إن المؤتمر الوطني الحادي عشر للاتحاد المغربي للشغل الذي يلتئم في نهاية هذا الأسبوع، ينعقد في ظروف دولية وإقليمية ووطنية مستجدة ستلقي لا محالة بظلالها على أشغال المؤتمر الذي سيتتبعه مختلف الملاحظين باهتمام كبير بالنظر للموقع المتميز للمركزية النقابية الأولى وللمكانة التي تحظى بها في المغرب. وبدون شك فإن التحاليل والمقررات التي ستنبثق عن هذا المؤتمر ستكون لها أهمية قصوى فيما يتعلق بالأوضاع ببلادنا، وخاصة بالتطورات التي تعرفها الحركة النقابية المغربية والدور الذي ستضطلع به هذه الأخيرة في مختلف القضايا الاقتصادية والاجتماعية وفي المسارات والتطورات التي يعرفها المغرب، وخصوصا المرتبطة منها بالحوار الاجتماعي وبأوضاع الشغيلة وعموم الفئات الشعبية. كما أن هذا المؤتمر يأتي في وقت تعرف فيه الحركة النقابية المغربية تطورا غير مسبوق، والمتمثل في انطلاق المسلسل الوحدوي بين ثلاث مركزيات نقابية عرفت تمزقات وتناقضات حادة في الماضي، هذا الحدث الذي وإن لم ينل الاهتمام الكافي من طرف مختلف الفاعلين، فإنه يندرج في أفق استراتيجي واعد قد تكون له أبعاد تاريخية تؤثر على تطور المسار العام بالبلاد. ورغم هذا المعطى الإيجابي والواعد، فإن الواقع النقابي المغربي تبقى إحدى سماته الأساسية التشرذم التنظيمي وتوالد النقابات "التابعة"، إلى جانب التفريخ المتزايد للكيانات النقابية المجهرية التي لا لون ولا مبرر لها. إن تناسل التنظيمات النقابية ببلادنا جاء، من جهة، كنتيجة للمنحى الهيمني لعدد من القوى السياسية وللصراعات التي عرفتها والانقسامات الناتجة عنها، ومن جهة أخرى كنتيجة لحرص جل الأحزاب السياسية على أن تتوفر على نقابات ذيلية حتى وإن كانت عبارة عن "دكاكين" نقابية لا تأثير لها في كثير من الأحيان. وفي هذا الصدد، فمن المفارقات العجيبة في المغرب أنه أمام تشردم الحقل النقابي من جانب معسكر الشغيلة والطبقة العاملة، فإن أرباب العمل من جانبهم موحدون في اتحاد واحد ووحيد يجمعهم كلهم ويدافع بنجاعة أكثر عن مصالحهم. إن هذا الوضع غير السليم لا يسائل فقط الحركة النقابية لوحدها، بل يسائل كل القوى الوطنية والديمقراطية والتقدمية المغربية المطالبة اليوم بالإسهام الفعلي في إنجاح دينامية تجاوز هذا الوضع نحو أفق وحدة الحركة النقابية واستقلال قرارها. وعلى مستوى الشغيلة المغربية، فإن هذا الوضع غير السليم جعل فئات واسعة منها أصبحت تطمح أكثر فأكثر وتتطلع إلى وحدة نقابية عمالية وإلى استقلال الحركة النقابية في القرار والتنظيم. كل هذا يضع من جديد ملحاحية التأكيد على المبادئ الثلاث التي لا يمكن لأي عمل نقابي أن يستوي في رأينا بدون احترامها وهي: * أولا، الوحدة النقابية للشغيلة التي لا يستقيم أي نضال مطلبي بدونها، * ثانيا، استقلالية العمل النقابي، وذلك سواء عن الأحزاب السياسية أوعن الدولة أوعن أرباب العمل ومختلف مراكز القرار في البلاد؛ * ثالثا، الديمقراطية والتعددية داخل المنظمة النقابية الضامنة لعدم تصدع التنظيم النقابي وصلابة هياكله، وبالتالي نجاعتها. بالإضافة إلى هذه المبادئ الثلاثة، هناك عناصر أخرى تلعب دوراً مكملا وضروريا لنجاعة وجدية العمل النقابي، منها الطابع الجماهيري للتنظيمات النقابية والتضامن فيما بين مكوناتها. لكن تبقى الوحدة النقابية للشغيلة العامل الحاسم والتي، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، لا يستقيم أي نضال مطلبي بدونها. فإذا كانت الوحدة التنظيمية للنقابات شيئا مستبعداً حالياً في بلادنا بالنظر إلى البلقنة التي يعرفها هذا الحقل، والناتج عن ظروف تاريخية مرتبطة بتطور الحراك المجتمعي منذ استقلال المغرب، فإنه يمكن إعادة بناء الوحدة النضالية، إما على مستوى عدد من المركزيات النقابية من خلال التنسيق بينها حول قضايا وملفات مشتركة، وإما على مستوى مختلف الأجراء رغم تنوع النقابات التي ينتمون إليها، وحتى غير المنتمين منهم، حول مطالب مشتركة داخل كل مؤسسة أو داخل كل قطاع. ولعل المبادرة الوحدوية الثلاثية بين الاتحاد المغربي للشغل والكونفدرالية الديمقراطية للشغل والفدرالية الديمقراطية للشغل التي انطلقت منذ السنة الماضية، رغم أنها في بداياتها، ورغم الصعوبات التي قد تواجهها، فإنه من الممكن أن تشكل اللبنات الأولى لبناء وحدة نضالية للشغيلة في ساحة العمل النقابي الجاد لتجاوز العائق الكبير المتمثل في البلقنة والتجادبات التي عرفها الحقل النقابي ببلادنا منذ عقود. وعندما نتكلم عن استقلالية العمل النقابي عن المجال الحزبي، فإن هذا لا يعني حياد الحركة النقابية تجاه الحراك السياسي في المجتمع. فأن يكون الخطاب المطلبي النقابي بعيدا عن الصراعات الحزبية الضيقة، هذا شيء إيجابي في حد ذاته، لأنه يمكن الشغيلة بأن تتوحد في نضالاتها حول مطالب الجميع دون أي اعتبار حزبي قد يكون مصدر خلاف، وبالتالي مهدداً للوحدة النضالية الضرورية. لكن ذلك لا يعني غياب أي أفق سياسي للعمل النقابي الذي يندرج في إطار الصراع الاجتماعي. إن الحركة النقابية تدافع عن مصالح الشغيلة التي يوجد أفقها في التقدم الاجتماعي الضامن لمجتمع الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتضامن. وبالتالي فإن الحركة النقابية، إلى جانب إسهامها الكبير في النضال الهادف إلى سن سياسات عمومية تحسن من ظروف عيش الشغيلة وذويهم، فإنها كانت وستبقى في صلب النضال الوطني من أجل بناء مؤسساتي ودستوري لدولة ديمقراطية، ومن أجل ضمان حقوق الانسان والحريات الفردية والجماعية، ومن أجل توزيع عادل للخيرات. وعلى المستوى الفكري والإيديولوجي الرامي إلى مواجهة الأفكار التي تبخس من قيمة العمل لصالح الرأسمال، أي الأفكار التي تهيء العقليات في المجتمع للقبول بالسياسات الليبرالية المتوحشة المؤدية إلى تفقير الشغيلة، وإلى تعزيز مصالح الفئات المالكة لوسائل الإنتاج الكبيرة، هذا الصراع الفكري تقوم به الشغيلة مع حلفائها الطبيعيين من مثقفين متنورين ومناضلين ديمقراطيين من أجل مجتمع التقدم وتكافؤ الفرص والديمقراطية، ويعتبر أساسيا وحاسما في كثير من الأحيان. خلاصة القول هي أن العمل النقابي، وإن كان عليه أن لا يكون ذيليا للعمل الحزبي، فإنه يندرج في إطار الصراع المجتمعي العام من أجل احترام الحقوق والحريات، ومن أجل التوزيع العادل للخيرات وضمان الحد الأدنى للعيش الكريم، الشيء الذي يجعل العمل النقابي يلتقي موضوعياً مع النضال السياسي للقوى الوطنية الديمقراطية التقدمية من أجل بناء مجتمع العدالة والنماء والديمقراطية. إن الطبقة العاملة المغربية في حاجة إلى أحزاب حليفة حقيقية تؤمن فعلا بالوحدة النقابية للشغيلة وباستقلاليتها على مستوى التنظيم والقرار، أحزاب وفية لتطلعات الشغيلة المغربية ومدافعة عنها من كل المواقع التي تتبوؤها داخل المؤسسات الدستورية. كما أن المشروع المجتمعي الديمقراطي والتقدمي الذي تصبو اليه القوى الديمقراطية والتقدمية يحتاج إلى حركة اجتماعية واسعة تحمله وتلعب فيها الطبقة العاملة ومجموع الشغيلة دورا حاسما من خلال تنظيماتها النقابية. إن علاقة السياسي والنقابي يجب أن تبنى على الاستقلالية في إطار التفاعل والتكامل، على أن يلعب كل فاعل دوره كاملاً، لكن دوره فقط دون تداخل في الأدوار. وفي هذا المجال فإن هناك نظرية متجاوزة للعلاقة بين العمل السياسي والعمل النقابي، هذه النظرية التي تعتبر أن النقابة ما هي إلا صلة وصل للعمل الحزبي مع الجماهير (courroie de transmission). هذه المقاربة التي تعني أن النقابة ليست إلا أداة في يد الحزب الذي يحركها كلما كان ذلك ضرورياً لتحقيق أهداف سياسية أو لكسب عطف وانخراط الجماهير. فالهدف من العمل النقابي في آخر المطاف، بالنسبة لأصحاب هذه النظرية المتجاوزة، هو العمل على كسب السند السياسي للشغيلة وتجييشها إلى جانب الحزب قبل الدفاع عن مصالحها الخاصة وانتزاع مكاسب لها. لقد عرف المشهد النقابي المغربي عدة تجارب تنطلق من هذه المقاربة، كما عرف ولا زال يعيش بعض التجارب الهجينة الأخرى. إلا أن نجاعة العمل النقابي الجاد تبقى، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، هي المقاربة التي تعتمد على المبادئ الثلاث وهي الوحدة والاستقلالية والديمقراطية مع التوجه العام في أفق التقدم المجتمعي الضامن للحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. والاتحاد المغربي للشغل، الذي يصادف انعقاد مؤتمره الوطني الحادي عشر الاحتفال بمرور ستين سنة على تأسيسه، يشكل تجربة غنية في هذا المجال، مما يجعل كل الديمقراطيين يترقبون نتائج ومقررات مؤتمره الوطني، خاصة في هذا الظرف بالذات الذي يتطلب أكثر من أي وقت مضى توفر بلادنا على حركة نقابية مستقلة وجادة، حركة نقابية قوية وذات مصداقية تعبر عن تطلعات الشغيلة وتدافع عن مطالبها وتشكل في نفس الوقت إحدى الأدوات الأساسية للوساطة في المجتمع، لأن هذه الأخيرة تساهم بشكل كبير في استقرار المجتمعات وضمان تطورها السلمي. 18 - 03 - 2015