في عشية دافئة رأت الطفلة نجلاء شابا يقبِّل فتاة في الحديقة. كانا على مقعد خشبي منزوٍ تحت شجرة، وكانت الطفلة تتقافز قريبا منهما، وحين رأتهما توقفت. تقدمت أمها وتركتها تقف أمام الشابين.. في صدر الأم غيمة حزن، ولولا نجلاء لغاصت في عتمة كآبة عمياء.. الحديقة هادئة وجمال فضاءاتها دعوة مفتوحة وتنافذ الشابين حالة استجابة.. وقفت نجلاء تتأملهما وتبتسم، وتلكأت الأم في النداء عليها. كانت قد لمحت الشابين قبل طفلتها، فتلبستها دفقة حرارة. رعشة في القلب ووهج مغمور تحت كتلة رماد.. وبتواطؤ الرغبة تلكأت في النداء على ابنتها.. الشابان في بحيرة وَلَهِهِما، ووقعُ مشهدهما في ذات الأم رغبة وحرقة. والطفلة واقفة في دائرة طقس الحب.. ولم يأت نداء الأم إلا بعد حين.. نجلاء.. أسرعي.. ولم تسرع الطفلة، أدركت من نبرة صوت أمها كأنما تستبقيها، فلم تسرع. تحركت خطوة وتوقفت مرة أخرى، فابتسم الشابان لها، وابتسمت لهما، وأشارا إليها «تعالي» فضحكت بفرح سعيد.. وعاودت الأم النداء عليها، فأقبلت متثاقلة تتقدم وتلتفت جهة الشابين، وتتقدم وتلتفت، والأم أمامها بمسافة لا تَسْتَحِثُّها ولا تقول شيئا.. وفي البيت سألتها: لماذا تأخرت عني في الحديقة؟? رأيت ولدا كبيرا يبوس بنتا كبيرة. ولماذا وقفت أمامهما؟? كانا جميلين.. وقبلت الأم ابنتها بحنان فائض مغالبة مشاعر انكسار تَنْهَبُ زمنها.. وجدان الطفلة يضج بالأسئلة ووجدان الأم الشابة نهْب انكساره، ونجلاء منهلُها العذب الذي يمد القلب ببعض العزاء.. ماما لماذا يبوس الرجل المرأة؟ لأنها زوجته.. وأنت هل يبوسك بابا؟ كان?.. واستدركت الأم بسرعة: كل الرجال يبوسون زوجاتهم.. ونامت الطفلة على وعد من أمها أن تصحبها إلى الحديقة غداً.. وكانت عند الوعد الذي قطعته لنفسها?.. يوم آخر.. عشية أخرى.. الحديقة مفتوحة الحضن، مفعمة بعنفوان الحياة.. لكنّ الشابين لم يكونا هناك.. فقط رأت نجلاء طائرا متوحدا على فرع الشجرة المظللة للمقعد الخشبي المنزوي تحتها، فاستشعرت لمسة خيبة، ولم يُغْرِها مشهد الطائر المتوحد، الذي ما انفك أن طار في الفضاء باحثا عن خِلٍّ يؤانسه.. ولم تُغْرِ الحديقة الأم الشابة التي تابعت تحليق الطائر بين العرائش حتى غاب، فأخذت بيد طفلتها وخرجتا إلى الشارع، وسارتا على امتداده.. لماذا لم يعد الولد والبنت إلى الحديقة؟ سألت نجلاء أمها بعد صمت.. لا أدري.. أجابت الأم باقتضاب. صوتها منطفئ، وفي صدرها غيمة حزن تتكاثف يوما عن يوم.. «لم يطل أمد الحلم. كأن الأحلام باقة ورد مهما حرصنا عليها لا بد وأن يتسرب إليها العطب» حدثت الأم الشابة نفسها، ومدت بصرها جهة الأفق حيث وهج الغروب يحرك مكامن النفس ويستثير صَبَواتِها.. والزمن في تلك اللحظة يغلف قسوته بنعومة حانية، ربما ليستفز المشاعر أكثر، ويلتذّ بالالتفاف عليها، فهو مراوغ راسخ لا يُعرف له وجه.. «ولكن باقة الورد تتجدد، وليس ثمة حي يساكن الموت» قالت الأم الشابة لذاتها من ذاتها، وقبلت ابنتها وتابعتا المسير على امتداد الشارع.. نجلاء وحيدتها ومؤنسة وحدتها في حياة زوجية باردة رتيبة، لا كلمة محبة فيها تدفئ المشاعر، ولا وردة تحركها.. ولولا مجيء الطفلة لأكل الصقيع أعصاب الأم الشابة.. «كأنّ نَفَسَ الحلم قصير» تقول لنفسها. «لكننا نموت إذا لم نحلم» تقول لها نفسها.. ولا يهدأ الاحتدام في ذاتها.. وفي الليل على السرير تخيلت مشهد الشابين في وَلَهِهِما المتوقد.. لكن شخير زوجها بدد الصورة وأغلق النفس.. حدقت في الظلام وأصغت إلى نداء مكتوم في غور جسدها، وغصت بغيمة الحزن.. نجلاء نائمة، والزوج في صحراء شخيره، وهي في ليلها الذي تراوغ قحولَته بحلم في إهاب الوهم.. وانسلت من صحراء السرير إلى غرفة الجلوس.. أغلقت الباب وأيقظت التلفاز صورة دون صوت.. تقافزت الصور.. وتوقفت عند مشهد رجل يهدي وردة حمراء لامرأة في حديقة، ويغيبان بين الأشجار.. لماذا لا تفعل مثله؟? ......... ماذا سيكلفك تقديم وردة؟.. وردة واحدة تُدَفِّقُ نهر محبة.. ......... غصة في القلب ونداء ضائع في الريح.. أطفأت التلفاز، فعم الغرفة صمت بارد.. ولما عادت إلى السرير كان شخير الزوج في عز اختماره، ورائحته الداخلية في عز نفاذها.. وكان الحزن الفاتك مجدولا بالأرق.. كأنما البيت عنده محطة هجوع، يغادرها في الصباح ويعود إليها بعد أن يترهل الليل. يفطر في المقهى والفطور على مائدة البيت، ويغيب بتَعِلاتٍ تعرف الزوجة الشابة أنها محضُ طُرُقِ تخلص. ويحضر كالغائب، دون ماء دون ظل ولا حتى كلمة دفء.. ألا تحس؟.. ألا تدرك؟.. أشارت له بالرمز، وأفصحت بالواضح، فأجابها صمته، تبرمه، ضيقه، توعده.. ووجدت نفسها في نفق خانق ليست كوة الضوء فيه سوى نجلاء.. خذ معك نجلاء إلى الروض. لدي موعد قبل العمل، لن أجد الوقت.. وخرج.. وخرجت بعده مع نجلاء لتوصلها إلى الروض.. الصباح ما زال في طراوته، نداوته غسلت بعض خَدَرها فأخذت نفسها تتفتح.. أدخلت الطفلة إلى الروض وعادت.. في مدخل الحديقة رأت طائرين يحومان حول شجرة، فقالت لنفسها «وجد الطائر أنيسته».. ودلفت إلى الحديقة.. كانت خالية. فضاءاتها تتدفق حياة رائعة: الألوان والأشكال، الروائح والأصوات، الظلال والأضواء.. حركات ونداءات تلو نداءات تتجاوب في تناغم عذب.. مشت الزوجة الشابة في الممر الطويل، وانعطفت إلى المقعد الخشبي مكان خلوة العاشقين. كان خاليا يحيطه دفء لذيذ.. جلست على المقعد حيث كانت الفتاة تجلس.. وكما لو كانت على موعد، مدت بصرها نحو المَعْبَرِ، كأنها تنتظر قادما في يده وردة حمراء.. وردة واحدة تفجر نهر محبة..