ملاحظة نظرية: حظيت دراسة الحكاية بأهمية بالغة في مجمل الدراسات النظرية التي عنيت بالسينما، وعرفت تطورا كبيرا مقارنة مع الدلالات السينارية الأخرى الخاصة بالكتابة السينمائية كالشخصيات والزمن والديكور وأسهمت هذه الدراسات المتعددة للحكاية في تأسيس ما يعرف بالسرديات السينمائية التي لم يتم ارتيادها إلا قليلا، وإذا كانت هذه المقاربة التي نقترحها تروم تحليل بعض مظاهر الحكاية في فيلم: الغرفة السوداء أو درب مولاي الشريف، تجدر الإشارة إلى أنها استقت بعض أدواتها من السرديات الأدبية وآلياتها التي توظف في تحليل الخطاب الأدبي عامة والروائي خاصة. الصورة الذاكرة أو كتابة التاريخ: تستمد الحكاية في فيلم درب مولاي الشريف قيمتها الجمالية من سلوك الشخصيات وتاريخها وسياقها الاجتماعي والثقافي ومن فضائها أيضا، ولم ينظر إلى التاريخ، تاريخ الاعتقال السياسي نظرة محتجبة، وإنما تمت مقاربته باعتباره تجربة خاصة، أو حادثة من الحياة الاجتماعية والأيديولوجية والنفسية لمجموعة من الأشخاص، أما المظهر الثاني للحكاية فيمس مزاج الشخصية بوصفه العنصر الذي يميزها عن غيرها ويحدد سلوكها وطريقة تعبيرها وردود أفعالها. إن الفيلم، فيلم شخصيات تعيش تجربة الاعتقال السياسي، والشخصية هي علة الوجود بالنسبة للحكاية، شخصيات تقدم شهادات حول فترة من تاريخ المغرب المعاصر، إذ لا نشاهد الحقيقة الاجتماعية والسياسية والإنسانية بوصفها معطيات مباشرة، وإنما نشاهدها في اللحظة التي تبنى وتتشكل باعتبارها تجربة خاصة بالشخصية وبالدور الذي تشخصه، ذلك أن العالم الحكائي والعالم الممكن الذي يبينه الفيلم بعيد كل البعد عن العالم الواقعي والمعيش. لا تقدم الحكاية الفيلمية منذ الفعل الأول، أي منذ لحظة ظهور كمال (محمد نظيف) الموظف بمطار محمد الخامس بالدار البيضاء نموذجا بشريا واحدا ورؤى متطابقة، وإنما نماذج بشرية متباينة ورؤى مختلفة في المجتمع والقناعات الأيديولوجية، فتقدم لنا بالتالي مختلف وجوه الصراع، خلال فترة زمنية معينة، بين السلطة والحركات السياسية والذي اتخذ طابعا مأساويا أحيانا كثيرة. يعرض الفيلم مكانا وزمنا وظروفا مجتمعية ثم يثبت فيها شخصيات تحيى جزءا من التاريخ فانطلقت الحكاية من الفرد، أي من كمال وهو شاب متعلم مفعم بالحيوية والأمل ومنخرط في صلب الحياة الاجتماعية والأسرية، وإلى جانبه خطيبته نجاة (حنان الإبراهيمي)، وهي الأخرى فتاة شابة مفعمة بحب خطيبها وبحب الحياة، وفي الجانب الآخر التيار المناقض بكل تشكيلاته ولقد عمدت الحكاية الفيلمية إلى بناء مسار سردي أو ترجمة ذاتية وذلك بتوظيفها لنوع من السرد الكلاسيكي كما في الرواية الأصلية. يعرض الفيلم إذن، حكاية تمتزج فيها التجربة الذاتية أو الفردية بتجربة تاريخية، فتارة تنسل الأولى من الثانية وتارة يحدث العكس، إذ أن هذا التجاذب بين التجربتين هو ما يمثل عصب التيمة الرئيسة في القصة الفيلمية. وإن تخللت الحكاية الفيلمية نفحة تاريخية، فإن الشخصية القطبية فيها: كمال لم يكن شاهدا فاعلا يعرض الحقيقة رغم أنها توجد في خضم المخاض السياسي والأيديولوجي المعاصر له، إن الشخصيات تسعى إلى عرض هذه الحقيقة عرضا جماليا، وبالموازاة مع عمل الشخصيات في البنية الحكائية، تطرح البنية ذاتها سؤالا يخص علاقة الفرد بالحركة السياسية أو الأيديولوجية التي ينتمي إليها كما تطرح سؤالا آخر يهم التعالق بين التراجيدية الفردية ومصير التاريخ ثم ُإن ما يتم فهمه باعتباره تراجيديا يجب أن يكون مقبولا بشكل بسيط إنه في واقع الأمر ظاهرة ُجماليةُ عميقة كذلكُ.1 لا نلمس في الفيلم صدى شهادات عامة، وإنما شهادات خاصة وكذلك تستمد الحكاية قيمتها الجمالية من كونها تستمد متنها من نص روائي وما يترتب عن ذلك التغاير السميوطيقي من إضافة بنيات فضائية وزمنية غير تلك الخاصة بالبناء الروائي، ويبني الفيلم كتابته السينمائية الخاصة وفق حمولة جمالية تمتح من مرجعية ثقافية وأدبية خاصة، إذ أن الواقعية السياسية التي تترع عن الشخصية القطبية (كمال وباقي المعتقلين) طابعها السطحي لا يمكن التعبير عنها إلا بواسطة الفن، ثم إن التركيز على الحكاية فسح المجال على نحو واسع أمام الفيلم لسرد جزء من الذاكرة السياسية والأيديولوجية والاجتماعية للمغرب المعاصر، إن فيض الذاكرة هاهنا تجديد للرؤية الواقعية التي يتم التعبير عنها من خلال زوج couple un (كمال ونجاة) يروي حكايته الخاصة، وسينمائي يساءل لحظة من التاريخ من خلال شكل سينمائي. إن شخصيتي كمال ونجاة تستمدان قيمتهما داخل حركة السرد من خلال تحديدهما لمسير الأحداث اللاحقة، فالتعارض الظاهري والمبطن بينها وبين شخصيات أخرى يعد مصدر العقد الدرامية في البنية الحكائية الكلية، إذ أن لعبة الأحاسيس والموضوعات الوجودية والاجتماعية والتاريخية وحتى السياسية تظل مرتبطة بباطن الأفراد الذين يحددون بدورهم البنية العاطفية التي تؤلف المواقف.2 يتضح أن الطابع المأساوي لهذه التراجيدية التاريخية يكمن في كون الشخصية تعي ذاتها وتاريخها، ُذلك أن الحزن التراجيدي ينشأ من معرفة الذات التي تحدث للمتفرج الذي يوجد داخل الأحداث التراجيدية لأن الأمر يهم تاريخه الخاص.3 وكذلك تعتمد البنية الحوارية في الفيلم على التعالق بين الشخصيات وتبني وفق أفعال خاصة باللغة des actes de langage وتنهض على ثنائية سؤال-جواب، كما تعتمد على تعالق سجالي أو هجومي في مختلف اللقطات التي تصف عملية الاستنطاق أو التحقيق، إذ أصبح هذا النوع من الحوار السجالي متداولا في الأعمال الإبداعية التخييلية أكثر مما هو متداول في التواصل الاجتماعية العادي لأن هذا الحوار يوجد في صلب الصراعات والأزمات التي تؤلف القصص،4 كما أن أجوبة الشخصيات وتعبيراتها تعتبر في الغالب محركا أساسيا للحبكة، وقد تنبئ بالتالي بالأحداث اللاحقة وتبرمجها بشكل من الأشكال كما يظهر ذلك في اللقطات المقربة plans rapprochées واللقطات المجموع p.d'ensemble التي تصف عملية الاستنطاق، ذلك أن المواجهة بين الشخصيات وتبادل الحوار بينها يضفي على النص الفيلمي طابعا بوليفونيا يدل على تعدد زوايا نظره وتعدد أصوات الحكاية كذلك، ونمو صراعها الدرامي إلا أن غياب الموسيقى المصاحبة للحوار منح للوظيفة اللفظية في الفيلم بعض التفوق على حساب بلاغة الصورة. يعتبر الفضاء عنصرا هاما في دراسة الحكاية ذلك أن مختلف الأشكال السردية les formes narratives تجد موقعها داخل فضاء محتمل يحضن الحدث المقبل، كما أن الأحداث الفيلمية لا يمكن أن ت حدث إلا في فضاء خاص ومتميز فالصورة بوصفها الوحدة الرئيسية في السينما تعتبر دالا فضائيا signifiant spatial. إن السينما وعلى خلاف الأجهزة السردية الأخرى تعرض الأحداث التي تؤلف الحكاية والسياق الذي تدور فيه إن الطابع الأيقوني للدال الفيلمي يمنح للفضاء أسبقية عن الزمن هكذا تتوزع صور الفيلم بين فضائين: فضاء مفتوح وآخر مغلق هو فضاء المعتقل الذي يرمز إلى سلب الحرية ويحتضن فيض التحرر، وعي الذات والتاريخ داخل ُالانغلاقُ والفضاء المغلق بدل الذي يدل على خطر الإبادة، هكذا يوظف الفيلم كاميرا متحركة تنظم فضاء العرض l'espace scénique: كالتأطير بواسطة اللقطة العامة واللقطة السائرة travelling تمتد من اليمين إلى اليسار والعكس، والتأطير المضاعف décadrage بواسطة الزنازن والأبواب الموصدة التي تمثل فضاءات متنقلة des espace de déplacement يقتصر الفيلم إذن، على لعبة التضاد بين فضائيين داخلي وخارجي ويتم الانتقال من مشهد إلى آخر استنادا إلى الحذف على مستوى الزمن أو المكان. إن المكان أي ُدرب مولاي الشريفُ يختلف بين دلالتين: دلالة مادية طبيعية أو طوبوغرافية تكمن في البعد الجغرافي لهذا المكان وتسهم في تسهيل عملية إدراك الحكاية التي نرويها، حيث يصادفنا اسم المكان منذ عنوان الفيلم أما الدلالة الثانية فأيديولوجية وثقافية وتاريخية، إذ يحيل اسم المكان هنا على فضاء تاريخي أو قومي، إن هذه النماذج الفضائية : ُتصبح القاعدة المنظمة التي بواسطتها تبني صورة العالم نموذجا أيديولوجيا كاملا خاصا بنمط معين من الثقافة، وعلى أساس هذه البناءات تصبح حتى النماذج الفضائية التي تبدع من قبل هذا النص أو ذاك أو من قبل مجموعة من النصوص ذات دلالة،5 هكذا يسهم المكان في تحديد سياق تاريخي واجتماعي وثقافي خاص تدور فيه أحداث الفيلم، وينهض من ثمة بدور الحمال: إنه يحمل الحبكة والبيئة العامة للشخصيات، وكذلك التيمة الرئيسة والشخصيات القطبية في الحكاية. إن السيناريو باعتباره وسيطا فكريا وجماليا، يتبناه المؤلف السينمائي للحكي، والمفصل الواصل بين فكرة الفيلم الأصلية وإخراجه، لم يكتب بهدف الاستحواذ على المتفرج والمتلقي، ذلك أن ُاختيار التيمة وتشغيلها لا ينشأ أبدا عن الإرادة الحرة للمبدع وليسا التعبير البسيط الخاص بدواخله، إن المبدع يتوجه بخلاف ذلك إلى عقول مهيأة.ُ6 إن الحكاية الفيلمية وهي الحكاية بالذاكرة تتغذى من تجربة المؤلف السينمائي ومن تأويله للأحداث التاريخية ومرجعيات السيرة الذاتية التي اقتبس منها الفيلم. إن طرق البحث الفني التي تختلف من فن إلى آخر اعتمادا على اختلاف الوسيط أو السند، تختلف كذلك من فنان إلى آخر، لأن ُالأسلوب ليس مسألة تخص التقنية، بقدر ما تخص الرؤية، وليس للفنان أسلوب إنه الأسلوب ذاتهُ.7 وعليه فإن لكل سينمائي أسلوبه الخاص ونبرته ونظرته الذاتية للعالم. كما أن الأسلوب لا يتحدد لحظة تصوير الفيلم، وإنما أثناء البحث عن الشكل السينمائي لكل لقطة مثلا، ولكل رابط Raccord والتفكير فيهما، إن ما يصنع قوة هذا المبدع أو ذاك (وقدرته) على إنتاج المعنى هو الأسلوب وليس التقطيع التقني بالدرجة الأولى فهل حقق فيلم درب مولاي الشريف فرادة سينمائية؟ وهل خلق له أسلوبا في الكتابة السينمائية؟ وما هي علاقته بمرجعيته الثقافية؟ لقد حاول ا لفيلم تطوير ما يعرف بسينما الذاكرة أو الشهادة témoignage cinéma de بعيدا عن الموضوعات والوقائع الاجتماعية المبتذلة التي تسلب متخيل المتلقي، وهذا مبدأ أساس في الوعي الفني لدى الواقعية الجديدة بإيطاليا. الثورة الرمزية المتمثلة في النبش في ذاكرة الاعتقال السياسي بالمغرب ومحاولة تحليلها تحليلا نقديا، لأن هذا التحليل يمثل ُالواقعية الكبرى.8 إن الجمال الفني le beau artistique في الفيلم يعرض المأساة ويعطيها معنى ومعمل على نسيانها في النهاية، وكأن الفيلم يدشن مسارا تفكيكيا مناهضا للحكاية الواقعية التقليدية، لأنه استفاد كثيرا من حكايات أو حكاية الشخصيات ومن حكاية السيرة الذاتية، وهي أساليب سردية مستقاة من الرواية الحديثة. إن هذه الإرادة الفنية المتمثلة في البحث في الذاكرة السياسية والرمزية الوطنية، هي التي تؤسس قدرة الفيلم على التواصل مع المتلقي ومع سياقه الثقافي والتاريخي، ألم يقل عبد الكبير الخطيبي: إن الفن يعبر انطلاقا من جذوره المحتجبة جدا ويقطف في الحياة المعيشة.9 ألم يثير الفيلم أسئلة حول دور الصورة في بحث موضوع الذاكرة السياسية والأيديولوجية بالمغرب؟ أليست الصورة ذكرى؟ ألا تعتبر الحادثة التاريخية أقوى أنواع الاستيهام الفني؟ أتوجد هناك مجموعة اجتماعية لا تربطها علاقة مع ذاتها ومع تاريخها؟