هذا الكتاب ولد عن فيلم يرصد نصف قرن من مسار سياسي وشخصي لصاحبه، الكتاب هو نقل كامل لعشرات الساعات من الحوارات التي تم تكثيفها حتى تستجيب لإكراهات وقت البت التلفزي، لكنه يحتفظ بتلقائية وأمانة الحوار الأصلي، ولو أنه خضع لإعادة كتابته حتى ينتقل من الحوار الشفهي إلى الشكل المكتوب، وبالتالي فهو أكثر ثراء ودقة في الوصف وأكثر عمقا في تحليلاته من صيغة الفيلم (الذي ثبته قناة فرانس2 في يناير 2010 في حلقتين من 90 دقيقة). الكتاب ليس مذكرات لصاحبه، ولكنه سرد لحياة وبالأخص حياة سياسية، لشخصية نمت في قلب التاريخ الحديث للاشتراكيين ولليسار في فرنسا. نكتشف فيه ليونيل جوسبان الشاب المولع بالرياضة والكتب والسينما، ثم المنخرط في أحداث عصره ومعانقة المثل الثورية ثم الدبلوماسي والأستاذ... ثم إلى جانب فرانسوا ميتران ومع الاشتراكيين وكيف تعلم ممارسة السياسة بهدف تحقيق التقدم والعدالة وعبر الوصول إلى السلطة بالسبل الديمقراطية. ثم كاتبا أول للحزب الاشتراكي، فوزيرا للتربية، ثم مرشحا للرئاسة سنة 95 وكيف استطاع إعادة الحزب الاشتراكي إلى الواجهة بعد 97 وحكم كوزير أول لمدة 5 سنوات وكيف تقاسم انكسارات وانتصارات الاشتراكيين في فرنسا. انخرطت في الحزب الاشتراكي في نهاية سنة 1971، بعد أشهر على مؤتمر إبيناي الذي بقي غامضاً بعض الشيء بالنسبة لي. شجعني على الالتحاق بالحزب الاشتراكي، عندما رأيت ملامح التوجه الجديد للحزب ترتسم، واستراتيجيته لوحدة اليسار، وبروز شخصية سياسية قوية في شخص فرانسوا ميتران. وفي النهاية كنت قد غادرت الوظيفة السامية وأصبحت أستاذا من أجل أن أستعيد استقلالية حياتي وحرية الالتزام. ولأول مرة يفتح أفق سياسي يمكن أن يسمح لي بملاءمة قناعاتي كرجل يساري وتكويني العملي. جدبتني في نفس الآن بداية تجديد الحركة الاشتراكية وأيضاً استراتيجية تجميع القوى الشعبية والتحالف مع الحزب الشيوعي. كنت ضد الستالينية ولم أكن ضد الشيوعية.ثم اغراني أمل بديل عن اليمين الذي يحكم منذ مدة طويلة. وشخصية فرانسوا ميتران لم تشكل عائقاً بالنسبة لي، بل كانت أحد أسباب انخراطي. صحيح أن ميتران، بعد أن كان أحد محرري تونس والمغرب وافريقيا السوداء من الاستعمار، زاغ في نظري إبان حرب الجزائر كان وزيراً للداخلية ووزيراً للعدل خلال الحرب لكن موقفه كمعارض شرس منذ 1958 ورفضه الانضمام الى الجنرال دوغول بطريقة انتهازية كلها عوامل جدبتني، إضافة الى أننا بدأنا نلمس قدرته العالية على التعبير السياسي... خلال الانتخابات الرئاسية سنة 1965 صوتت لصالح ميتران، حضرت تجمعاً أو تجمعين انتخابيين. وإذا كانت هذه الانتخابات بدون تردد نواة التجميع الذي سيحدث لاحقا، فإنها لم تكن حاسمة في اختياراتي. وفرانسوا ميتران يبقى في تلك الفترة مجرد نواة حرة، ولو أنه جسد تحالفاً انتخابياً لقوى اليسار ضد دوغول. لم يكن يقود قوة سياسية كبيرة تكون جدابة في تصوري من الناحية السياسية... لم أنخرط في سنة 1971 إبان مؤتمر إبيناي ربما بسبب هذا الغموض (ميتران يترأس تحالفاً يضم تيارات من الجناح اليميني للحزب يقوده غاستون دوفير إلى يساره بقيادة جان بيير شوفينمان). لكن بعد الأشهر الموالية عندما بدأ الحزب الاشتراكي يبلور برنامجه «لنغير الحياة» لسنة 1972 ثم توجه نحو برنامج مشترك مع الحزب الشيوعي والراديكاليين اليساريين. أصبحت النظرة والاستراتيجية السياسية واضحتين، وتثيران اهتمامي. وبعدها انخرطت... انخرطت بكل حرية في الحزب الاشتراكي كان ذلك قراري، ولو أن لي ارتباطات مع التروتسكيين، ليس في الأمر بالنسبة لي أي تناقض، لأن الارتباطين يقعان على مستويات مختلفة، وكنت أتحدث مع قادة الحركة التروتسكية عن نيتي الانضمام الى الحزب الاشتراكي، ولم يكن هؤلاء القادة يبدون تحفظات على ذلك، بل كان بعضهم مهتماً بالأمر.... فالتروتسكيون لهم تقليد قديم في «الاختراق»، ولاسيما داخل الاشتراكيين الديمقراطيين الذين كانوا يريدون التأثير فيهم ودفعهم أكثر إلى اليسار. وقد تطورت مواقف الحركة التروتسكية الى حد أنها ساندت سنة 1981 فرانسوا ميتران في انتخابات الرئاسة، كما أنه كان لهذه الحركة، على المستوى النقابي، ولاسيما من خلال القوة العمالية (FO) علاقات مع الحركة الإصلاحية... ويمكن القول، إن إدانتهم للستالينية وعداء الحزب الشيوعي تجاههم جعلهم أقل بعداً عن الاشتراكية الديمقراطية. وربما ينطبق نفس الشيء على حركة تروتسكية أخرى وهي الرابطة الشيوعية الثورية التي كانت تستعمل تقريبا نفس الخطاب. لم يكن هذا هو المهم بالنسبة لي، فمنذ الوقت الذي برزت فيه قوة جديدة، لصيقة بجدر حزب جان جوريس (SFIO) الذي فقد مصداقيته وصيته خلال الجمهورية الرابعة وتصفية الاستعمار، قوة جديدة قادرة على تحريك المشهد السياسي وتقدم أفقا لم يكن متوفراً سنة 1968. لقد توفرت لي من جديد فرصة حقيقية للانخراط... كانت رغبة فرانسوا ميتران هي توسيع نفوذ الاشتراكيين، لقد قيل الكثير من التعليقات حول جملة قالها ميتران في فيينا بحضور المستشار برونوكرايسكي والعديد من الزعماء الاشتراكيين الديمقراطيين، والتي قال فيها إنه يريد «إضعاف» الحزب الشيوعي. ولا أعتقد أن عكس ذلك سيكون مفاجأة. كان طبيعياً أن يعمل الزعيم الجديد للحزب الاشتراكي على أن يتفوق حزبه على الحزب الشيوعي، إضافة الى أن هذا القول كان ذكياً من الناحية السياسية، فميتران كان يعرف أن يساراً فرنسياً يسيطر داخله الحزب الشيوعي لن تكون له أدنى فرصة للوصول الى السلطة، كان لابد من إعادة التوازن لتغيير المعادلة. لقد كشف ذلك اليوم صراحة عن درس سياسي بليغ، ولم تكن نيته الكشف عن مخطط سري ما. أنا لم أكن في فيينا يوم قال ميتران ما مفاده أنه يتعين أخذ 2 مليون صوت من الحزب الشيوعي، ولكن توالي الأحداث أظهر أن هذه النظرة كانت صحيحة. لم يكن بمقدور اليسار الفرنسي الذي يهيمن داخله الحزب الشيوعي ولا يريد التغيير والقطع مع الستالينية وولاءه الأعمى للاتحاد السوفياتي، لم يكن لهذا اليسار أن يفوز ما بين 1971 و1981 برز التيار الاشتراكي الديمقراطي داخل اليسار كأول قوة سياسة دون أن يطعن في التحالف مع الحزب الشيوعي والتناقض الأولي وجد حله بفضل فرانسوا ميتران. وأنا لم آت إلى الحزب الاشتراكي من أجل إعادة توازن اليسار، جئت إليه لأن معه فتحت آفاقا جديدة للتغيير، ثم بعد ذلك وانطلاقا من سنة 1975 ابان المواجهة والجدل الذي أثاره الحزب الشيوعي، اشتغلت على هذا التوازن الذي كان يبدو لي ضروريا.