكن السلطة السياسية تمارس عليها القسم الأكبر من جهود الحصار و الإفراغ من المضامين. فالسلطة السياسية لا تسمح بقيام دولة حديثة قولا و فعلا فذلك يتناقض مع طبيعتها. كيف ؟ ثقافة المشاركة تعني أن الفرد /المواطن هو مصدر السلطة، و الشعب هو مصدر السلطة ،و الحكام يستمدون شرعيتهم من إرادة الشعب المعبر عنها بواسطة صناديق الاقتراع، هذا يناقض ما تهدف إليه السلطة السياسية، و هي تهدف إلى إقصاء الجميع من أي دور لهم في خلق و إسناد السلطة. فمصدر السلطة عند إيديولوجية الدولة، مصدر خارجي لا أرضي، سماوي، متعالي على الجميع. ثقافة المشاركة تقتضي و جود دستور يحدد توزيع السلط و الفصل بينها ، و يحدد علاقة الحاكمين بالمحكومين بينما إيديولوجية الدولة ترى أن الملك سابق على الدستور.الدستور منحة من الملك و ليس وليد حركة مطلبية، و توزيع السلط و الفصل بينها أمر لا يسري على الملك بل يسري على ما هو دونه، فالملك هو منبع السلط و أصلها. ثقافة المشاركة تعني وجود تعددية سياسية توازي التعددية الحزبية، إذ تجد جميع التيارات الاجتماعية امتدادا لها على الميدان السياسي، و تكون تعددية الأحزاب تعود و تعكس ما هو موجود على أرض الواقع، لكن السلطة السياسية بالمغرب لا تسمح بذلك، فهناك أحزاب لها من المقاعد ما لا وجود له حقيقة على المجتمع، و في المجتمع تيارات واسعة لا تجد تمثيلا لها على الميدان السياسي .و السلطة السياسية هي من يتحكم في الخريطة السياسية عبر وسائل لا علاقة لها بأسس و مبادئ ثقافة المشاركة، و ظهور الأحزاب السياسية عموما لا علاقة له بالسياق الذي أفرز الظاهرة الحزبية الغريبة. الأحزاب السياسية في ثقافة المشاركة تعني أن الحزب تنظيم يشمل عموم الوطن، لكن الواقع هو أن هذه الهياكل تحولت بل أسست على أساس جهوي قبلي منذ أول يوم، و حتى هذا الانعكاس القبلي للأحزاب لم تدعه السلطة السياسية في حاله، بل تابعته باختلاف النزاعات الشخصية بين القادة و الزعماء، و تشجيع الانشقاقات حتى كادت الظاهرة الحزبية تتحول إلى سوق تجذب إليها كل راغب في الوصول إلى مراكز القرب من أهل القرار. بشكل عمدي يشل النظام السياسي جميع مظاهر المشاركة و تفرغ كل المؤسسات و ما ينبثق عن فكر المشاركة، و بالمقابل يعمل النظام على تغليب حقل إمارة المؤمنين و ما يقابله من ثقافة إجماع و خضوع توازي و حدة السلطة و مركزيتها و احتكارها من طرف الملك. و بدرجة أقل يدعم النظام الثقافة الانقسامية السائدة في العالم القروي. حقل إمارة المؤمنين له الأولوية لأنه يستجيب أكثر لأهداف النظام السياسي. إن السلطة السياسية و في جميع الأنظمة السياسية لا تجد أحسن من " الدين" كمصدر للشرعية، فسماوية أصل الشرعية و علو وسمو مصدرها عن الأرض، يحجب عن الجميع إمكانية المناقشة أو الاختيار. السلطة ذات الأصل الديني أقوى و أدوم و أكثر قبولا ورواجا. فالحاكم لا يستمد مشروعيته من الشعب، و لا يجوز له تفويتها للغير، فهي و ديعة لديه و لا دخل لأي احد في ذلك. إن إمارة المؤمنين تبرر للملك التدخل الشامل في أي وقت و حين، و التعالي على أي قيد مهما كان، و ما يسري على غيره لا يسري عليه. للمحيط الذي يعمل داخله الملك الخضوع و للملك مركز النظام حق الإخضاع التام.