شارك الفنان التشكيلي مصطفى النافي مؤخرا بجديد أعماله الإبداعية ضمن فعاليات البينالي الدولي للهندسة المعمارية بمدينة البندقية الإيطالية بمبادرة من جمعية البحث الثقافي والبيئي وبتعاون مع جمعية لوكولونيت الإيطالية. في ما يلي تأملات حول تجربته الفنية ذالتي تزاوج بين البحث و التجريب: يندرج اسم الفنان التشكيلي مصطفى النافي (مواليد 1954 بالقنيطرة) ضمن قائمة الموجة الجديدة في الفن المعاصر، فقد زاوج بين التكوين الدراسي (الدبلوم التقني للفنون التشكيلية بالدار البيضاء، خريج المركز التربوي الجهوي، شعبة الفنون التشكيلية) و العمل الجمعوي المنخرط في قضايا الفكر و الثقافة الجماليين (مهتم و باحث في سيكولوجية رسوم الأطفال، رئيس سابق لجمعية أساتذة الفنون التشكيلية، رئيس سابق لجمعية لمسات للتشكيل، عضو مؤسس لمجموعة الفنانين التشكيليين الباحثين، عضو الموجة الجديدة للتشكيل). منذ عام 1979، ترسخ ميثاق الفنان مصطفى النافي على مستوى المعارض الفردية و الجماعية داخل المغرب و خارجه، إذ خاض مغامرة بصرية فريدة من حيث طبيعة المواد و الخامات التشكيلية التي خبر كيمياءها في حضرة الصناع الحرفيين الذين قاسمهم همومهم الجمالية و إكراهاتهم المهنية. فكانت الحصيلة لوحات ليست كاللوحات : فضاءات مؤطرة على سنائد خشبية تخترق في أبعادها البصرية حدود التصوير الصباغي و العمل النحتي معا. إنها لوحات خارج الإطار المتداول في الأعراف التشكيلية الكلاسيكية و الحديثة. لوحات منذورة للفراغ كمعادل موضوعي للسواد الذي سكن هذا الفنان، و شغل ألوانه و أشكاله و مواده. لكنه فراغ، بتعبير الأديب إدريس عيسى، ذو شكل و يمثل في صور شتى كما لو كان وجها آخر للمادة ذاتها. هكذا، يحتفي الفعل التشكيلي في بلاغته العامة بالجغرافيات اللانهائية القائمة على امتداد الفضاء المتاهي ذي الأبعاد الهندسية على الطريقة اللاأقليدية. ينزاح الفنان مصطفى النافي عن الصيغ المسكوكة على مستوى إعداد و إنجاز الأعمال الفنية، فهو يؤسس لتجريد موضوعاتي قائم على صراع التضاد الذي تضفي عليه ثنائية الفراغ و الامتلاء عمقا حركيا. يقول في هذا السياق : «أنا أشتغل على الفراغ المتعدد الذي يؤطر الفراغ الكوني في أقانيمه المتعددة. فما يهمني، بالأساس ، هو البعد الخفي للكائنات و الأشياء الذي يتجاوز أقيسة الزمان و المكان. في حضرة الفراغ نتمثل جيدا العمق اللامتناهي الذي يسم المسافة القائمة بين الذات و الأشياء، و هذا ما يتيح بشكل سلس و بليغ حرية الفعل و حرية الحركة معا. إن لوحاتي الفنية ذات بعد ثالث يتخذ من الفراغ عنصره البنائي. ها هنا ، يصبح الفراغ عنصرا تشكيليا لا مجرد مفهوم ذهني. لقد حاولت في ضوء مغامرتي البصرية الجديدة أن أوظف الإطار بشكل جمالي، حيث تحول من مستوى الحامل إلى مستوى البناء التشكيلي ذي التداعيات البصرية المكثفة. فخارج كل الحدود الأفقية و العمودية، يحتفي عملي الفني بالتشكيلات الدائرية على إيقاع الصفائح الخشبية التي تنزاح على الإطار المعهود بنفس حداثي يحيل الباحثين و المهتمين على فن الديزاين. فأنا من صفوة الذين تأثروا في تكوينهم الإبداعي بمدرسة الباوهاوس، حيث تفاعلت مع عدة حرفيين ، و استأنست بعوالمهم الإعدادية و الإنجازية. في حضرة هذه التجربة الجمالية و الوظيفية معا ، مارست الإبداع بأياد متعددة، و زاوجت بين الطرق القديمة و المسالك الحديثة.». كانت بلاغة الأبيض و الأسود هي النواة البصرية الأولى التي تسم المنجز الأيقوني لدى مصطفى النافي، و تحكم بنياته التشكيلية و إبدالاته البلاغية. حدث هذا المشروع الفني عام 1979 بالقنيطرة، حيث وظف تقنية الحبريات الصينية (يتذكر رفيق دربه المبدع بنعاس الذي يقيم حاليا بكندا) ، مما سيفتح في ما بعد عدة آفاق على مستوى مقاربة الصورة التشكيلية بكل هواجسها التقنية و الموضوعاتية. في تجربته المعاصرة، يتداخل أفق النظر مع أفق الدلالة الذي أثرى إرسالياته البصرية، و خلخل أبعادها الثابتة. ففي كل لوحة ، ندرك عدة عتبات و نتمثل عدة أنظمة نوعية. هكذا، تتسم أعماله الفنية بالانسياب الدلالي و تعدد المدلولات (La polysémie) ، فهي تتجاوز كل منظور مجابه، و ترحل بالمتلقي البصري نحو إطارات بصرية غرائبية تثير النظر و التساؤل. ما أكثر العلامات و الرموز الشذرية التي تشغل حيزا فضائيا بليغا على امتداد أعمال الفنان مصطفى النافي (يعيش و يعمل حاليا بالقنيطرة). علامات تشكيلية مستقلة لا تنهض كبنيات غرافيكية مستهلكة. إنها تخضع لتصور إخراجي يحمل مقصديات المبدع ذات النزعة التحديثية المسكونة بهم خلخلة التركيب الكلاسيكي للوحة كسند بصري مألوف، طارحة القيم البصرية للفراغ و السواد كحامل جديد و مغاير بامتياز، مستدرجة النظر الجمالي إلى وضعيات تواصلية مربكة و إشكالية. إن التحليل التضميني لأعمال مصطفى النافي يفضي بنا إلى تمثل عدة شفرات مقترنة بالأشكال البصرية الحركية التي جعلت من البنية التركيبية إطارا بصريا مرنا خاضعا للتشذير و التقعير، مما يوحي ، دلاليا ، بدينامية العمل الفني و سلاسة الفضاء الصوري. لعمري إن الفنان مصطفى النافي صاحب مشروع جمالي بالمعنى الشامل للكلمة. فهو يحتفي بحظوة الصورة الفنية التي تصلنا بالرعشة الأصلية للوجود و بنكهة مصالحتنا مع الذات (لا ضياعنا كما يقر بذلك الباحث الوسائطي ريجيس دوبري في معرض حديثه عن الحظوة الفنية). أدرك جيدا الفنان مصطفى النافي جوهر سؤال الحداثة البصرية في ضوء قضايا «التأصيل» و «التراث» ، مقتديا بتجربة الأب الروحي لمدرسة الباوهاوس الألمانية والتر غروبيوس. فقد طوع السند الصباغي (اللوحة) الذي يعتبر ملكا مشروعا للثقافة الإنسانية، موظفا تقنيات و أساليب حداثية أخرى طبقا لما يقتضيه هاجس البحث و التجريب الذي نظر له الباحث الجمالي المغربي عبد الكبير الخطيبي في سياق مقاربته البنيوية لتزاوج النظر (الازدواجية التصويرية). إنه يدرك مأساة الثنائية الوهمية (تراث/حداثة)، و يؤمن بأن هوية الإبداع البصري تستمد من ذات و هوية المبدعين بالنظر إلى إحساسهم الانطباعي، و متخيلهم الفردي، و ذاكرتهم البصرية. سبق للناقد خليل المرابط أن نوه كثيرا بتجربة الفنان أحمد الشرقاوي الذي اعتبره مبدع التمازج الثقافي التشكيلي المغربي الذي و ظف حماسه و انفعالاته الوجدانية في المزج بين المتضادات ، و في التذويب الديناميكي للقيم و التعابير» (مديح التجربة التشكيلية المغربية). و الحال إن هذا الاحتفاء جدير، أيضا، بتجربة الفنان مصطفى النافي الذي ساهم من موقعه المزدوج (المبدع و الفاعل التربوي) في تحديث الممارسة الصباغية بالمغرب، و إغناء صيرورتها شكلا و رؤية رغم إكراهات و تحديات زمن الصورة بتقنياتها ما بعد حداثية التي تسم حاليا مجتمع الاتصال المعولم. مصطفى النافي من صناع الصور الجريئين الذين لا يقتصرون على تغيير سنائدهم فحسب، بل تراهم ينخرطون في أسئلة التجريب التشكيلي بوعي نقدي مزدوج يوافق بين التنظير و الممارسة معا. إنه يقوم بنقد الأصول و الجذور و مساءلتها ، لأنه يدرك بأن إلغاء مقام المساءلة هو في حد ذاته حياة بلا تراث و بلا حداثة و بلا فن. ألم يكتب أدونيس : «الحداثة هي بالضرورة انشقاق و هدم من حيث إنها تنشأ عن طرق معرفية لم تؤلف، و تطرح قيما لم تؤلف. إن الانشقاق جزء عضوي من الوحدة ، لا يجوز أن نخاف منه، و الهدم وجه آخر للبناء» (النص القرآني و آفاق الكتابة). تحية لك، أخي مصطفى النافي ، فقد أسست لحداثتك البصرية دون أن تستعيد حداثة غيرك تحت يافطة «الحداثة المضمرة». مارست الحق في الحلم و الاختلاف معا، و قاربت تشكيليا مفاهيم الكثرة، و التنوع، و التحول، و التفتح المستمر، و اللانهائية.