الكاتب المغربي محمد برادة في ضيافة مؤسسة الكلمة للثقافة والفنون بأسفي اعتبر الكاتب محمد برادة أنه بات من الضروري أن يكون الحوار حول قضايا تهمنا جميعا انطلاقا من واقع التحولات التي نعيشها اليوم، في عالم أصبحت الرقميات والثورة التكنولوجيا حاضرة بقوة. فهل ثمة ضرورة للأدب اليوم، وما هي جدواه؟ يتساءل الكاتب محمد برادة، الذي كان ضيفا على سلسلة لقاءات الشهر، والتي تنظمها مؤسسة الكلمة للثقافة والفنون بأسفي، في لقاء مفتوح حول الرواية والأدب ونقاش مع جمهور مدينة أسفي حول روايته الجديدة "بعيدا عن الضوضاء قريبا من السكات" وهي الرواية المتوجة بجائزة المغرب للكتاب في دورتها الحالية 2015 صنف السرديات والمحكيات. اللقاء، الذي أطره الشاعر والناقد عبدالحق ميفراني، بقاعة أطلنتيد مؤخرا، يندرج ضمن سلسلة لقاءات الشهر والتي أطلقتها مؤسسة الكلمة بأسفي منذ تأسيسها مطلع 2013، في إنصات بليغ لأسئلة التحولات في المشهد الثقافي وانفتاح على الفضاء السوسيوثقافي والإصدارات الحديثة في مختلف الأجناس التعبيرية. واعتبر محمد برادة الأدب اللاجدوى الضرورية لقدرته على تقديم إضاءات جديدة للأشياء وإيقاظ القلق في نفوسنا، وضرورته تكتسي طابعا خاصا بحكم اختلافها على باقي الخطابات، إذ يعتبر المجال الوحيد القادر على تقديم الصراع الأبدي بين الذات، وهي تطمح إلى التحرر للوصول إلى نوع من التوازن لتقيم علاقة غيرية مع المجتمع. ولأنه يركب أجنحة التخييل فهو يوهمنا بأن الحياة يمكن أن تكون بشكل آخر, هذا رغم إشارته إلى أننا نعيش حداثة هشة بفعل تسارع مسارات التحول التي أفضت لظهور قوى أصولية متطرفة وقوى مدنية تعيش الدين في سماحة وشباب يتطلعون إلى التغيير والعيش في عالم جديد. ونبه محمد برادة إلى أننا بعد استقلال المغرب استطاع الأدب أن يعبر عن حالة الشك واللايقين وحالة الانفصام التي بدأت تنجلي بين الفكر السياسي والإبداعي، واستطاع الكتاب أن ينفصلوا عن تلك الأنظمة التسلطية والتي راكمت فشلها طيلة الخمسين سنة الماضية، ويعبروا عن عذابات الفرد. واليوم استطاع الأدب العربي الحديث أن ينقلنا الى مرحلة جديدة في رفضه الكثير مما ورثناه عن الماضي. ويشدد الكاتب محمد برادة، إلى أن ما فشلنا في تحقيقه سياسيا استطاع الأدب والفن أن ينجح فيه من خلال إبداعات الكتاب والفنانين، والتي أمست تمثل نقط الضوء رغم شروط ميلادها الصعبة. وبارتباط بمآلات الربيع العربي، اعتبر الكاتب المغربي إلى أن الربيع استطاع أن يكشف طبيعة هذه الأنظمة التسلطية ومواقفها الخفية. من جهته، اعتبر الشاعر عبدالحق ميفراني، رئيس مؤسسة الكلمة للثقافة والفنون بأسفي عن سعادة المؤسسة باستضافة ضيف انتصر للكلمة المضيئة النيرة التي تسعى إلى إعلاء صوت العقل والنقد والمساءلة والتمحيص؛ وإلى طرح الأسئلة الملحة والمقلقة .. من ديدن هذا المسار المتواصل اليوم، تم اختيار أحد المغاربة الأكثر حرقة بالكلمة وبنبراسها..من قال أن "حياتنا معلقة على حافة الكلمات.."، من عاشوا الزمن المغربي الحديث بامتياز..، من أضاؤوا في هزيع السنوات "العجاف" كوة للخطاب النقدي وأفقا آخر للأدب المغربي، ومن فتحوا آفاق متعددة أمام كتابة تتخلص شيئا فشيئا من طقوس الطاعة، وتتلمس خصوصيتها بانفتاح بليغ عن الكونية والمثاقفة والحوار..من طرز ذاكرة للنسيان، لامرأة من نسيان.. وتلاها حيوات متجاورة وأوقفنا هذه السنة عند بعض من "ضجيجه"، لكن بعيدا .. قريبا من "السكات".. وفي الصمت بياضات يدرك خفاياها ناقد خبير متمرس أجج مسارات الخطاب النقدي العربي، وقعد لمفاهيم ونظريات وحرر وجدان النقد العربي على أهواء حرة دون تعصب ولا انتصار "زائف" لأي مدرسة.. الكاتب محمد برادة، الذي ينبهنا اليوم إلى ضرورة الانتباه إلى أننا نعيش تحولا حقيقيا، وأننا في ذروة هذا المسار الدقيق نحو الديمقراطية، علينا أن نمارس النقد باستمرار، وأن نطور الوعي، أما التغيير فهو قانون الحياة.. تلك الحياة التي يخط حيواتها في رواياته، على اعتبار أنها منبع كل شيء.. تلامس الموضوعات والتيمات جميعها بدون استثناء.. وتفكر في الزمن وتؤوله، وتصحح بعضا من "الأحكام النهائية" التي أطلقها البعض، وتغير بوصلة التشاؤل التي أمست تصدرها خطابات بعينها..إذ لابد للكاتب، يقول برادة أن ينظر إلى الأشياء من مسافة وداخل سياق أشمل.. الرواية تشمل كل مكونات الفرد والمجتمع، لذلك ينبهنا محمد برادة الى تلك التفاصيل التي يهملها التاريخ والى المحافظة على رؤيتنا الثاقبة والعميقة للأشياء لأنها هي التي تجعل الكتابة تنفتح على أفق رحب وأوسع.. محمد برادة الذي خط سنة 1957 قصته القصيرة "المعطف البالي"، كي يؤسس مسارا تشعب بين النقد الأدبي والكتابة القصصية والروائية دون أن ننسى دوره الريادي في الترجمة والتي أطلق سنة 1963 خطوتها الأولى مع زنيبر ومعمري في محاولة للاقتراب من "معركة الشعوب المتخلفة" من خلال اجتهادات فرانز فانون.. وتواصلت مع مشاريع نقدية ومعرفية مكنتنا من الاقتراب من رؤى الخطيبي وبارت وباختين وبنجلون وقصائد اللعبي.. صاحب "سلخ الجلد" والصادرة عن دار الآداب البيروتية، حينها، 1979، هذه المسيرة السردية التي تواصلت من خلال متن روائي خصب امتد من لعبة النسيان وتواصل مع الضوء الهارب ومثل صيف لن يتكرر وحيوات متجاورة وانتهاء بروايته المتوجة بجائزة المغرب للكتاب في دورتها الحالية "بعيدا من الضوضاء،، قريبا من السكات".. محمد مندور وتنظير النقد العربي، أسئلة الرواية، أسئلة النقد، الرواية المغربية، الخطاب الروائي، الرواية العربية، بعض من عناوين هذا المشروع البحثي حول السرد العربي والذي لازال متواصلا الى اليوم.. إذ لا ننسى أننا أمام إشراقة مغربية ساهمت في تقريبنا مبكرا من النظريات النقدية والمفاهيم الإجرائية كما ساهم بجهد لافت في لملمة نظرية سردية عربية،.. واليوم وهو يروم نقل اهتمامه بعوالم الشخصية الروائية فإنه يعبر بنا إلى تجليات هذا الوجود الفردي وهو يحاول بناء رؤاه للعالم. محمد برادة الذي نبهنا مبكرا الى أن "هزيمة 67 قد أيقظت حاجتنا الى "خطاب مختلف، ينبع من الذات المجروحة، ويحفر لها سنن البوح لاستعادة وجودها المتوازي تحت ثقل الحكم الفردي"، ولعل اهتمام الأستاذ برادة بالخطاب الروائي وتحليل أشكاله وتأويل دلالاته يعود بالأساس الى "فسحة من القول تضيء لي معالم من المشهد المشحون بالإيديولوجيات الثوروية، وطبقات الكلام المتخشب، المبشِّر بآمال ستتكشف عن هزيمة 1967 التي أيقظت الحاجة إلى خطاب مختلف". "التاريخ" جزء من أربعة مسارات للنص الروائي "بعيدا عن الضوضاء: قريبا من السكات"، أو لعله التاريخ الملتبس كما تسمه الناقدة زهور كرام، إذ يعكس محمد برادة في كل رواياته سؤال الزمن المغربي الملتبس، خاصة فيما يتعلق بالهاجس السياسي، الذي يسير في الغالب عكس ما تحلم به الشخصيات سواء على مستوى الواقع أو المتخيل. لذلك ظلت روايات محمد برادة مختبرا مفتوحا لأسئلة الكتابة والمتخيل، دون أن يكون هذا الأمر بالضرورة يرتبط في الأساس بمشروع برادة السردي.. يقول محمد برادة إن روايته "بعيدا عن الضوضاء: قريبا من السكات" هي محاولة للإجابة عما عاشه خلال الخمسين سنة التي مرت في تاريخ المغرب، عاش في موقع يلاحظ ليجد أن العلاقة بالزمن لا يمكن أن تكون خارجية، فالروائي يحرض على التفكير في أكثر الأسئلة التباسا. وهذا لا يعني أن كتابة الذاكرة لا تحمل إشارات عن تاريخ آخر هو تاريخ ذاتي ينطوي على بصمات وتفاعلات مع التاريخ العام. الحقيقة، يقول برادة، لا تقتصر على الخطابات التي تزعم أنها تتوفر على الموضوعية! إذن، نحن اليوم أمام تجربة مغربية تعكس في الكثير من مشروعها البحثي والإبداعي والنضالي والجمعوي، الكثير من مسارات ومنعطفات المغرب طوال أكثر من نصف قرن.. تجربة تنبهنا مجددا إلى أن الانفصال الذي تم بين السياسي والثقافي قد أثر بشكل مباشر على الحياة المجتمعية، ولكي تغتني من جديد على هذا التفاعل والالتحام أن يعود محمد برادة، والذي طالما اعتبر أن لا تعارض بين الإبداع والنقد وأن لا ثقافة من دون حرية الفكر والاعتقاد، تعلق دوما بالفكر النقدي وبالترجمة والتي كانت توطد علاقته بالفكر الكوني الإنساني الجديد، وبأدب جديد يتغلغل إلى أعماق المعضلات وينطلق من واقع الذات ليكشف المسكوت عنه، هو ذاته الأدب الذي يرى برادة، اتجاهه أكثر فأكثر نحو التذويت كنوع من التباعد الاستتيقي والذي يحقق للنص خصوصيته ويجعله مستقلا عن باقي الخطابات. محمد برادة دائم التطلع لذاك التخييل الذاتي كي يعطي للكتابة والخيال الأسبقية وليتخذ من فضاء الرواية مجالا للكذب الذي يقربنا من الحقيقة، هو الذي طالما رأى أن سؤال الثقافة العربية هو بامتياز سؤال الرواية. وحين يسأل عن حلمه يقول: "أحلم بكتابة نص يرصد خيبتي وعجزي ويأسي، واشتهائي اللامحدود للحياة والحب والانتشاء.. نص يجسد تجربة عيشي في مجتمع مشطوب الأمل، يستنطق قوة الممكن الصامتة، بتعبير هيدغر". محمد برادة الذي يصر اليوم أن يكتب نقدا مختلفا بعيدا عن الأحكام المسرفة في التعميم والتنظيرات، كما يفتح من خلال سروده انكسارات الزمن المغربي وحالات التشظي التي يعيشها اليوم بين الضجيج والسكات.. بين حالة المابين تجسد اللقاء بالكاتب محمد برادة في لقاء مؤسسة الكلمة، والذي اختارته ليقدم الدرس الافتتاحي لهذه السنة بعدما قدم أحمد بوزفور درس السنة الماضية. وقد حاولت ورقة الكاتب محمد برادة أن تجيب على بعض الأسئلة من قبيل تأمل حالة المابين، فكيف يا ترى يفكر الروائي اليوم، هنا الآن، أمام حالة الالتباس التي تلف مصائر هذا العالم؟ كيف لكينوناتنا أن تسم خصوصيتها وسط هذا المد اللانهائي من حالة اللايقين؟ الى أي حد يستطيع الأدب أن يستقصي جزءا من حالة الشك ويفتح لنا كوة من الضوء في نهاية الطريق؟.. أي وظيفة للمثقف اليوم ونحن رهائن لجدل غريب حول "صاكي"؟ هل إشكالاتنا العميقة اليوم تحولت لفرجات ممسرحة بعناية نشاهدها يوميا في إعلامنا المرئي؟ هل يستطيع الروائي أن يعبر هذا التشاكل والمابين والالتباس واللايقين في منجز إبداعي يتصالح مع خصوصيته؟ هل لنا بخطاب واصف يتجرد من جينيرالات الأسماء، كي يتأمل ويسائل هذا المنجز نفسه، برؤى وحمولة جديدة؟ أم ننتظر ربيعا ثقافيا مؤجلا، يأتي أو لا يأتي، أو لعله بين الضجيج والسكات؟ وهل لازال رهان الحداثة والتعدد قادرا على بلورة رؤية جديدة لمفهوم الأدب؟ وهل تغير مفهوم الأدب اليوم، في عالم يمور بالتحولات وأكثر نزوعا على استنطاق كينوناتنا وأغوارها؟