محكمة سلا تقضي بالحبس موقوف التنفيذ في حق 13 ناشطًا من الجبهة المغربية لدعم فلسطين بسبب احتجاجات    تعيين أنس خطاب رئيساً لجهاز الاستخبارات العامة في سوريا    "زوجة الأسد تحتضر".. تقرير بريطاني يكشف تدهور حالتها الصحية    تحذير من ثلوج جبلية بدءا من السبت    نشرة إنذارية: تساقطات ثلجية على المرتفعات التي تتجاوز 1500م من السبت إلى الإثنين المقبلين    المديرية العامة للضرائب تعلن فتح شبابيكها السبت والأحد    "البام" يشيد بمقترحات مدونة الأسرة    أبناك تفتح الأبواب في نهاية الأسبوع    المحافظة العقارية تحقق نتائج غير مسبوقة وتساهم ب 6 ملايير درهم في ميزانية الدولة    "منتدى الزهراء" يطالب باعتماد منهجية تشاركية في إعداد مشروع تعديل مدونة الأسرة    330 مليون درهم لتأهيل ثلاث جماعات بإقليم الدريوش    سرقة مجوهرات تناهز قيمتها 300 ألف يورو من متجر كبير في باريس    نظام أساسي للشركة الجهوية بالشمال    بيت الشعر ينعى محمد عنيبة الحمري    إياب ساخن في البطولة تبدأ أطواره وسط صراع محتدم على اللقب وتجنب الهبوط    المنتخب المغربي يشارك في البطولة العربية للكراطي بالأردن    غياب الطبيب النفسي المختص بمستشفى الجديدة يصل إلى قبة البرلمان    الدحمي خطاري – القلب النابض لفريق مستقبل المرسى    العام الثقافي قطر – المغرب 2024 : عام استثنائي من التبادل الثقافي والشراكات الاستراتيجية    استخدام السلاح الوظيفي لردع شقيقين بأصيلة    الكونفدرالية الديمقراطية للشغل تصعد رفضها لمشروع قانون الإضراب    إسرائيل تغتال 5 صحفيين فلسطينيين بالنصيرات    اكتشاف جثة امرأة بأحد ملاعب كأس العالم 2030 يثير الجدل    تعاونيات جمع وتسويق الحليب بدكالة تدق ناقوس الخطر.. أزيد من 80 ألف لتر من الحليب في اليوم معرضة للإتلاف    طنجة تتحضر للتظاهرات الكبرى تحت إشراف الوالي التازي: تصميم هندسي مبتكر لمدخل المدينة لتعزيز الإنسيابية والسلامة المرورية    الارتفاع يفتتح تداولات بورصة الدار البيضاء    بلعمري يكشف ما يقع داخل الرجاء: "ما يمكنش تزرع الشوك في الأرض وتسنا العسل"    "ال‬حسنية" تتجنب الانتقالات الشتوية    "التجديد الطلابي" تطالب برفع قيمة المنحة وتعميمها    "الاتحاد المغربي للشغل": الخفض من عدد الإضرابات يتطلب معالجة أسباب اندلاعها وليس سن قانون تكبيلي    حلقة هذا الأسبوع من برنامج "ديرها غا زوينة.." تبث غدا الجمعة على الساعة العاشرة    أسعار الذهب ترتفع وسط ضعف الدولار    هجوم على سفينة روسية قرب سواحل الجزائر    كندا ستصبح ولايتنا ال51.. ترامب يوجه رسالة تهنئة غريبة بمناسبة عيد الميلاد    مقتل 14 شرطيا في كمين بسوريا نصبته قوات موالية للنظام السابق    صناعة الطيران: حوار مع مديرة صناعات الطيران والسكك الحديدية والسفن والطاقات المتجددة    أسعار النفط ترتفع بدعم من تعهد الصين بتكثيف الإنفاق المالي العام المقبل    سنة 2024 .. مبادرات متجددة للنهوض بالشأن الثقافي وتكريس الإشعاع الدولي للمملكة    الممثل هيو جرانت يصاب بنوبات هلع أثناء تصوير الأفلام    الثورة السورية والحكم العطائية..    اعتقال طالب آخر بتازة على خلفية احتجاجات "النقل الحضري"    مباراة ألمانيا وإسبانيا في أمم أوروبا الأكثر مشاهدة في عام 2024    "أرني ابتسامتك".. قصة مصورة لمواجهة التنمر بالوسط المدرسي    المسرحي والروائي "أنس العاقل" يحاور "العلم" عن آخر أعماله    الضرورات ‬القصوى ‬تقتضي ‬تحيين ‬الاستراتيجية ‬الوطنية ‬لتدبير ‬المخاطر    جمعيات التراث الأثري وفرق برلمانية يواصلون جهودهم لتعزيز الحماية القانونية لمواقع الفنون الصخرية والمعالم الأثرية بالمغرب    مصطفى غيات في ذمة الله تعالى    جامعيون يناقشون مضامين كتاب "الحرية النسائية في تاريخ المغرب الراهن"    التوجه نحو ابتكار "الروبوتات البشرية".. عندما تتجاوز الآلة حدود التكنولوجيا    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تقنيات السينما في أسلوب المخرج محمد الحر
نشر في بيان اليوم يوم 15 - 03 - 2015


قراءة في العرض المسرحي «تيرياحين»
تمهيد
عرف المنجز المسرحي المغربي خلال السنوات القليلة الماضية طفرات نوعية خاصة مع ظهور جيل من "خريجي المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي" الذين كرسوا منجزهم الفني والجمالي للنهوض بالمسرح المغربي وبعث الدماء في شرايينه التي تكلست بفعل الركود الذي عرفه خلال تسعينيات القرن الماضي. فبرزت بذلك العديد من الأسماء والتجارب الجديدة والمغايرة، تواطأ النقد المسرحي المغربي الملسوع بحرقة الأسئلة على تسميتها ب "الحساسيات الجديدة".
ويبقى المخرج محمد الحر واحدا من الأسماء والتجارب المهووسة بالسؤال الجمالي كمدخل أساسي لركوبها غمار التجريب وخوضها للمشروع المسرحي الحداثي. هذا الهوس، تمظهر بشكل جلي في كل منجزه المسرحي، منذ أن أعلن عن نفسه مخرجا، إلى آخر توقيعه المسرحي الموسوم ب "تيرياحين" المنتج من قبل فرقة "أكون للثقافات والفنون" بشراكة مع المسرح الوطني محمد الخامس وبدعم من مؤسسة ثريا وعبد العزيز التازي.
سنحاول في هذه الورقة مقاربة هذا المنجز المسرحي بالوقوف على بعض "عتبات النص" أو "النصوص الموازية" كما تعنونها الدراسات النقدية الحديثة، باعتبارها مداخل تفتح أمام المتلقي السبل لاقتحام النص/ العرض، وبناء أفق انتظاره وتوقعه. فالعتبات التي تتخذ أشكالا مختلفة كالعنوان، والملصق، والصور...، تحمل في جوهرها دلالات رمزية وإيحائية، مباشرة وغير مباشرة تنسج علاقات وصلات وثيقة بحمولة النص/ العرض، وفي الوقت نفسه، تشكل عنصر إثارة تدفع المتلقي إلى التعاطي مع المتن انطلاقا من تمثله لهذه العتبات من جهة، وتأويلها من جهة ثانية.
وسنخصّ في هذه المقاربة خطاب الملصق، كأول رسالة مشفرة ومفكر فيها، وجهها المخرج محمد الحر إلى المتلقي ليثير انتباهه ويساعده على التعمق في مستويات العرض واستجلاء مضامينه الفكرية وأبعاده الجمالية. فوظيفة الملصق، بشكل عام، لا تقتصر فقط على الإخبار بتاريخ ومكان العرض، بل تتعداها إلى ترجمة مضامين العرض ومقاصده، وإيضاح بؤره الدلالية، والتأشير على أبعاده الإيحائية من خلال النصوص المصاحبة له كالعنوان، الصورة، أسماء الممثلين، اسم المؤلف، اسم المخرج...، إذ تتفاعل وتتكامل، لتشكل لوحة فنية تمارس سلطتها على المتلقي، وترسم أفق انتظاره.
عتبة الملصق والاشتغال الفيلمي في العرض:
يطرح شكل ملصق عرض "تيرياحين" مسألة غاية في الحساسية، تتعلق بالتجنيس الذي يساعد المتلقي على استحضار أفق انتظاره، ويهيئه لتقبل أفق العرض، فهو يفيد عملية التلقي بتحديده استراتيجيات آليات التلقي وربط هذا العرض المجنّس بالعروض الأخرى التي من نوعه، لأننا نتلقى العرض من خلال هذا التجنيس، ونعقد معه عقدا للمشاهدة. فالتجنيس عموما يحاول أن ينظم العلاقة بين المبدع والناقد والمتلقي كنظام رسمي يعبر عن مقصدية المبدع لما يريد أن ينسبه للعرض، حتى في هذه الحالة لا يستطيع المتلقي تجاهل أو إهمال هذه النسبة.
وعليه، فرغم أن الأمر يتعلق بعرض مسرحي، وإن لم يتم الإعلان عن ذلك صراحة في الملصق، إلا أن شكل الملصق يجعل "تيرياحين" حالة تكاد تكون خارج الميثاق الأجناسي المتعاقد عليه ضمن الأجناس الفنية، أو على الأقل تعبر عن عدم ارتباطها بالنظام السائد. فشكل ملصق "تيرياحين" وخروجه عن الأشكال السائدة في إنتاج ملصقات العروض المسرحية، يعبر عن رؤية خاصة لمحمد الحر، تحفز المتلقي وتدفعه إلى التساؤل عن الجديد الذي يحمله العرض، والبحث في المعايير التكوينية والدلالية والفنية والجمالية التي تحدد موقعه داخل الأشكال التعبيرية المسرحية التي يعرفها المسرح المغربي. وتعبر معرفيا عن ابتداع أسلوب خاص في إنتاج الفرجة المسرحية. فعندما يتمرد ملصق العرض المسرحي على شكله، ويأتي مشابها لملصقات الأفلام السينمائية، فالأمر لا يعني التقليد أو الانبهار، ولا يروم الاختلاف في ذاته، إنما المسألة ذات علاقة ببناء العرض ومعماره الجمالي الذي يساير ويطور الاشتغال الذي سبق لمحمد الحر أن أعلنه في عرضه السابق "مومو بوضرسة" حين ارتكن إلى تقنيات السرد السينمائي في كتابة نصه، وفي صياغة تصوره الجمالي للعرض. إن شكل الملصق إذن، يقحم عرض "تيرياحين" في أفق تلقي مختلف ويحفز المتلقي صراحة على استحضار الاشتغال الفيلمي في عملية تلقيه للعرض، فمنذ المشهد الأول الذي ينفتح على رجل يحاول طعن امرأة، نسمع صوتا خارجيا عبر مكبر الصوت / ميكروفون، يأمر بإيقاف المشهد. ليبدو الأمر وكأننا أمام مشهد يتم تصويره في البلاتو، يتعمق إحساسنا هذا حين يظهر محمد الحر نفسه وبشكله الاعتيادي في جانب من الخشبة خلف مكبر الصوت ليعلق على المشهد، ومن خلاله على الصورة الثابتة، التي تبقى منفتحة على كل القراءات بسبب تعدد دلالاتها الذي يستحيل معه تقريب المعنى إلا بتدخل النص اللغوي خاصة في الصور الثابتة. من هنا فتدخل محمد الحر / السارد كان بهدف توجيه إدراكنا أولا وتحديد مجال تأويلنا للصورة / المشهد ثانيا. وفي الوقت نفسه، الكشف عن الأسلوب الذي سينتصر له في عمله المسرحي في محاولة منه لوضع المتلقي على سكته الصحيحة، وتأكيد ما سبق وإن لمح إليه ضمنا في اختياره الجمالي للملصق. لذا نراه يشبه ما يحدث أو سيحدث بشريط فيلمي لا ينتهي، شريط يتكرر إلى ما لا نهاية، فتارة يتحرك بسرعة، وأخرى ببطء، وتارة يتحرك إلى الأمام أو إلى الخلف، وتارة يتوقف عند تفصيل معين ويركز عليه.
تقنية الاسترجاع أساس البنية السردية للعرض
إن محمد الحر إذن، وباعتماده تقنية "البرولوج"، يضع الخطوط العريضة لمعالم متنه ويدعونا إلى تلقيه وفق هذا المعطى الذي سيكشف عنه في باقي منجزه المسرحي المزدحم بالاستعارات المتنوعة للتقنيات السينمائية ولأدواتها التعبيرية في الكتابة والمونتاج وغيرهما من مفردات اللغة السينمائية. ولتعميق هذا الاختيار الجمالي، يبدأ الحر عرض " تيرياحين" بمشهد محاولة قتل الرجل للمرأة كمشهد افتتاحي، كتقنية سينمائية دأب صناع الأفلام على ابتداعها كبداية لأفلامهم، للدفع بالمتلقي إلى التساؤل عن هوية الشخصيات، وعن طبيعة الحدث وأسبابه، وفي الوقت نفسه لجذب الانتباه إلى الحدث الرئيسي منذ البداية. فمعلوم لدى المهتمين بالشأن السينمائي أن صناع الأفلام في بداية ظهور السينما العالمية كانوا يبدؤون أفلامهم بشعار الجهة المنتجة يليه مباشرة اسم الفيلم وأسماء المشاركين فيه. غير أنه ومع نهاية الثلاثينيات سيحدث تغيير جوهري في صيغة بداية الأفلام، قاده المخرج (لويس مايلستون) الذي سيبدأ فيلمه "الفئران والرجال" مباشرة بمقطع فيلمي دون شعار أو عنوان، ومنذ ذلك التاريخ سينبري صناع الأفلام إلى ابتداع أشكال جديدة لبداية أفلامهم. فعمدوا إلى اختيار مقطع يسبق ظهور عنوان الفيلم وأسماء أعلامه لجعل المشاهد يتساءل عن هوية الشخصيات أو عن طبيعة أحد الأحداث المحورية التي يصورها الفيلم فيما بعد، أو بهدف الاستحواذ على انتباه المشاهد على أمل الاحتفاظ به طيلة عرض الفيلم، لهذا يتعمد بعض صانعي الأفلام محاولة جذب انتباه المشاهد إلى الحدث منذ البداية، وأي متلقي لم يكن حاضرا في بداية الفيلم غالبا ما لا يستطيع فك شفرة نهايته أو على الأقل لا يقدرها حقها.
فمشهد القتل الذي ارتآه محمد الحر مشهدا افتتاحيا لمنجزه المسرحي، يشكل الحدث المهم في البنية السردية للعرض وفي الوقت نفسه هو المشهد الختامي في معماريته، الشيء الذي سيستدعي توظيف تقنية استرجاع الماضي/ الفلاش باك، للتعرف على الشخصيتين واكتشاف نوعية العلاقة التي تربطهما، ودواعي سعي الرجل لمحاولة قتل المرأة. وستتكفل الإضاءة بمهام المونتاج إذ ستختفي الصورة الكائنة بشكل تدريجي قبل أن تحل محلها، فيما بعد، وبشكل تدريجي أيضا، الصورة التي ستشكل منطلقا لبداية القصة، (ساحة تيرياحين حيث الطالب علي وبونعيلات).
إن تقنية الاسترجاع هذه، ستدفع بمحمد الحر إلى أن يختط طريقا خاصا في إعادة بناء الحدث المسرحي من البداية، ونسج خيوط حبكته، مرتكنا في ذلك إلى تقنية السرد بالدرجة الأولى. ولأن السرد، كما يذهب إلى ذلك رولان بارت، يمكن أن تتحمله اللغة والصورة معا، فقد ركن الحر خطابه السردي إلى لغة سينمائية تصور بدقة تفاصيل أمكنة الأحداث، وتدفع المتلقي إلى متابعة الحكي وكأنه يتم بعين الكاميرا. فبدأ سرده بمشهد بانورامي تتحرك فيه الكاميرا سابحة فوق سماء المغرب بكل تضاريسه، بهضابه، وبحاره وجباله، قبل أن تستقر عند منطقة جبلية بالجنوب المغربي في مشهد عام يظهر قرية بين جبلين (تكّ الريح أو الريح الطيبة)، وبتقنية التقريب / الزّوم، تقترب الكاميرا أكثر من القرية لتحط الرحال وسطها، ومعها يحط المتلقي الرحال أيضا في ساحة واسعة تدعى "تيرياحين". ليتوقف محمد الحر عن السرد كسارد خارج حكائي بلغة جيرار جينيت، أي كشخصية تنهض بوظيفة سرد القصة والأحداث من الخارج، ويتحول إلى شخصية تقوم بوظيفة الفعل، عبر تسليم دفة السرد لسارد جديد من داخل الحكاية، ولأن السرد كما يؤكد عبد الفتاح كيليطو يحتاج للإعلان عن نفسه بصيغة من الصيغ تكون بالنسبة للحكاية كالإطار بالنسبة إلى اللوحة، فقد اختار الحر للتعبير عن هذا التحول، الانتقال من خارج الإطار / الخشبة إلى داخله، وإشعال القنديل ليعلن للمتلقي بداية الفعل المسرحي كجملة من الأحداث التي ستنهض بها الشخصيات الثلاث، الطالب علي/ عبد الله ديدان؛ بونعيلات/ بوشعيب الصماك؛ شامة/ جميلة الهوني. هذا التحول من السرد إلى الفعل، لا يعني بالضرورة توقف السرد، بل فقط سيتحول من سرد خارجي إلى سرد داخلي ستقوده شخصية بونعيلات التي ستقوم بوظيفة مزدوجة، حيث ستتولى عملية الحكي كسارد داخل حكائي بتعبير جيرار جينيت، وفي الوقت نفسه، كممثل يلعب دورا في الحكاية.
نود أن نشير هنا إلى أمر في غاية الأهمية، ذلك أن الوقائع التي تحدث ونتعرف عليها، لا تقدم لنا في ذاتها، بل إن شقا كبيرا منها، يقدم من منظور معين وانطلاقا من وجهة نظر بونعيلات الذي يتكفل بسرد الحكاية كسارد شاهد على بدايتها من جهة، ومن جهة ثانية، كفاعل في بناء أحداثها. فبونعيلات يتخذ في البناء السردي للعرض، موقعين أساسيين، موقع يكون فيه خارج النص إذ تنحصر مهمته في إنتاج الأقوال، كما الحال حين يسرد واقعة وصول الغريب وموته بساحة تيرياحين، وموقع يكون فيه داخل النص، إذ يتحول إلى شخصية تنتج الفعل، كما يحدث مثلا حين يفتح رسالة الغريب ويتعرف على محتواها، أو حين يخبر القائد بالنبأ ويجمع أهل القرية للتعرف على صورة الميت. فمهمة بونعيلات إذن، تكمن في تنظيم الأحداث والشخصيات تبعا لقواعد الحكي ولأشكاله المختلفة، إذ ينطلق من الحكاية ليعيد تشكيلها عبر منطق داخلي، ووفق نظام تواصلي يعيد فيه صياغة الواقع الذي يتكلم عنه، وينطلق منه، وينتقي الأحداث والشخصيات ويحكم سيطرته عليها، انطلاقا من إدراكه الذاتي لتسلسلها ولزاوية نظره لها وغايته منها، من هنا نراه مثلا يقفز على واقعة الحقيبة ولا يذكرها مما يدفع بالطالب علي إلى الاحتجاج عليه متهما إياه بعدم أمانته في الحكي. فغاية بونعيلات لا تنحصر فقط في عرض الأحداث، وإنما وهذا هو الأهم في إقناع الطالب علي والتأثير عليه باعتباره المقصود الأول بالحكي، وإشعاره بما يريد له أن يشعر به، ليدفع به إلى تبني النتيجة التي سبق له أن رسم معالمها من قبل. مما يجعله ينسحب بعد استكمال مهمته، وهكذا فإن بونعيلات وبمجرد استكمال عمله كسارد وفاعل في صناعة الحدث والدفع به إلى الذروة بزرع بذور الشك في نفس الطالب علي كسوسة تعشعش في رأسه، ينسحب ليترك للشخصيات مهمة إنهاء الفعل.
عند هذه النقطة المفصلية، سيتدخل محمد الحر ليوقف المشهد "أحبس"، وكأننا أمام شاشة متحكم فيها عن بعد، يثبت الصورة ويدعو المتلقي إلى تذكرها كتفصيل دقيق سيشكل تحولا في مسار الأحداث، "عقلوا على هذا اللحظة مزيان.. غادي نعاود نرجع ليها"، ومنسجما في الوقت نفسه مع الشكل الذي سبق ووضع أسسه في البداية حين أشّر على التقنيات التي سيستكين إليها في اشتغاله، كتقنية التثبيت لتأكيد المشهد وتأطيره وعزله عن سابقه. لتأخذ الأحداث بعد ذلك مسارها الطبيعي، أو على الأقل كما سنتوهم، إذ سينتفض "الطالب علي" ويرعد ويزبد رافضا فكرة أن يكون أحد أبنائه ليس من صلبه، ليخوض غمار استنطاق زوجته "شامة" محاولا التعرف على الابن موضوع الخيانة، قبل أن تصدمه بكونه أعز أبنائه، ليقرر قتلها فيجد المتلقي نفسه من جديد أمام المشهد الافتتاحي الذي بدأ به العرض، وقد انجلت غمامة الغموض التي أحاطت به منذ البداية، وسيفسره بكونه يشكل انتقاما للشرف وللعرض الذي يقوده "الطالب علي" كرجل شهم ينتقم لشرف القرية الذي لوثته "شامة" مع الغريب. غير أننا لن نهنأ كثيرا بهذا التفسير، ففي الوقت الذي استكان فيه المتلقي إلى تلك القراءة ورضي بها لاستجابتها لرغباته ولأفق انتظاره بناء على الأحداث المؤسسة لها، يعود محمد الحر ليتدخل من جديد ويكسر هذا الأفق ويعتذر للمتلقي بنوع من السخرية "سمحوا لينا.. كان بودي نعاود ليكم هاد الحكاية بهاد الشكل..... ولكن سمحوا ليا هاذ الشي ماشي هو اللي وقع بصح". تدخل "الحر" هذا، سيعيد الغموض من جديد إلى المشهد ويستدعي من المتلقي البحث عن تفسير آخر، مما يدفع به إلى العودة بالشريط إلى الخلف، وبالضبط إلى المشهد الذي سبق وأن تبثه وأطره سابقا، هذه العودة تأخذ شكل قطع حاد مادامت نقطة التحول لازالت عالقة بذاكرتها منذ أن تدخل وأشر عليها، "نرجعو شوية للور".
نعود إلى المشهد الفيصل، لنكتشف أن ما حدث سابقا كان مجرد فكرة خطرت ببال الطالب علي بعد علمه بواقعة الخيانة، أما الحقيقة فتختلف كثيرا عن ذلك، فالطالب علي سيختار مسارا مختلفا للأحداث، إذ سيسعى إلى محاولة إقناع زوجته للاعتراف بالخيانة والظفر بالحقيبة، وحين ترفض وتحاول فضحه أمام أهل القرية، يقرر قتلها.
خلاصة
عموما فمحمد الحر وبعرضه "تيرياحين" يواصل التقعيد لمشروع مسرحي، سبق أن أعلن عنه في عرض " الباشا حمو"، يحاول من خلاله التأسيس لمسرح مغربي مغاير يزاوج بين الاشتغال الفني والجمالي المؤسس على النظريات الجمالية الحديثة وبين الفرجة القادرة على التفاعل الإيجابي مع المتلقي بشتى تلاوينه ومشاربه وبمختلف مرجعياته. إن عروض محمد الحر تبقى عروضا مراوغة بحيث تتسع لقراءات عدة لما تتميز به من إيحاء وتكثيف، وترميز، وتضمين، إذ تتضمن في الغالب رسائل تتصف دوما بطابع التخفي والتجلي يكون معها المتلقي وحسب درجات تلقيه ومستوياته، قادرا على استيعاب الظاهر وتأويل المتجلي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.