متاهات الجسد العالقة بين الواقعية والتجريدية ينقسم الفن عند الباحث والناقد الأمريكي سيدني فنكلشتين إلى تجريدي وواقعي، وإن ينتصر في كتابه «الواقعية في الفن» (1954) للمدرسة الواقعية، معتبرا أن الموضوع الحقيقي للفن هو الإنسان، وأن العمل الفني هو ذات وموضوع على حد سواء، ووظيفة الفن الأولية كانت من أجل التسيّد على الطبيعة. قد نتفق كلّ الاتفاق مع الشق الثاني من نظرية الباحث فنكلشتين، كون أن الفن يظلّ الغرض منه دائما الانتصار على الطبيع، وتقويدها، وأن الموضوع الأساسي داخل العمل الفني هو الذات/ الإنسان. غير أننا لا نتفق وإياه في التقسيم الذي وضعه للفن. فمع هذا الكم التقني والمعرفي والتجريبي، والتطور الذي بلغه هذا الكائن، أصبحنا – فعليا- أمام تجارب فنية لا نستطيع تحديد مدرسة عينية بذاتها تنتمي إليها، وتندرج ضمنها هذه التجارب، من حيث أنها تنطلق من أساليب معروفة لتصل إلى مستوى تجريبي مستقل بذاته، أو هي أعمال تمزج بين هذه المدرسة وتلك، داخل العمل الواحد التجريدي مثلا والواقعي. هنا نستحضر أعمال الفنان التشكيلي المغربي مصطفى العرش، بالإضافة لروحه المرحة، وثقافته العالية في الفن، فأعماله التشكيلية يصعب إدراجها ضمن خانة تاريخية أو مدرسة بعينها. أعمال تمتزج فيها الصباغة بالرسم (بالصباغة، يعتمد فيها هذا الفنان على ريشة الصباغة في استحضار الجسد المرسوم فوق اللون، في تماوجٍ باهر بين لون الخلفية للوحة (في شقها التجريدي)، والجسد الحاضر عبر لمسة يتداخل فيها (الواقعي بالتجريدي). الجسد السفلي: الحامل والمحمول أحسب أنه من الضروري قبل التمادي في بحثنا، الذي نحن في صددِ تناوله عبر أعمال الفنان التشكيلي مصطفى العرش نموذجا، أن نقف عند مفهوم الجسد، وقفا سريعا. فلفظة جسد corps تعود إلى المصطلح اللاتيني corpus الذي يرتبط معناه في الوقت نفسه بمعنى الكلمة اليونانية sôma، كما أن الجسد باعتباره موضوعا محسوسا، يأتي في مقابل الروح esprit أو النفس. والجسد، يعني كذلك الجزء المادي للكائن المتحرّك الذي يقابل الروح كجزء ثان لهذه الكائنات. كما نقرأ في كتاب «الأيقونة والجسد» للناقد المغربي إبراهيم الحيسن على لسان الكاتب حميد اتباتو: و"يكف الجسد عن أن يكون بهذا المعنى الحرفي مع إنتاجه واستهلاكه وتَمَرْحُلِه في سياق ثقافي واجتماعي معين، حيث تنسج حوله خطابات، وبرامج، وتتشابك علاقاته، ويصبح مستهلكا ومنتجا لمنظومة رمزية، ومؤطراً في نحو وقواعد هي قواعد المؤسسة المجتمعية التي تلومه بحدود، ومحرّمات، وتطوّعه، بالترغيب والترهيب، بقبول مرتكزات البرنامج السلوكي العام، والترويح لها في مسارات وجوده. وللجسد قيمة كبرى في مجالات الوجود والاجتماع والإبداع، ويعد فضاء لتقاطع آثار ثقافية عديدة". أما عن الجسد عند الفنان العرش، أستاذ الفن وتاريخه، فإنه كثيمة دائمة الحضور داخل المنجز لا تحيد عنه. لا يندرج داخل مدرسة بعينها، ولا يدعي هو ذلك، بل ينصرف إلى نوع من الاشتغال على الكائن الذي يجعله مركز عمله الفني والتوظيفي. الجسد جزء من اللوحة، متناغم مع اللون في مرح وعمق اشتغال. يترنح بين الملء والفراغ، في شفافية ناصعة وتهذيب راق للون. اشتغل في آخر أعماله على الجزء السفلي من الجسد (السيقان)، ليس غاية في البحث عن إيحاءات جنسية، بل هو اشتغال على تلك النقطة الركيزة في حمل ثقل جزء الإنسان العلوي المفكر. هذا الاشتغال الذي قابله بحث وتطلع على آخر مستجدات الفن، من حيث الاشتغال والتأليف والنقد، بحث منقطع النظير عن غالبية الفنانين التشكيليين، مما يجعل من هذا الفنان حداثيا بامتياز. فعمل مصطفى العرش، تتعدد حوله الرؤى والقراءات، مما يصعب على الناقد (التاريخاني) أن يصنفه ضمن جنس تشكيلي معين. فهو يوظف اللمسة التجريدية كخلفية للموضوع، ويجمع بينها والواقعية (التعبيرية) كأداة للرسم بالصباغة لديه. مما يجعل من المنجز عنده وليد صيرورة من البحث والاكتشاف داخل نسق حداثي أداته الجسد والإنسان. يقول سيدني فنكلشتين «ولما كان موضوع الفن هو الإنسان، فإن هذا هو السبب الذي يفسر كيف أن الفن يحرك مشاعر مشاهديه تحريكا عميقا. فهو يثير فيهم مشاعر القربى والحياة التي يشترك فيها الجميع. إن الفن يجسد الحياة الانفعالية المشتركة بالنسبة للبشر أجمعين". بعيدا شيئا ما عن هذه الرؤية «الاشتراكية» للفن، كما تبنتها الحركة الاشتراكية في تنظيرها الفني الاجتماعي. فإن العمل الفني كما يراه الفيلسوف الألماني هيجل، قيمته في ذاته وليس الموضوع الخارجي عنه، أي أن القيمة الفنية للعمل التشكيلي تنطوي في مدى امتلاكه للمسة الخاصة والمتفردة عن صور الطبيعة. بين الأول والثاني، نجد أعمال مصطفى العرش، في تناسقية مذهلة، من حيث الذهاب والإياب من الخلفية إلى الموضوع. تغيب فيها تلك الإشارة للمحة، الذي هو جزء أساسي داخل الاشتغال لديه، فالفكرة النهائية التي تتمتع بها اللوحة عنده، ما هي إلا تركيب أخير فوق عدّة تركيبات صباغية، كأنه يلعب باللون، يمرغه فوق القماش، أو الورق، أو الخشب، كلّ حسبما يبتغيه المنجز، الذي يلعب فيه الفراغ دورا مهما في إمتاعه بتلك اللمسة الحداثية، من حيث الاشتغال الفني. لا يمكن أبدا الحديث عن أعمال العرش دونما الوقوف، أو على الأقل الإشارة لتوظيف الجسد داخل المنجز لديه. أصبح الجسد – كما كان في عصر النهضة (على وجه الخصوص)- يحتل موقعاً مهماً ضمن انشغالات المبدعين والنقاد والمحللين في شتى مجالات الخلق والإبداع: مسرح، رقص، تشكيل.. الأمر الذي حوّله إلى ثيمة رئيسة لازمت جلّ إنتاجاتهم الفكرية والبصرية. وتتعدد المدارس الفنية التي اتخذت من الجسد منطلق اشتغالها الفني، منذ العهد الإغريقي، إلى المدارس الحداثية (مدرسة فلورنسا، المدرسة الفلمنكية، عهد النهضة، المدرسة الكلاسيكية، البندقية، المدرسة الفرنسية... إلى السريالية والتكعيبية..)، غير أن كلّ مدرسة كانت لها رؤيتها الخاصة في الرسم، إلا أنها اشتركت في جعل ملامح الجسد واضحة وبارزة أحيانا. على عكس هذا فإنّ المدرسة الإسلامية اتخذت من التجريدي شكلا لرسم الجسد والتعبير عنه، عبر اتخاذ أشكال هندسية، تقترب من الأشكال الطبيعية. الاشتغال على الجسد داخل اللوحة عند مصطفى العرش، ليس «واقعيا» بامتياز ولا «تجريديا» بالمطلق، فهو عنده لوحة منفصلة تارة عن الخلفية، وتارة ينساب داخلها، فيكون له أن يصير وإياها لوحة واحدة. بين الانفصال والانسياب، يشتغل هذا الفنان، مما يجعل من كلّ عمل لديه، منفصلا بذاته، لا تحكمه باقي اللوحات. عرض خاص ومنفرد. إن غاية الفن وموضوعه إذن هو الإنسان، إلا أن الرؤية الجمالية، تختلف من عصر إلى آخر، ومن فلسفة إلى أخرى. في عصر الفوتوغرافيا صار الجسد أكثر واقعية، داخل اللوحة، لهذا كان لزاما الاتجاه نحو أشكال إبداعية معاصرة، تحتفي بهذا الإنسان وجسده، وتستقل بذاتها. وهذه هي وظيفة الفنان، من حيث البحث عن أشكال اشتغال أكثر حداثة واستقلالا. البحث هو أساس العمل عند مصطفى العرش، الذي ينوّع أدوات اشتغاله وأسناده، كل مرة مع كل لوحة جديدة.