ظل الصراع قائما ومازال بين أنصار الممثل المستقل وهيمنته (بالفعل المسرحي) وتمفصلاته الدرامية، من دون عناصر العرض المسرحي ومكملاتها وأبعادها الدرامية للخشبة وسينغرافيتها المتألقة مع ذلك الفعل، وبين أنصار تقليص هيمنة الممثل وطغيان عناصر العرض والفعاليات الراقصة أو البانتوميم أو الموسيقى والغناء، فأنصار الاتجاه الأول يعتقدون، أن الممثل هو الأساس في تجسيد الشخصية والحدث وثيمة النص، وأن كل العناصر الباقية هي علامات زائفة ومقحمة على الممثل، بل تشكل عبئا يضيع مركزية الفعل التمثيلي ويجره إلى فنون مسروقة طارئة عليه، إذ يؤكد (كروتووسكي) في طروحاته نحو مسرح فقير قوله"يعتمد المسرح على الولوع بالسرقة الفنية والاقتباس من معارف وبناء مشاهد هجينة يعوزها السند والأمانة وتقدم هذه رغم ذلك على أنها عمل فني متكامل" (1)، ومن دعاة الاتجاه الآخر هو (ادولف، ابيا 1862-1928) الذي دعا إلى زيادة العلامات المسرحية وعناصرها التشكيلية على حساب دور الممثل وفعله المسرحي من خلال"تحقيقه بتقليص دور الممثل إلى دور متحرك لصورة المسرح بإخراج المسرحية إيقاعيا، كان اهتمامه الرئيسي منصبا على الموسيقى والمسرح الغنائي"(2)، ويشاركه في هذا الرأي (ادوارد جوردن كريج 1872-1966) حين أعطى "الكلمات دورا أقل أهمية من التأثير البصري وأن يقلص دور الممثل عمليا إلى جزء من المشهد المسرحي بحيث يكون سهل التحريك والمناورة أى إلى نوع من دمية متقنة" (3)، وهناك من يؤكد مزج الجانبين في تشكيل الصورة المسرحية ووصولها بأمانة وقدرة حسية على استيعاب وإشباع خيال المتلقي وذهنه، إذ يدعو دعاة المسرح التقمصي في العصر الحديث (وبالذات المخرج ستانسلافسكي) إلى التأكيد على وحدة البناء الشكلي (المادي) والعاطفي والحسي والخيالي والانفعالي والإدراكي بواسطة الترابط بين صدق الحواس وتجسيد الشخصية بعلاماتها الأساسية الزمانية والمكانية والاجتماعية والقومية والاقتصادية من خلال دعم عناصر المسرح لها(ديكور، أزياء، إضاءة، إكسسوار)، إذ أن لهذه الاتجاهات المتحولة من الواقع الحياتي إلى الشكل الفني المقصود على المسرح وصدقها، الأساس في قناعة المتلقي بها والتواصل مع مكوناتها الفنية على الخشبة ومقارنتها بما هو موجود خارجها، فلا يمكن أن تكتفي الخشبة بعنصر دون الآخر، أو يكون هناك عنصر هو المهيمن، وتبقى باقي العناصر في حالة التهميش أو المشاركة الضعيفة للفعل المسرحي، إذ أن الممثل لديه الحضور المادي والعلاماتي (جسد وصوت) فإن عناصر المسرح الأخرى لديها أيضا نفس مستوى ذلك الحضور، ويشكل وجودها ارتباطا وثيقا بالقيمة الدلالية للفعل التمثيلي لما ينتجه الممثل من حركة معها ومن خلالها (أي مع العلامة) ، فالعلامة في المسرح لا يمكن أن تتكامل إلا ببعدها الحركي والفكري من خلال الممثل في لفظة وتماسه مع موجوداته وقيمتها الدلالية الحسية والعاطفية. إن أدلجة الفن على حساب الشكل أو النظريات الفنية الداعمة لفكرة الشكل على حساب المضمون أو الشكل على حساب وجود الممثل وقيمته المادية، نظريات تمثل أصحابها في تطرقها وصياغتها لشكل المسرح والصور الفنية له، ولكن المسرح هو تمثيل أو تجسيد متخيل لرؤيا فكرية إبداعية فنية خالصة غايتها التأثير الآني والبعدي بأساليب حتمت وجودها المدنية وصاغتها بأساليب حرفية كالرسم والموسيقى والإضاءة والأزياء والمكياج وهذه الصورة موجودة بالذات في المسرح الواقعي ولكن حتى المسرح البعيد عن الواقعية فإنه لا يستغني عن الممثل وعناصر العرض إلا من خلال إعادة صياغة هذه الموجودات أو العناصر أو شكل أداء الممثل لا غير، فهي لا تؤمن باستقلالية العناصر عن الممثل أو بالعكس فهي مهتمة باتخاذ طريقة أو فلسفة حركية أو فكرية لتجسيد ذلك المذهب بمختلف الأشكال وحتى مسرح (برشت) بالرغم من أدلجته، ولكنه لم يستغن عن الممثل او عناصر العرض المسرحي إلا لكي يؤكد فكرته في (التغريب)، وعند ذلك فإن الممثل ليس بالضرورة يمثل كما في المسرح الواقعي أي إبقاءه في دور التجسيد المحدود المنقطع أو الواسطة أو الراوي أو المعلق أو المراقب للأحداث، فمسرح (برشت) هو منظم للعلاقات وإعادة في صياغة الفعل الحركي والفكري بين الممثل وعناصر العرض أو بينه وبين المتلقي على أساس إيديولوجي وإعادة في رسم الصورة المسرحية وفقا لذلك، وفي مسرح (العبث) تنتظم صورة أخرى في صياغة المشهد التمثيلي على أساس ايصال الفكرة بواسطة الممثل وعناصر العرض وتشغيلها بوعي دون الغور في التجسيد الإلهامي أو التخيلي فهي تؤدي نفس الدور الذي يشغله المسرح (البرشتي) مع اختلاف في الفكر الفني أو الشكلي أو السياسي، فهناك ممثلون يلعبون طوال العرض وشخصياتهم تتحدث وترتدي الملابس وتسلط عليهم الإضاءة والألوان ويقومون بعمل المكياج ويتأثرون بالموسيقى ويستخدمون الإكسسوار وقطع الديكور البسيط والمطابق لفكرة وعلامات العرض، ففي مسرحية (في انتظار جودو) (لصموئيل بيكيت 1906) هناك شجرة وسط الخشبة ساقطة بلا أغصان للتدليل على (اليباس، العطش الروحي، اللأجدوى) وهناك تحتها شخصيتان (استراجون، فلاديمير) ينتظران (جودو) بلا جدوى وهناك من يدخل عليهما بحبل يمسكه (بوزو) الذي يحمل سوطا ويدخن (غليونا) ويمسك (أعواد ثقاب) ويجر (لكي) من رقبته والذي هو بالتالي يحمل (متاعاً) و (حقيبة) فالعلامات موجودة في كل مكان والممثل يتحرك على مساحة الخشبة ويتعامل مع الإكسسوار والديكور وباقي عناصر المسرح، أما العرض في المونودراما فإن الممثل فيه لا يمكن أن يتخلى عن عناصر المسرح وموجوداته بأي شكل من الأشكال من دون الإفراط في استخدامها، وعمل موازنة بينها (توزيعها، أحجامها، ضروراتها) وبين حركته وسهولة حملها أو تغيير علاماتها والتعامل معها بلا إعاقة حركية، إذ تشكل هذه الموجودات وعناصر العرض مساندة مهمة لتصورات الممثل وشخصيته الرئيسية في استدعائه للشخصيات المشاركة في أحداث المسرحية من خلال جلبها وتصوريها بواسطة (الحلم أو الهلوسة أو الخيال) حيث تؤدي (الإضاءة واللون والموسيقى والمهمات المسرحية) أساليب خداعية للاستعانة بها في إتمام هذه المهمة فالفعل الحركي الديناميكي لجسد الممثل في المونودراما يحتاج لتماس مع تلك الموجودات عناصر العرض الأخرى لينتج علامات لتضخيم الحدث (دراميا) والمبالغة فيه. بحدود الإقناع والتأثير أي زيادة نسبة التكوين الحركي والحسي عنه عند الممثل في العرض التقليدي. فكل عناصر المسرح مكونات علاماتية تتداخل مع العلامات التي يصنعها الممثل (إضافة إلى كونه علامة مستقلة) لتشكل علامة أخرى مرمزة تعطي دلالات وفق السياق الحاصل لأحداث العرض الدرامية من خلال امتزاج عنصر واحد أو أكثر مع تلك العلامة (علامة الممثل) ودلالاتها، فاللون علامة ذات دلالة مهمة تنشأ مع فكرة الممثل وشخصيته في استخدامها للدلالة على شيء ما (حزن، فرح، غضب، دم) إذ تبرز تلك الدلالة في صياغة الحدث ومعناه، فاللون الوردي أو البنفسجي يدلان على (الحلم) للوصول لما يحدث في داخله من هلوسات تكشف فيه الشخصية عن أسرار متوارية في دواخلها اللاشعورية، وكذلك فإن الزي (هوية الشخصية) أو الديكور (مكان عيش الشخصية) فإنهما يدلان على هوية الشخصيات وبعادها وانتمائها ومنع التداخل والتفريق فيما بينها وكذلك معرفة زمانها ومكانها، وكذلك الموسيقى التي تعبر بها عن فشل تلك الشخصيات وغضبها وفرحها وحزنها وما آلت إليه. (1) كروتووسكي، جيرزي، نحو مسرح فقير، تر: كمال قاسم نادر، (بغداد: دائرة الثقافة العامة، 1986)، ص 17. (2) تيلر، جون رسل: الموسوعة المسرحية،ج1، تر: سمير عبد الرحيم،(بغداد : دار المامون، 1990)، ص 32. (3) المصدر نفسه، ص 147-148. د. سامى الحصناوى (أستاذ التمثيل والإخراج كلية الفنون الجميلة / جامعة بابل )