الإرهاب الفكري.. ظاهرة موغلة في القدم ومعروفة لدى مختلف شعوب العالم مهدي عامل.. لست مهزوما ما دمت تقاوم... ظاهرة الإرهاب الفكري موغلة في القدم ومعروفة لدى مختلف شعوب العالم. وإذا كانت العديد من الشعوب قد قطعت مع هذه الظاهرة المتوحشة لإيمانها بضرورة التعايش بين أطياف المجتمع الواحد، مهما اختلفوا فكريا وإيديولوجيا وسياسيا، بترسيخها لقيم الديمقراطية التي وحدها تتيح إمكانية التعايش هذه، فإن مجتمعاتنا العربية ما زالت ترزح تحت نير هذه الظاهرة التي باتت تستفحل ويتصاعد منسوب ضحاياها، إذ مازال هناك دعاة امتلاك الحقيقة في الفكر وفي السياسة وفي الدين، وهؤلاء بالضبط هم من ينظرون إلى خصومهم المختلفين على أنهم أعداء، ويوجبون، بالتالي، مضايقتهم أو تصفيتهم الجسدية. وفي تاريخنا الحديث والمعاصر ما ينم عن أن هذه الظاهرة ما تزال في استفحال، وأن دعاة امتلاك الحقيقة ومحتكريها في تصاعد حتى بات الاختلاف عن أو مع هؤلاء الدعاة أمرا محرما وتبعاته خطيرة تصل إلى حدود التكفير الذي تستتبعه إقامة حد القتل. إن قوائم الذين قضوا اغتيالا بسبب أفكارهم كثيرة، وقوائم المحكوم عليهم بالقتل مع وقف التنفيذ كثيرة هي الأخرى. وحسب وقائع الاغتيال التي كنا شهودا عليها في وقتنا الحاضر، أو تلك التي أرخت لها كتب التاريخ، تظل الفئة المستهدفة من عمليات التصفية الجسدية هي تلك التي آثرت أن تجدد في طرق التفكير وأعملت العقل من أجل فهم جديد لعناصر هويتنا بما في ذلك عنصر الدين الذي حرروه من إسقاطات المقاربات المتحجرة، وفتحوا بذلك بابا جديدا للاجتهاد، يتيح لنا استيعاب ماضينا وحاضرنا بشكل أفضل، كما يتيح لنا استشراف مستقبلنا... نأتي في هذه السلسة الرمضانية على استذكار بعض من هؤلاء ممن أصابهم سلاح الجهل في مقتل. نستذكرهم اليوم، رفقة قرائنا الكرام، اعترافا لهم بانتصارهم لقيمة العقل كضرورة لا محيد عنها لبناء المجتمعات الحديثة.. من الاغتيال إلى الانتصار لحرية الكلمة والبحث العلمي ولد الدكتور حسن عبد الله حمدان، المعروف باسم مهدي عامل، في بيروت عام 1936، ابن بلدة "حاروف" الجنوبية قضاء النبطية. تلقى علومه في مدرسة المقاصد في بيروت وأنهى فيها المرحلة الثانوية. نال شهادة الليسانس والدكتوراه في الفلسفة من جامعة ليون، فرنسا. درّس مادة الفلسفة بدار المعلمين بقسنطينة الجزائر، ثم في ثانوية صيدا الرسمية للبنات لبنان. انتقل بعدها إلى الجامعة اللبنانية معهد العلوم الاجتماعية كأستاذ متفرغ في مواد الفلسفة والسياسة والمنهجيات.كان عضوا "بارزا" في اتحاد الكتّاب اللبنانيين والمجلس الثقافي للبنان الجنوبي، ورابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية. انتسب إلى الحزب الشيوعي اللبناني عام 1960، وانتخب عضوا في لجنته المركزية في المؤتمر الخامس عام 1987. في الثامن عشر من ماي عام 1987 اغتيل في أحد شوارع بيروت، وهو في طريقه إلى جامعته / الجامعة اللبنانية معهد العلوم الاجتماعية الفرع الأول، حيث كان يدرس فيها مواد الفلسفة والسياسة والمنهجيات. وعلى إثر اغتيال مهدي عامل أعلن يوم التاسع عشر من ماي من كل عام "يوم الانتصار لحرية الكلمة والبحث العلمي". عامل... صورة نموذجية لتماهي الثائر بالنظرية صدر الدكتور فيصل درّاج ناقد ومفكر فلسطيني مقالا مطولا عن مهدي عامل: تحت عنوان "المدينة الفاضلة وأشواق المثقف الرسولي"، نشر على الموقع الإلكتروني "عرب 48"، وهو مقال يقربنا من سيرة هذا المفكر في حياته العملية والعلمية كمناضل ثوري ينبذ الوهم ويستقوي بالحقيقة، نقتطف بعض الأجزاء من هذه السيرة كما أتى على ذكرها المقال:" قدم مهدي عامل، الذي اغتيل في ماي 1987، صورة نموذجية عن إيمانية ثورية، اطمأنت إلى قوة "النظرية"، وإلى قدرة المؤمن بها على إقامة الحد الفاصل بين الصحيح والخطأ. اعتقد الثائر الراحل إنه يمشي مع نظرية تمشي مع "التاريخ" وتشرح خطواته بلغة واضحة. ولعل تماهي الثائر بالنظرية، كما تماهي الطرفين بالتاريخ، هو الذي جعله يؤثث مدينة جميلة لم يَرها أبداً. أخلص لذاته وهو يخلص ل "الكتب" وأخلص، في الحالين، لنسق من الحالمين لا ينتهي. رأى في الفلسفة والسياسة وحدة لا تقبل الانقسام، يصوغ كل طرف غيره ويعلن عن جديد غير مسبوق. فاشتقت الفلسفةُ السياسةَ من "صراع الطبقات"، الذي يضع البروليتاريا في مواجهة البرجوازية، ونقدت السياسةُ الفلسفةَ وطالبت الفلاسفة بتحويل العالم لا بتأويله. صرّحت هذه العلاقة المتبادلة بجديد الماركسية، القائل بوحدة المادية التاريخية والطبقة العاملة. وسواء غمر الإيمان النظرية أم ترك أطرافها ظاهرة، فقد استقر فيه موروث تنويري عنوانه: الإرادة العقلانية، التي تجلّت في اتجاهين: تشييد تصور عقلاني للعالم، يجعل الأخير واضحًاً شفافًاً قابلاً للتحويل والترويض، وإعادة تقويم "التصورات اللاعقلانية" من وجهة نظر النظرية المثال. بدأ مهدي، وهو ينبذ الوهم ويستقوي بالحقيقة، مهندسًا فيلسوفًا، يقترح مدينة فاضلة ويشرح سبل بنائها، ويدعو إلى اقتلاع مدينة الاستغلال والطائفية والتبعية،... عاش توتر العلاقة بين العلم والإيمان، وجعل من أسلوبه مرآة لحالم كبير، تحتاجه النظرية ولا يحتاجها في شيء كثير. يعطي كتابه الأخير: "نقد الفكر اليومي"، الذي لم يتح له الموت إكماله، صورة عن إيمانية مطلقة، يفصح عنها السياق قبل الأسلوب، ذلك أنه أكد انتصار الفكر الماركسي حين كان يقترب من هزيمة كاسحة. ساوت الإيمانية بين النظرية والانتصار، وساوى العقل الانتصاري بين النظرية والمنتمي إليها، كما لو كان الحق قد تشخصن في النظرية والمناضل معًاً. قال مهدي بماركسية يضمن انتصارها سببان: علميّتها التي تفسر تكوّن الظواهر الاجتماعية وتحولاتها، اعتمادا على مبدأ التميّز، والكونية التي يشتق من ماركسية كونية ماركسيات توائم مجتمعات متفاوتة التطور، فهو يقول: "حين يقوم الفكر بتحليل ملموس للواقع الملموس، يسير إلى ملاقاة هذا الواقع في مخاطرة هي ضرورية لإنتاج المعرفة، لا يجرؤ عليها سوى فكر مادي عرف كيف يصغي إلى الواقع ويحتكم إلى منطقه الموضوعي". جمع مهدي، في كتابه الأخير، بين استبداد اليقين وعبء النزعة الرسولية، إن لم يكن اليقين قوام النزعة وتتويجاً لها، فلا رسالة بلا كتاب صادق يبشّر بالرسالة. يقول: "بين العلم والجهل، لا يقف الفكر حائرًا، ينتصر الأول، إلا إذا هيمن فيه الجهل، فهو، إذاك، ليس بالفكر، بل عدمه". اشتق مهدي الثوريين من فكرة الثورة، فآمن بحزب حقيقي يقتفي آثار الحقيقة، واشتق الواقع من نظرية ثورية فسّرت الفرق بين شرق بيروت وغربها ب "التطور اللامتكافئ"، واشتق ما أراد من روح جمعت بين الصدق والشجاعة والبراءة. اعتقد مهدي أن الحزب هو الحقيقة، وأن جميع الحزبيين، في القمة والقاعدة، وجوه حقيقية للحزب السائر إلى الانتصار. واعتقد أنّ هؤلاء جميعًاً تجسيد للنظرية المثال، سواء صرحوا بما يفعلون أو تركوا أفكارهم "في حالة تطبيقية"، يعطيها الفيلسوف الحزبي صياغة نظرية مطابقة، كما فعل في كتابه "النظرية في الممارسة السياسية". أعمال هادفة في التحليل والمنهجية - أصدر مهدي عامل عام 1972 كتابه الأول "مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الاشتراكي في حركة التحرر الوطني". وقسّمه إلى قسمين: القسم الأول "في التناقض" والقسم الثاني "في نمط الإنتاج الكولونيالي" الذي صدر عام 1976. وتكمن أهمية هذا الكتاب في أن مهدي بحث فيه في مجال جديد في الفكر الماركسي، وهناك جزء ثالث من الكتاب بعنوان "في تمرحل التاريخ" والذي استشهد قبل أن يكمله. - في عام 1973، صدر كتابه "أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية"، وفيه انتقد أعمال الندوة الفكرية التي عقدت في الكويت تحت عنوان أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي. - مع اندلاع الحرب الأهلية في لبنان في عام 1979، صدر كتابه "النظرية في الممارسة السياسية، بحث في أسباب الحرب الأهلية في لبنان". - في عام 1980، صدر كتابه "مدخل إلى نقض الفكر الطائفي - القضية الفلسطينية في إيديولوجية البرجوازية اللبنانية"، عرض فيه المفاهيم الأساسية التي تكوّن إيديولوجية البرجوازية اللبنانية، وانتقدها من موقع نقيض لها، هو موقع الطبقة العاملة، مظهرًا بنقده البعد السياسي الذي تغيّبه إيديولوجية البرجوازية في نظرتها إلى القضية الفلسطينية. - في عام 1984 صدر ديوان شعره الثاني "فضاء النون" تحت اسم هلال بن زيتون. - في عام 1985 صدر كتابه "في علمية الفكر الخلدوني" وهو عبارة عن تمرين، بحسب قوله، لقراءة نص تراثي بفكر مادي علمي. وفي العام نفسه صدر له أيضا كتاب بعنوان "هل القلب للشرق والعقل للغرب- ماركس في استشراق ادوارد سعيد" الوارد في كتاب "الاستشراق" في "ماركس وعلاقته بالفكر الاستشراقي وبالشرق الأسيوي". - في عام 1986 صدر كتابه "في الدولة الطائفية" الذي حلل فيه طبيعة النظام السياسي - الطائفي القائم في لبنان، بهدف كشف الصراع الطبقي الذي تحجبه الإيديولوجية الطائفية بمظهر طائفي، لتؤيد الانتماء للطائفة لا للوطن، لتأييد النظام السياسي - الطائفي وإعادة إنتاجه. - بعد استشهاد مهدي عامل جُمعت مقالاته وكتاباته التربوية والتعليمية التي كتبها من 1968 إلى1973 ونُشرت في عام 1991 في كتاب بعنوان "في قضايا التربية والسياسة التعليمية"، حلل فيها الآلية السياسية التعليمية للدولة، في لبنان، التي تعمل من خلالها على ضرب التعليم الرسمي وتعميق الانتماء الطائفي لإعادة إنتاج النظام السياسي – الطبقي - الطائفي.