يرويها ماء العينين مربيه ربو بومدين يخشى الحسن الثاني ويهدد مختار ولد دادة الحلقة 12 ما أصعب أن يعيش الإنسان فى وهم لأكثر من أربعين عاما، وفجأة يكتشف أن ما كان يؤمن به مجرد خزعبلات لا تخدم مصلحته ولا مصلحة بلاده، ويدرك، بعد رحيل العمر، أن الواقع شيء آخر حجبته الجهات المستفيدة عن الأنظار. هذا هو حال العديد من قيادات البوليساريو سواء التي التحقت بأرض الوطن أو تلك التي تتحين الفرصة للانفلات من مخالب المخابرات الجزائرية. بحرقة من تعرض للاختطاف، وهو شاب يافع، يتحدث ماء العينين مربيه ربو، المدير السابق لإذاعة البوليساريو، وعضو مؤسسة ماء العينين للتراث، عن سنوات طوال من التعذيب وسط المخيمات، وما تلاها من عمل قسري داخل المخيمات وعلى التراب الجزائري. جلسة شاي، فإغماءة، فشعور بقيد يدمي المعصمين... ثلاث محطات غير محددة زمنا، رغم تقاربها، ستكون بداية حياة جديدة وسط القيادة الأولى للبوليساريو. سجن كبير لا مجال فيه للتمرد رغم الشعور اليومي بحرقة الفراق. مغاربة تتلمذوا ودرسوا بجامعات بلدهم المغرب، تحولوا، بمؤامرة محبوكة من جزائر بومدين، إلى حاملين لسلاح المعسكر الشرقي، ولأفكار لا تحمل من الثورية والتقدمية سوى ما يليق بمقاسات أطماع الجارة الشرقية التي كبح جماحها الملك الراحل الحسن الثاني. وقائع وشهادات ينقلها لقراء بيان اليوم، في حلقات، الأستاذ ماء العينين مربيه ربو، الذي يحكيها، من مواقعه المتنوعة والمسترسلة زمنا، سواء كسجين، أو كمؤطر عسكري، أو كصحفي، ثم كمدير لإذاعة البوليساريو. مشاهد صادمة، بل مفجعة بكل معنى الكلمة، يرويها لنا ماء العينين، تنقلنا إلى ما وراء سياجات المخيمات وأسوار السجون، وإلى صالونات محمد عبد العزيز وزوجته خديجة حمدي، قبل أن تمضي بنا إلى العاصمة الجزائر التي ستكون، بعد محاولات الفرار، نهاية الكابوس الطويل، وبداية معانقة الوطن الأم المغرب. لم أكن وسط الحدث لأعرف متى دخل الجزائر بالضبط على الخط. هذا سر لا يعرف إلا الوالي مصطفى السيد وأعتقد على أنه دفن معه. أظن أن دخول الجزائر على الخط شل حركة البوليساريو الذي ولج فم الأسد بدخوله بتنظيماته مدينة في النافذة المطلة على المنطقة وعلى موريتانيا التي كانت على خط واحد مع البوليساريو. فجميع المسؤولين الموريتانيين استقبلوا ممثلي البوليساريو وعلى رأسهم الوالي السيد. في سنة 1974 زرت نواكشوط في إطار عطلتي الصيفية، والتقيت فيها، بمحض الصدفة، بالوالي مصطفى السيد الذي أعرفه جيدا بحكم أنه سبق لي أن التقيه في الرباط وفي طانطان. حينها لم أكن أعلم بأمر الجبهة. في أواخر سنة 1973 كان الشيخ سلطان ابن زايد آل نهيان في زيارة لموريتانيا. كان مع الوالي السيد وثائق مطبوعة تهم الجناح العسكري والجناح السياسي. اتجه نحوي وقال لي إن لديه موعدا مع سفير موريتانيا في الامارات. دعاني لمرافقته. بعد نهاية الزيارة التي جرى فيها الحديث عن ولد داداه وعن حفل على البحر وعن مأمورية ما. وفي الصب الباكر، وقبل أن يغادر غلى وجهة مجهولة، سلمني مجموعة من المناشير. تصفحتها واطلعت فيها على خط الجبهة وكيف تأسست في الساقية الحمراء وواد الذهب باعتبارها حركة تحررية تحمل اسم "الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء وواد الذهب"، تهدف "طرد الاستعمار الاسباني من الأرض العربية المسلمة". قال لي الوالي السيد بالحرف، كما لو كنت واحدا من أتباعه: " لو وجدت طريقة، سلم هذه المنشورات لزايد ابن سلطان أو إلى أحد من عائلته ليوصلها إليه". لم يضف شيئا ولا شرح لي شيئا يمكنني معرفة ما أنا بصدده. كان الرجل لا يثق في أحد على الإطلاق. في الصباح، ذهبت معه لتوديعه. قبل امتطاء الطائرة، ودعه إبراهيم حكيم و خمسة مسؤولين موريتانيين. تركت الأوراق المزمع تسليمها للسلطان آل نهيان في المنزل الذي كنت فيه. لم يكن لي أي سابق معرفة بالمسؤولين في موريتانيا. انتهت عطلتي هناك وعدت للداخلة بمعية خمسة 5 أشخاص. كنت رئيس نادي ثقافي رياضي أقامه الأسبان بالداخلة. وقد حدث وقتها أن غادر بعض شباب الداخلة إلى الزويرات. سارع آبائهم لإرجاعهم وهم يعلمون أن جبهة البوليساريو تشكلت، وأنها تحضى بدعم من ليبيا وموريتانيا وكان لها تحالف مع حركة الكادحين التي لها نغمة شيوعية ماوية .ظنوا أنني أنا من أرسلهم. وبما أنني قادم من الشمال كنت دائما محل شبهة. حتى الاسبانيين فرحوا لذلك وطردوني من التعليم الرسمي، وسحبت بطاقتي الوطنية، فعدت إلى التعليم الحر. كانت المرحلة عصيبة ميزها دخول الجزائر على الخط، واشتداد الصراع بين الحسن الثاني وبومدين الذي كان يأمل في توقيع المغرب نهائيا على اتفاق حول الحدود فيما كان الحسن الثاني يرد عليه بأن الأمر قد قضي، يبقى فقط فقط عرضه على البرلمان. كان بومدين يقول لولد داداه إن ثقته منعدمة في الحسن الثاني. ويبدو أن الشعور كان مماثلا من قبل الحسن الثاني. ظل هذا المشكل الحدودي بؤرة التوتر الرئيسية في العلاقات بين الطرفين بعد استقلال الجزائر سنة 1962 . ووصل التوتر مداه في 1963 عندما اندلعت الحرب المسلحة المأساوية التي خلفت جروحا غائرة في النفوس لما تندمل بعد. وقد سئل الرئيس الجزائري أوانها الزعيم احمد بن بلة بعد ثلاثين سنة على الحدث عن خلفيات هذه المواجهة الأليمة، فرد علي بالقول، انه لا يزال حائرا في تفسيرها، وان كان يميل الى القول ان أطرافا خارجية مختلفة هي التي دفعت البلدين الشقيقين الى هذا الفخ المرعب. وفي مطلع السبعينات بدا من الجلي ان العلاقات بين البلدين دخلت في طور التحسن النوعي، خصوصا بعد تسوية المشكل المغربي الموريتاني سنة 1969 الذي كان احد الملفات الصدامية العالقة بينهما وقد سمح هذا المناخ الجديد بإعادة دفع المشروع الاندماجي المغاربي الذي كانت قمة نواذيبو عام 1969 إحدى أهم محطاته. بيد أن الاختلاف الجوهري في الموقف من قضية الصحراء التي خرجت من أروقة الأممالمتحدة إلى دائرة التفاوض بين القوة الاستعمارية " اسبانيا" والبلدين اللذين يتنازعان السيطرة على الإقليم "موريتانيا والمغرب" أعاد حالة الاحتقان إلى العلاقة بين الجزائر وجارتها المغربية، قبل أن تصل هذه الحالة إلى مرحلة القطيعة وإلى حافة المواجهة المسلحة مجددا. ويبدو أن الرئيس بومدين بارك في البداية اتجاه المغرب وموريتانيا لتقاسم الصحراء قبل أن يتبنى مطالب جبهة البوليزاريو في الاستقلال. وقد تحول سريعا هذا التبني إلى احتضان كامل ودعم عسكري تام. وهكذا أصبحت الجزائر طرفا فاعلا في صراع إقليمي حاد كان أول ضحاياه نظام الرئيس الموريتاني الأسبق المختار ولد داداه، في الوقت الذي كادت تندلع المواجهة العسكرية المباشرة بين المغرب والجزائر. ويذهب الرئيس ولد داداه في مذكراته الى أن الموقف الجزائري من صراع الصحراء كان نمطا من الاحتجاج العنيف على تأجيل الحكومة المغربية المصادقة على اتفاقية الحدود التي اتفق عليها مبدئيا الملك الحسن الثاني والرئيس بومدين. فيما يلي مقتطف من كتاب موريتانيا على درب التحدي للمختار ولد داداه : فقد بادرني محاوري بالحديث والتوتر باد عليه، قائلا : ''... لم تعد علاقتنا الثانية نموذجية منذ عدة شهور بسبب أعمال الهدم التي يمارسها الحسن الثاني الساعي بكل الوسائل إلى إفسادها''. وتلا ذلك عرض مطول عن نزعة ''المغرب التوسعية في المنطقة''. ثم تابع كلامه، وقال لي : ''يبدو أن موريتانيا ستوقع اتفاقا في مدريد يتم بمقتضاه تقسيم الصحراء بينكم وبين المغرب، ومعنى ذلك أن موريتانيا قد غيرت موقفها تماما. بعد أن ناضلت من أجل حق تقرير مصير الشعب الصحراوي ترضى الآن باقتسامه مع المغرب كما يقتسم قطيع من الغنم والإبل. إن الجزائر لن تقبل بذلك أبدا''. فقاطعته لأذكره بأن الاتفاق الذي يناقش في مدريد ليس سوى تجسيد وترسيم للاتفاق الذي سبق أن باركه وتبناه مرتين في الرباط، أولاهما في يونيو 1972، وأخراهما في أكتوبر 1974 أمام جميع رؤساء الدول الأعضاء في الجامعة العربية. أما بخصوص مبدأ تقرير المصير، فقد أوضحت أننا ساندنا على الدوام هذا المبدأ، غير أن تطبيقه لا ينبغي أن يشمل غير الصحراويين الأصليين، ونحن نعلم الآن مدى صعوبة استفتاء لا يشارك فيه غير سكان الإقليم الأصليين. ومن جهة أخرى، فإن السكان الأصليين لهذا الإقليم قد أعلنوا أكثر من مرة التزامهم بالنضال من أجل الاندماج بالمغرب (بالنسبة لسكان الشمال) وفي الجمهورية الإسلامية الموريتانية (بالنسبة لسكان المنطقة الجنوبية لهذا الإقليم). وقد أنشأت قبل حين الغالبية العظمى من هؤلاء الأخيرين ''جبهة تحرير الصحراء وضمها إلى موريتانيا''، وتمثل قيادتها كل المجموعات الصحراوية المعنية. ثم إن الاتفاق الثلاثي الذي يتم التفاوض بشأنه في مدريد ينبغي أن يتضمن شكلا مناسبا من أشكال استشارة السكان وأخذ رأيهم في نهاية الأمر''. واستأنف مضيفي الكلام، وقال : ''أطلب منك أن تسحب بلادك من مفاوضات مدريد وألا توقع بالتالي تلك الاتفاقية التي يجري إعدادها، وإلا فإن العواقب ستكون وخيمة بالنسبة لبلادك وبالنسبة لك شخصيا. وفضلا عن ذلك، فإنك إذا خيرت بين المغرب الإقطاعي التوسعي وبين الجزائر الثورية، فإنك لا تستطيع أن تختار الأول فقاطعته من جديد لأقول له إن هذه العبارات التهديدية في غير محلها وأنها لا تحرك مني ساكنا. فاعتذر وأكد لي أنه لا يريد تهديدي، وإنما كلمني بصراحة ليلفت نظري إلى خطورة الوضع. ثم تابعت قائلا : ''أما فيما يتعلق بالاختيار بين البلدين المذكورين، فإن الأمر غير مطروح بالنسبة للجمهورية الإسلامية الموريتانية بالمفهوم الذي تقصده. فما يحدد علاقة موريتانيا بالدول الأخرى هو بالدرجة الأولى مصالحها الوطنية ومبادئها الخاصة بها. وإن مصالحنا في هذه المسألة تلتقي بالمصالح المغربية وليس بالمصالح الجزائرية. ولذلك فنحن ننسق عملنا الديبلوماسي مع العمل الديبلوماسي المغربي، ولكننا مع ذلك لا نختار المغرب ضد الجزائر، بل إن البلدين يبقيان بالنسبة لنا بلدين جارين أخوين وصديقين نرغب في آن واحد في الحفاظ على أفضل العلاقات معهما''. وقد بادر بالقول : ''احذر يا مختار ! فموريتانيا بلد هش لديه مشاكل داخلية خطيرة، وحدود تمتد آلاف الكيلومترات لا يمكنها أن تحميها بنفسها في حالة حدوث نزاع مسلح ومصلحتها إذا في أن تبقى حيادية وتتابع لعب دورها الديبلوماسي البالغ الأهمية بين الجنوب والشمال، ذلك الدور الذي لا يتناسب بالمرة مع وزنها الخاص. وإذا كانت ما تزال تخشى بحق من النزعة التوسعية المغربية، فبوسعها أن تعول على الجزائر لمساعدتها في الدفاع عن نفسها. ومهما يكن من أمر، فإنه لا ينبغي لها أن تسمح للمغرب بجرها إلى مغامرة قد تكون ضحيتها الأولى مادامت الحلقة الأضعف في المنطقة. وعلى أي حال، فإن الجزائر لن تقبل أبدا تحقق ذلك المخطط الميكيافيلي الذي يعد له الحسن الثاني بشبه تواطؤ مع اسبانيا الاستعمارية الفاشية. ولن تفرط أبدا في مصير الشعب الصحراوي الذي يكافح من أجل استقلاله. وإذا اقتضى الحال، فستضع تحت تصرفه كل وسائلها المادية والبشرية، وإذا لم يكن ذلك كافيا فإنها ستلجأ إلى التضامن الثوري العالمي من أجل جمع 50 أو 60 بل و 100 ألف مقاتل من أجل الحرية لمنع المغرب من سحق الشعب الصحراوي دون رحمة واستعمار وطنه''. وأجبته بما أجبت به ملك المغرب ذات يوم حين قلت : ''إن موريتانيا واعية بضعفها المادي، غير أن هذا الضعف لا يسبب لها أي عقدة نفسية ولا يثبط من عزما في الدفاع عن شرفها وكرامتها ومصالحها حتى آخر موريتاني. ومعنى ذلك أن الجمهورية الاسلامية الموريتانية ستوقع على اتفاقية مدريد''. واستعاد محاوري السيطرة على نفسه، وأكد لي مجددا أنه لا يريد تخويفي ولكنه يتكلم فقط بصراحة ليبين لي ما فيه مصلحتي الخاصة ومصلحة مستقبل العلاقات الجزائرية والموريتانية. وفي الغد رافقني إلى المطار وهو أكثر هدوء، وما آل إليه الأمر بعد ذلك معروف... كيف أسمح لنفسي بالوقوع في فخ المرحوم بومدين مع أن الرهان كان كبيرا؟ لقد طرح علي هذا السؤال أكثر من مرة مع مرور الوقت. وللأمانة التاريخية أقول إن ثقتي بعلاقاتي مع السيد بومدين وبصدق مشاعره اتجاه القضايا التي نعالجها كانت كبيرة. وكان ذلك مصدر خطأ في تقييمي لاحقا لموقف الرئيس الجزائري. وكنت أعرف أن بوسعه كأي إنسان أن يغير موقفه تبعا للظروف والمصالح الآنية، لكنني كنت أجله عن انتهاج ذلك المسلك. وكنت أعرف بالطبع الخلاف المتأصل بين الجزائر والمغرب الذي يجد جذوره في التاريخ والجغرافيا ويشكل الصراع على زعامة المغرب العربي مصدره الأساس. فهل فرضت تلك الصداقة على مواطني وعلى معاوني بوجه خاص؟ لا أعتقد ذلك حتى الآن. فلم ألق قط أي معارضة علنية من أعواني. فهم إما محايدون، وإما موافقون على السياسة مع الجزائر. وفضلا عن ذلك كان السفير والوزير والوالي والمسؤول السامي المعني، مهما كان مستوى مسؤوليته، يطلع على ما يجري بل ويستشار. ثم إنني لم أتلقى من سفيرنا بالجزائر أي عنصر يدعوني إلى أخذ الحيطة.