(1) نهضت نهلة من مقعدها حانقة، ثم أخذت تصرخ وهي تقفز من زاوية لأخرى، وصوتها يعلو شيئا فشيئا حتى بدا أنها لن تتوقف أبدا. و بغتة أمسكت رأسها بين كفيها و عادت صامتة كأن شيئا لم يحدث. بعد ثوان نادت على ابنها الذي اختبأ بغرفته فأجابها وأقبل مهرولا. ارتمى على صدرها وعانقها بأقصى ما لديه من قوة، ثم طلب منها أن تغفر له. ردت عليه بصوت جاد أن ما فعل يستحق عليه العقاب، وحذرته أن يقول مرة أخرى مثل هذا الكلام، إنه كلام بذيء، وعيب، ومن ينطق به أمام أمه يذهب إلى الجحيم، و هو يعرف أن الجحيم كله نار وعذاب. تنهد الطفل الذي دخل عامه الخامس قبل أيام ومكث واجما إلى أن تابعت قائلة: - إن من يفعل السوء يدخل بدون شك إلى الجحيم. لاح خائفا وهو يرد: - لن أفعل أي سوء منذ اليوم. قالت بانشراح: - إذن لن تذهب إلى الجحيم مثل ماما. ابتسم وتساءل بعفوية: - وبابا..هل يذهب إلى الجحيم؟ سعلت وأجابت من دون أن تفكر أن أباه من أهل الجحيم، وأن النار ستأكله مرات متعددة و لن تشبع منه. إنه لن يذهب إلى أي مكان آخر سوى جهنم.إنها مكتوبة بوضوح على جبهته. سيدخلها ولن يغادرها أبدا، إنه فاحش وذنوبه كثيرة. انقبضت ملامحه و استغرقه التفكير قليلا، ثم سألها إن كانت متأكدة مما تقول، فردت بسرعة: - أنا أعرف هذا الرجل وأعرف مصيره. - و النمر؟ ترددت برهة ثم قالت: - النمر الإفريقي..لا أعلم. بدا غير مقتنع وهو يقول: - تعرفين مصير بابا ولا تعرفين مصير النمر. تأوهت وهي تطمئنه: - تمهل يا باسم..في ما بعد سأخبرك. هز كتفيه وصمت . بعد لحظات سألها في أي وقت سيأخذهما أبوه إلى الحديقة. فأجابته بدون ارتياب أنه هذه المرة سيفي بوعده، وسيقضيان معه غدا يوما كاملا بجوار النمر الإفريقي. ثم تنهدت وحضنته بين ذراعيها. (2) قبل أن تشرق الشمس أفاق باسم.غادر فراشه وقصد الحمام بخفة . كان يرف من المرح مثل فراشة. اليوم سيحقق حلما راوده طيلة السنة.لقد حدث أصدقاءه بأنه سيرى النمر الإفريقي الذي حكت أمه أنه حيوان غريب لا يقدر أحد على الاقتراب منه. إنه ليس نمرا وحسب، بل هو أيضا غول يسكن كهوف الجبال . كان متعجلا. نظف وجهه بسرعة، ودخل على والده فوجده ما زال ممددا على بطنه وشخير خافت متصل يتسرب من تحت الغطاء الذي يستر ظهره.نادى عليه بصوت عال فانتفض وصهل في وجهه غاضبا: - صبحنا على الله.. ماذا بك؟ تراجع خطوة و قال: - هيا بنا إلى الحديقة. - لا أحد يخرج من بيته في هذه الساعة.الناس كلهم ما زالوا نائمين. - آه..إذن النمر الإفريقي هو أيضا ما زال نائما. لم يبال به و دفن رأسه في سريره.بينما باسم استدار نحو أمه. كانت قد غيرت ملابسها، و ربطت شعرها فوق رأسها، و عطرت جيدها وأسفل إبطيها برائحة طيبة. ثم قعدت تنتظر أن ينهض زوجها الذي غاب تماما عن الدنيا وعاد شخيره يتردد برتابة. ولما نفد صبرها نادت عليه إلى أن تحرك وفتح جفنيه ببطء، ثم غادر متثاقلا إلى غرفة الجلوس. وما أن أخذ مقعده حتى التصق به ابنه فنهره: - ابتعد عني. ارتج وهم بالفرار، لكنه أمسكه من ثوبه وسأله: - ماذا تريد مني؟ لم يتكلم. كان يرتجف. مد أصابعه إلى ظهره وضغط على عظامه: - تريد أن تذهب إلى الحديقة؟ رد خائفا: - كما تشاء. ضحك وقال بتهكم: - أنت شيطان مثل أمك. ثم سأله: - أتريد أيها الشيطان الصغير أن ترى النمر الإفريقي في هذا اليوم بالذات؟ بدا كما لو أنه فقد لسانه . كان على وشك أن يشهق.في هذه اللحظة طلب منه أن يتركه حتى يتناول فطوره، وإذا هو أزعجه عاقبه. لم يرد عليه، ومكث صامتا وعيناه تهتزان. (3) قالت نهلة لزوجها وهو يلتهم شرائح الجبن إن ابنهما سيفقد صوابه إذا هو لم ير النمر الإفريقي اليوم و قد أمضى سنة كاملة و هو ينتظر هذه اللحظة. فرد عليها قائلا بقدر غير قليل من الاستخفاف إن أرض الله كلها نمور. بدت حائرة و هي تؤكد له أن هذا النمر بالذات لا مثيل له، وهو بالتأكيد يختلف عن كل نمور الدنيا.لم يعبأ بها وانحنى على أذن باسم وقال له بصوت مهموس: - لا تهول هذه الأمور. إن النمر الإفريقي لا يختلف عن أي حيوان آخر.إنه قط كبير وكفى. لاشي آخر غير ذلك.. رد عليه: - قيل لي إنه غريب و لا أحد يقدر على الاقتراب منه. هز رأسه مهددا وسأله: - من قال لك هذا الكلام؟ ارتعد باسم وثبت بمكانه.لم يجبه .ماذا سيفعل لو أنه أخبره بأن أمه هي التي قالت ذلك، وأنها كانت على وشك أن تقول إنه هو أيضا سيذهب إلى الجحيم مثل والده؟ لا محالة سينتفض مثل وحش ، ويملأ الدنيا صراخا، وقد لا يتردد في أن يقصم ظهرها بعصا طويلة يخفيها تحت سريره. هذا الرجل لا يمزح مثل بعض الرجال،إنه إذا صمم فعل، لهذا صمتت نهلة. لكنها بعد لحظة اهتزت في حركة بدت معها أنها مقبلة على أن تصرخ في وجهه. وكما لو أنها كانت في حلم صرخت بالفعل على غير ما كان يتوقع. أطلقت صوتها فكان أشبه برعد تردد صداه في كل أرجاء البيت. ثم تساءلت وهو ينظر إليها باستغراب عما جعله يؤجل زيارة النمر مائة مرة. احمرت عيناه و أخذت أطرافه ترتجف.هدأ بعد وقت وجيز وأصغى إليها تقول له بدون خوف إن باسم سيسعد بهذه الزيارة التي تأخرت عاما عن موعدها، وستكون لحظة في حياته يذكرها على الدوام. أرسل نفسا طويلا عميقا فكان كأنما يفرغ النار في الهواء. ثم دعاها إلى أن تستعد للذهاب. (4) ارتدت نهلة جلابتها وأحاطت عنقها برداء طويل أصفر اللون يلائم أجواء الربيع. ثم خرجت لتمضي خلف زوجها الذي نفخ صدره و سار بخطى ثابتة . كان باسم يمسك بيد أمه و يدرج بجوارها مزهوا بقميصه الملون. ظل صامتا يتابع حركة الشارع من غير أن يتكلم، حتى إذا ما لاح سور الحديقة أبطأ خطاه وسأل أمه بحذر إن كان هذا الحيوان بالفعل غريبا.تأخرت في الرد . كانت تفكر، وحينما أخبرها أن أباه سأله عمن قال له إن هذا الحيوان غريب ولم يجبه تأوهت قائلة: -حسنا فعلت يا باسم وإلا كان غير رأيه وحرمنا من زيارة الحديقة. هم بالكلام فحذرته: - لا ترفع صوتك حتى لا يسمعنا. إنه سيء ومن أهل النار. لم تتوقع أن يسألها ثانية: - والنمر؟ فردت عليه: - ستعرف في ما بعد. وبعد لحظة سألها: - هل هذا النمر له ولد؟ - طبعا يا بني. - مثل أبي؟ - ومثلك أنت أيضا حينما تكبر. ضحك من دون أن يرفع صوته، وواصل سيره ملتصقا بأمه حتى باب الحديقة. انضم الثلاثة إلى بعضهم ودخلوا دفعة واحدة، ثم تقدموا يقطعون الممرات غير عابئين بالطيور و الحيوانات الأخرى التي صادفوها كأنما جميعا لا يشغل بالهم شيء سوى النمر الإفريقي .ولما عثروا على مأواه صاح الطفل في اندهاش: -ها هو النمر العجيب.. فقالت نهلة: -أنظر إليه ولا تخف منه. سألها وعيناه تفحصان وجه النمر: -لماذا يتأملنا هكذا؟ -لاتهتم به. -هذا هو النمر الإفريقي، إنه مخيف وبشع، ماما، هذا حيوان سيء ولاشك أنه هو أيضا من أهل النار. أدار وجهه وأغمض عينيه، بينما أبوه مكث يتأمل النمر دون أن يمل. قال لزوجته إنه رشيق مثل غزال و قوي ، حينما يرى المرء سيقانه الدقيقة و عنقه الطويل لا يخاله إلا غزالا، لكنه في الحقيقة نمر. وتمنى لو أنه كان مثله قويا و خفيفا بلون أقرب إلى لون القمح، و جلد ناعم ، وعينين صافيتين يومض فيهما بريق حاد كشعاع الشمس.تأوه متأسفا ، ثم رفع رأسه وتمتم كأنما اكتشف فجأة أنهما شقيقان و ضحك باعتزاز. لحظتها انتفض النمر وأخذ يحفر التراب بقدميه و يرسل صوتا أشبه بالأنين. اهتز عنان لاهتزازه و راح هو الآخر يضرب الأرض ويئن .ولما رأى شرائح لحم تسقط أمام النمر و هو يتلقفها بخفة، انحنى وجعل يمرغ أنفه في التراب، وقبل أن يرفعه خطفت نهلة طفلها وهرعت بعيدا، بينما عنان نظر نحو السماء وظل يدور حول نفسه رافعا يديه مثل ضرير ضل عن الطريق.