ليلة في فندق سندباد غادر محطة القطار واستقل سيارة أجرة. طلب من السائق أن يأخذه إلى فندق سندباد وصمت. لم يضف كلمة. كانت السماء غائمة عن آخرها، والأمطار بدأت تتساقط قبل قليل، وهي تتزايد شيئا فشيئا. التف حلبي حول نفسه مثل عصفور ضئيل وجعل ينظر إلى قطرات الماء التي تنزلق على زجاج النافذة. بعد لحظات التفت نحو السائق وحثه على أن يرفع من السرعة، فهو على موعد مع سفير سابق، اشتغل أعواما طويلة، ثم تخلى عن عمله، وقرر أن يركب الطائرة ليقضي ما تبقى له من العمر بعيدا عن أهله وبلده. في هذه الآونة مد السائق يده إلى جهاز الراديو أمامه وأطفأه، ثم تساءل بصوت خافت لايخلو من حرج: -هل حقا، سيدي، أنت على موعد مع سفير؟ رد وقد بدا عليه الإحساس بأنه غير جدير بلقاء سفير : - أجل .. هل في الأمر غرابة؟ رد نافيا: -أبدا.. ثم استأنف وقد لاح أقل حرجا: - الآن كل شيء في تمام الوضوح، وهذا الفندق يأتيه الذين يقومون برحلات دائمة عبر العالم، ولاشك أنهم جميعا يشبهون السندباد في أسفارهم الطويلة، وعلى كل حال أتمنى ألا يتأخر عنك هذا الرجل. -أنا أيضا أتمنى ذلك، لأنني متشوق للقائه، وقد حرصت قدر الامكان أن أكون في الموعد الذي حددناه. قال السائق : -حسنا. وأرسل بصره بعيدا. الشارع طويل مكتظ، محفوف بأشجار خضراء، ثابتة، غير عابئة بالرياح التي تهب من جهة البحر. كان يقبض على المقود بيدين متينتين، ويبدو يقظا وهو يتلافى برك ماء صغيرة تكونت منذ بدأت الأمطار تتهاطل، وهي الآن تتسع شيئا فشيئا، فيما حلبي جثم بمقعده واستغرقه التفكير حتى لاح كأنما اجتاز إلى عالم آخر ونسي موعده. انتفض فجأة على صوت السائق يخاطبه بنبرة عالية : -ماذا لديك مع هذا السفير ؟ بدا منزعجا. لم يجبه، ومكث صامتا واجما يرنو إلى الغيوم الكثيفة بدون حركة، حتى سمعه يقول ناصحا : -احذر أن يخدعك. استدار نحوه بسرعة وتفرس فيه برهة، ثم قال : -من فضلك .. هل من خطر يهددني؟ -لم أقصد ذلك، لكن الحذر أمر لابد منه، عليك أن تكون دائما على حذر، الثقة الزائدة ليس فيها فائدة.. -هل عرفت الحكاية يا رجل؟ قال ساخرا: -كيف لي أن أعرف الحكاية؟ ثم استدرك بسرعة: -لكنني بالتأكيد تخيلتها. - ماذا تقصد؟ - أقصد أننا في بعض الأحيان نتخيل ما ينتظرنا قبل أن نعيشه، ولاشك أن هذا هو ما كان يحدث للسندباد. ربما السفير تخيلها أيضا ورتبها في ذهنه قبل أن يهاتفه من بلد بعيد. ففي اللحظة نفسها التي عرض فيها منزله للبيع، وعلق على الباب لوحة مكتوبة بلون أسود غامق، رن هاتفه، وشرع يحدثه كأنما رأى المنزل بالكامل، وطاف بغرفه الخمس وفحصها بمهل. لم يدر كيف جثم بمكانه واستسلم كما لو أنه وقع بيد ساحر، فأدرك للتو أن الساعة التي سيترك فيها المنزل آتية لا ريب فيها، وأن أحدا من أبنائه لن يعود إليه أبدا. كان قاعدا بمفرده فوق أريكة بفناء المنزل، فكر قليلا، ثم تمدد على ظهره وظل مسترخيا إلى أن سمع آذان العصر فنهض مسرعا وأدى صلاته، ثم صعد إلى الطابق العلوي، ثم تابع إلى سطح المنزل ومكث به دقائق يتنقل بين أركانه ببطء وكأنه بدأ اللحظة يحس أنه في انتظار رجل صمم أن يخلع عنه ملابسه ويتركه عاريا تحت المطر، لكنه لم يأسف فقد أبدى رضاه وهو يسمع صوته الذي جاء عبر الخط صافيا، واثقا، فصدق أن لديه الآن ما يكفيه من المال كي يبدأ حياة جديدة. توقف السائق أمام فندق سندباد قريبا من البحر، فغادر السيارة صوب حديقة شاسعة تحيط بالفندق. نظر يمينا وشمالا، فاهتز بغتة وجعل يرتجف، لكنه فطن إلى أنه لابد أن يتماسك ليبدو في تمام توازنه، لذا ضبط أنفاسه وتقدم بخطى ثابتة حتى اجتاز الممر الفاصل بين مدخل الحديقة وباب الفندق. دخل إلى الباحة فوجدها فارغة. جال ببصره فرأى الكراسي متناثرة، والموائد على سطحها أقداح فارغة ومناديل بيضاء. الجدران ناصعة البياض، مزينة بالصور، والسواري عالية ضخمة، مثل سواري قصر قديم، وفي أحد الأركان شاشة عريضة موضوعة بصورة تسمح لكل الزبناء بمتابعتها. تجمد لثوان، ثم اهتز واتجه نحو مكتب الاستقبال، حجز غرفة بالطابق الرابع ومضى إليها فورا، رمى حقيبته الخفيفة على الأرض واستلقى على بطنه فوق سرير بغطاء ناعم ملون. أطبق جفنيه ولم يفتحهما حتى تناهى إليه صوت امرأة ينادي «ألبير..ألبير» فنهض بسرعة وفتح النافذة، لم ير أحدا. كان البحر وحده يضطرم بقوة. ارتدى ملابسه وغادر الغرفة. في وسط الباحة أبصر رجلا وامرأة واقفين يتحدثان برشاقة. الرجل مديد، بدين، أشقر، يرتدي سروالا وقميصا خفيفين. هل هو ألبير بالفعل الذي وعده بمبلغ مالي كبير مقابل منزله القديم؟ قال إنه سيضع قبعة رمادية على رأسه، لكن رأسه كان عاريا، أملس، وبدون شعر، والقبعة الرمادية كانت بين أصابعه. احتار، فابتعد خطوة والتصق بالحائط قرب قاعة كتب على بابها «قاعة الاجتماعات». رأى رجلا يخرج من باب القاعة. اندهش، هل هو ألبير أم توأمه؟ تأمل وجهيهما وهما يتبادلان الحديث ويبتسمان لبعضهما. أمر خارق للغاية. الشبه بينهما أكبر من أن يتخيله المرء. ظل بمكانه والباحة تمتلئ شيئا فشيئا حتى لم يعد يراهما. سمع مرة أخرى صوت المرأة ينادي «ألبير.. ألبير». كان الصوت عميقا كأنما يأتي من وراء البحر، غطى أذنيه وهرع إلى غرفته. أغلق عليه الباب وتمدد فوق السرير. لم يتحرك. صارت أطرافه باردة. سمع هدير البحر يعلو فلم يبال به. توقفت الأمطار ساعة ثم عادت لتهطل. لم يفتح النافذة. أطفأ الضوء. امتلأت الغرفة بالظلام. صار كل شيء قاتما. مكث ثابتا فوق السرير. أصوات غريبة غمرت باحة الفندق. رجال ونساء يتحدثون ويقهقهون. تواصلت الأصوات إلى آخر الليل، تعلو تارة، وتخفت تارة أخرى، إلى أن انقطعت فجأة وعم صمت مريب، كما لو أن المكان تحول إلى مقبرة، هل ناموا؟ ربما، لكن حلبي لم ينم، بات مثل مريض يتقلب من الألم في فراشه حتى سمع طرقات على الباب، بطيئة متأنية، فنط بخفة ليفتح. رجل جاوز الأربعين، صارم الملامح، حاد النظرات، لم يبتسم، ولم يتكلم حتى سأله حلبي : -هل أنت هو السفير؟ نفى بحركة من يده وقال : -أنا نائب السفير. -مرحبا.. وأين هو السيد ألبير؟ -لا يهم.. لديه أشغال طارئة. لم يضف شيئا، وبحركة خفيفة سحب من جيبه أوراقا مالية مدها إليه قائلا بلهجة لا تقبل الرد: -هذا المبلغ من السيد السفير، لاشك أنك في حاجة إليه، يمكنك الآن أن تنصرف، أما الأمور الأخرى فستتم على النحو الذي يرضيك. اطمئن سيدي. أبكم. كان يتنفس فقط. أنفاسه طويلة وحارة. هل نزع عنه ثيابه فعلا؟ تحسس أطرافه والتفت حواليه في خجل. لا أحد يراه. غادر الفندق متخفيا مثل لص. لم يحدث ضجيجا كأنما كان يمشي حافيا. الأمطار لم تتوقف. وجد سيارة الأجرة في انتظاره. قفز إلى داخلها بخفة، وجمد بمقعده حتى باب المحطة، ثم تركها ليركب القطار إلى مدينته.