لايمكن أن تزور أزم ور بمعالمها التاريخية دون أن تستحضر أوليائها ومجانينها وحكمائها الذين يشبهون رسل دون رسالات.. قبل أيام كنت رفقة زملاء لي نستكشف تلك الفاتنة التي تتوسد نهر أم الربيع بنقائه اللامتناهي وزبده الأبيض الذي لن يكون سوى شاهد على انشغالات لاتنتهي.. وفي لحظة كان كل منا يقرأ حظ تلك الحاضرة المتعثر كان عبد الكريم الأزهر وحده يحمل كيسه الذي أعتاد أن يحمله كل شمس كحكيم طرده نيرون من مملكته قبل حرقها. اعتاد أن يبحث عن الخام من حيث الشكل واللون والخط ليس داخل مرسمه، ولكن بالشارع العام ليعيد الاشتغال عليه كورق مستعمل، لأن الأزهر يرى فيها أشياء أخرى لاترى بالعين المجردة. عندما يضعها في مرسمه يستنطقها بلغته الخاصة لتتحول من خام إلى أشياء ذات جمالية خاصة. في معرضه الأخير الذي يحتضنه المعهد الفرنسي بالجديدة سلك طريقا جديدا يتخذ فيه من الشخوص ذات الأشكال المختلفة، تيمة أساسية والتي اشتغل عليها منذ سنوات وهي ذات الشخوص التي أصبحت ترافقه أينما حل وإرتحل كظله الثاني تظهر ملامحها وتختفي من لوحة إلى أخرى، يطوع فيها البعد الرمزي لمدينته التي عشقها بهوس وجنون يرسل من خلالها رسائل مشفرة لا تقرأ إلا من خلال ألوانه المنتقاة برقي كبير لقد ظل الأزهر مصرا على التأريخ للعلاقة بين المرأة والرجل في بعدها الإنساني يترك للمتلقي والمتفحص بعين فنية إمكانية القراءات المتعددة. حرص عبد الكريم الأزهر على أن يتقاسم ولوحاته الشخوص التي تميل وتنحني وترتاح مؤقتا، وكما أن أزمور ظلت دائما هواءه الذي يتنفسه حيث كان لسنوات طويلة متأثرا بأحوال مدينته التي تحولت من مدينة الى ما يشبه الحاضرة، وكما لآزمور ناسها البسطاء، فإن عبد الكريم قادته الى الإشتغال على مواد بسيطة وقد لا ينتبه إليها العابر، مثل كيس الإسمنت المرمي، وصفحة من صفحات جريدة، قرئت أم لم تقرأ، أو كراسة تلميذ مهملة، يهدف من ورائها إلى تمرير خطاب رمزي يدعو إلى النظافة نظافة المدينة والمحيط والمساهمة في الحفاظ على البيئة، وبالتالي فإن هذا الحكيم يتحمل منذ سنوات رسالة بيئية عجزت المؤسسات الرسمية عن الوفاء بها ولو محليا.. الأزهر يشتغل على أشياء بسيطة، وقد ينتج لوحة من ورق كيس الإسمنت المرمي على قارعة الطريق، أو غلاف كراسة تلميذ تخلص منها، أو عبر قلم رصاص، أو قلم حبر جاف، أو حتى قطعة من فحم. المهم هو ما يقدمه الأزهر عبر لوحاته التي يركز فيها على أدق التفاصيل التي يستوحيها من معين طفولته الزمورية. كحكيم استطاع عبد الكريم الأزهر، أن يجعل أعماله ذات رمزية تعبيرية، وذلك بجعل البعد الجمالي ينصهر بالتعبير في اللوحة ليعبر عن الفكرة على اعتبار أن لعبد الكريم أيمان قوي بأن للفن قيمة تواصلية . وحريص باستمرار على أن يكون لأي عمل فني نتيجة حتمية تتمركز في إعادة خلق الكائن الانساني ومن خلاله إعادة خلق الحياة، لأن الازهر استطاع أن يحمل رأسه بين يديه عندما كانت تسكنه البيضاء قبل أن تستقطبه الجديدة التي لم يألف إيقاعها، فقرر الركون إلى صمت مدينة الحكماء أزمور. ليدخل بعد ذلك إلى عالم آخر بحثا عن مكونات جديدة حيث سعى إلى توظيف الرموز في شموليتها كالجسد، الرقم ،النافدة ،الشجرة وأشياء أخرى، إلا أن تجربته الأخيرة تتميز عن سابقاتها بدلالات عدة، حيث يرحل الجسد إلى عالم آخر، لم يعتر الأزهر سوى على وجهه الذي يشبه القناع دون شفاه كتعبير عن حالة من الصمت . وهو الصمت الذي عوضه بقوة العين الجاحظة التي تضاهي اللسان في أزمنته........إنها مرحلة تؤرخ لترحال الذات . بهذا يكون عبد الكريم الأزهر في أعماله الجديدة التي تعرض حاليا بالمعهد الفرنسي بالجديدة الى غاية 29 فبراير كحكيم يقودنا باستمرار لقراءة واقع متجدد باستمرار.