في حوار مع الفنان التشكيلي عبد الكريم الازهر في مقاربة لعبة اللون والضوء والظلال والزوايا والرموز، يتمتع الفنان التشكيلي المغربي عبد الكريم الأزهر بلمسة خاصة وقدرة استثنائية على اختزال العوالم، وإعادة صياغة المادة التشكيلية وفق مشروع واع، ينتصر للإنسان وقيمه الأصيلة في كون متحرك. في مدينته الأثيرة «أزمور» كان لقاء مع الفنان عبد الكريم الأزهر، مدينة عشقها فاتخذها قلعة يطل منها على عالمه التشكيلي الخاص الذي يجمع البحر بالغابة والنهر والتاريخ والصوفية، في نسيج بديع: مدينة أزمور أنجبت أكبر عدد من الفنانين التشكيليين المغاربة رفقة مدينة الصويرة. ما السر الكامن خلف هذا التميز؟ تنقلت بين مدن مغربية وعالمية شتى، لكن أزمور ظلت ببساطتها وتعددها الجغرافي وسحر أمكنتها التاريخية وطيبة أهلها واحتضانها للثقافات المختلفة وانفتاحها على الأطلسي، تمارس على مخيلتي سلطة ثقافية وجدانية، ومهما سافرت وابتعدت، تظل تشدني إليها، وتجذبني بسحرها الآسر. إنها تسكنني قبل أن أسكنها. لقد وجدت فيها ذاتي، ووجدت ذاتها في وها نحن نتساكن، لنحول معا هذا العشق الأسطوري إلى منجزات فنية تستحضر المكان والزمان والتاريخ العبق الذي تظل روائحه تؤثث فضاءاتها (أزمور) والجغرافيا وسيرة الإنسان هنا. تلقيت تكوينا أكاديميا في مجال الفنون البصرية. ما أثر هذا في حياتك الفنية، وما موقع الفطرة في تجربتك التشكيلية؟ كنت في طفولتي مولعا بالرسم والتصوير. وفي المدرسة كنت في غفلة من المدرسين أعكف على الرسم على ورق الدفاتر بقلم الرصاص والملونات وعلى اللوحة بالطبشور. وفي البيت كنت أمارس هوايتي المفضلة بعيدا عن أعين الأسرة، خاصة أبي الذي كان يستشيط غضبا لما يجدني عاكفا على الرسم، بحكم أنه كان يعتبره لعبا ومضيعة للوقت. لقد قاومتُ سلطة التقاليد والمؤسسة الأسرية المتحفظة من الفن، لمّا تخرجت من المؤسسات الفنية الأكاديمية، اجتهدت لأنحت مساري الشخصي بعيدا، حيث ركزت على الممارسة التشكيلية عبر اعتماد الشعور واللاشعور في محاولة لنسيان ما هو أكاديمي حتى يتسنى لي الإفصاح عن مكنوناتي الذاتية. لقد حرصت على التشبع بالمرئي من الواقع، وتركه يختمر في المخيلة، لأحول جوهره فيما بعد إلى لوحة تشكيلية مختزلة. عرفت تجربتك التشكيلية -حسب ما هو ملاحظ- مراحل متعددة، لمشروع مطرد التحول والتطور. كيف تفسر ذلك؟ عرف مساري الفني عدة محطات: الأولى اتخذت فيها ملمح إنسان بلا ملامح، اشتغلت على الإنسان، بغض النظر عن جنسه أو سنه كموضوع للوحاتي ومشروعي التشكيلي، غلبت القتامة والسواد على هذا العالم الذي انبثقت عنه شخوص تتحرك وتتعايش في مربعات عمودية وأفقية بإيقاعات أحادية اللون. وتدريجيا بدأت تلتئم داخل المربعات رموز تؤثث الفضاء إلى جانب الإنسان تتجسد في شكل أسهم وساعات. ومن خلال هذه الإضافات وجدت نفسي أنساق في تجربة أخرى، عُرفت بغزارة الألوان وتدرّجها من حيث خاصيتيْ السّيولة والمحو، فغابت ملامح الشخوص وبقيت الأرقام. وفي المرحلة الثالثة، أقحمتُ العيون في أشكال وتركيبات مختلفة: وسط مربعات، نوافذ، جاعلا منها وجوها حركية تخلقها عمليتا التجاور والتنضيد، لكن هذه الوجوه تظل بلا ملامح تتحرك وفق منطق الطبيعة الميتة، وألحقت بالعين، فيما بعد، نبتة لتُجاور الإنسان الطبيعةُ. وفي كل الأحوال، يظل الكائن الآدمي محورا، لكن المؤشرات الدالة عليه تتحول تبعا لسياقات الوعي الفني ودرجة التفاعل مع الطبيعة والعالم وخصوصيات المرحلة التاريخية المعيشة. هل ترى أنّ الفن التشكيلي قادر على المساهمة في خلق حركية مجتمعية إيجابية في عصر التهافت على الماديات ونكوص القيم؟ نحن -شئنا أم أبينا- نعيش داخل محيط اجتماعي وثقافي واقتصادي نفعل فيه وننفعل به، ولا يمكن بتاتا أن نفصل بين ما ننجز من إبداعات وواقعنا المعيش لأنه المحرك الأساسي لعملية الإبداع، فهو الذي يلهب الأحاسيس والوجدان ويؤجج طاقتنا الداخلية ويسوقها نحو التفجر حيث تتعين صياغتها في ألوان تشكيلية. ومع أن الاتجاه الرسمي لا يؤسس -مع الأسف- سياسة تنموية تقوم على اعتبار ما هو فني، وتراهن عليه فإننا لن نستسلم، ونظل ندافع عن القيم الإنسانية الجميلة بكل ما نملك من طاقات، مراهنين على تعديل السلوك الثقافي عبر تأجيج الحس الجمالي في الناشئة، ولو أن الفعل الثقافي بطيء على مستوى الانتقال. إن أعمالي التشكيلية كلها تحمل قيما تربوية وجمالية مستبطنة، ذلك لأنني أركز على البعد التّواصلي فيها، وأن يكون المتلقي شريكا في البناء والفهم والتساؤل. وأحرص باستمرار على أن يكون للعمل الفني غاية أساسية تتمثل في إعادة خلق عوالم تشكيلية، ومن خلالها إعادة خلق المرئي في الواقع بصيغة جمالية. أصبحت مؤخرا تميل إلى توظيف الأشياء الهامشية والمهملة في بناء العمل الفني كمتكآت وأسناد. كيف تفسر ذلك؟ أنا لا أشتغل عبثا، بل لي رؤية ومنهج واضحان، وأعمل بمعرفة واعية. لذلك فكل ما أوظفه له دلالته في التجربة التشكيلية، فأنا لا أعير اهتماما لقيمة الحوامل، بل لدلالتها الرمزية. فأنا أدخل في عملي مواد بسيطة قد لا ينتبه إليها العابر، مثل كيس الإسمنت المرمي وصفحة من صفحات جريدة مهملة أو كراسة تلميذ ملقاة في الشارع. قد أعمل بواسطة قلم رصاص، أو قلم حبر جاف، أو حتى قطعة من فحم وغيرها، والهدف من وراء هذا الاختيار تمرير رسالة رمزية إلى المتلقي، وذلك بدعوته إلى الاهتمام بجمالية المكان والحرص على نظافة المدينة والمحيط والمساهمة في الحفاظ على جمالية المنظر العام. أريد أن أنبّه الناس على أن النفايات التي تتهدد بيئتنا، يمكن أن نجد لها صيغا تشكيلية لتحويلها إلى أشياء فريدة ذات بعد جمالي عبر ما يسمى إعادة التدوير. ما تقييمك للمشهد التشكيلي المغربي، في ضوء غياب ثقافة المساءلة والنقد البناءين؟ الساحة المغربية تزخر بأسماء لها حضور عالمي وسمعة رفيعة المستوى، سواء من خلال الوعي بالنزوع التشكيلي ورسالته أو من خلال تمثل الظواهر والأدوات الفنية، أو من خلال الرؤية للعالم، بالرغم من عدم قدرة التجارب النقدية على مواكبة كل منجزات المشهد التشكيلي وتقييمه، ومساعدته على تطوير آليات عمله. وهذا لا يعني عدم وجود نقاد مغاربة يشتغلون في صمت، ويراكمون ويجتهدون مثل بنيونس عميروش وإبراهيم الحيسن وشفيق الزّكاري وسعيد حسبان وغيرهم.