مرت الذكرى المئوية لوفاة جان جوريس مر الكرام، ربما لأن الذكرى صادفت بداية عطلة غشت الصيفية، والتي تكون أخبارها خفيفة كفسح صيفية شاطئية، بين حمام شمس ولحظة سباحة لا تستحمل الكثير من النقاش الجدي العميق حول ماهية السياسة وتجلياتها ومساءلة الذات الاشتراكية حول مساهمة الرجل وقوة رمزيته. حتى في فرنسا، بلده الأصلي، كاد الخبر يتوارى بخفة وراء حادثة قطار وتحطم طائرة... فلماذا التوقف عند هذه الذكرى؟ فرغم أن جان جوريس لم يمارس قط مسؤولية حكومية فقد كان شخصية سياسية محورية في الفكر الاشتراكي بفرنسا. وعرف بقدرته على التوليف والتركيب Homme de synthèse وكان إصلاحيا منصهرا في مشروع التغيير الاجتماعي العميق. كما كان لديه هاجس تنمية الاشتراكية الدولية وانفتاح الفكر الاشتراكي على الآخر، دون التنكر للهوية الوطنية. كما كان من المدافعين الأشداء عن قيم الجدارة والاستحقاق المبنية على تقديس الجهد وأولوية المعرفة في مواجهة الانتهازية والوصولية في السياسة. وما أحوجنا اليوم لهذه النفحات الإصلاحية ولهذا الفكر الاشتراكي المنفتح والمتنور، والذي يحيلنا عليه مسار جان جوريس بعد قرن من اغتياله في 31 يوليوز 1914 قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى... وقد يحق لكل مكونات اليسار أن تطالب بحقها في إرث جان جوريس الفكري والسياسي إما من زاوية مناهضة الأمبريالية أو من زاوية الإصلاح المرن.. إلخ. لكن شخصية جان جوريس متعددة الأوجه ومعقدة التركيب والتحليل تنيرنا حول شخصية سياسية متنورة مقدسة للعمل وللجهد النضالي... تعايشت مع متطلبات عصرها بمرونة وانفتاح... فكان بيداغوجيا في قراءته للواقع، غير عاطفي، ينبذ الشعبوية والسطحية في التحليل السياسي. كما كان جان جوريس يضع العمل السياسي في محك مع التحولات العميقة للمجتمع، يحلل تفاعلاتها ويبلور حولها حقائق جديدة... فهو لا يتنكر للواقع ولا يرميه جانبا، بل كان ينطلق منه ليجعله إطارا لفكرة إصلاحية أكثر طموحا، جاعلا المصلحة العليا للوطن فوق كل اعتبار. فمن يجرأ اليوم على محاكاة جان جوريس في فكره الإصلاحي؟ ومن يدفع التفكير إلى أبعد من زواياه البسيطة ليحلل ويبلور أفكارا جديدة حول ما نعيشه اليوم من تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية وبيئية عميقة؟ ومن يجرأ اليوم على حمل مشروع طموح يسائل العولمة الجارفة: هل هي باقية متجدرة أم آيلة إلى زوال؟ وهل فكرة «دولة الرفاه» Etat providence تحتاج إلى عملية تجميل بسيطة أم عميقة؟ ومن سيجرأ على مساءلة دور الاقتصاد والمال المتنامي، وكيف أن «الانتهازية» عززت قوة المال ونفوذه؟ فوراء النبرة الاحتفالية بجان جوريس وبذكراه... تحوم ظلال الحنين إلى خطاب سياسي واضح وصريح ومتماسك.