سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
القردة استبدلت الموز بالجزر والتمساح أصبح يبدو مثل «بوبريص» كبير في حديقة تمارة النعام الإفريقي يتعايش مع حيوان اللاما الأمريكي والأسد يعيش على لحوم البغال
الساعة تشير إلى العاشرة صباحا تتوقف سيارة الأجرة الصغيرة التي تُقِلُّنا أمام مكان معزول ومقفر يحيط به سور بلون بني باهت وفوقه لافتة كتب عليها بصباغة تعود إلى سنوات السبعينيات «الحديقة الوطنية للحيوانات». حواجز صدئة تقود إلى الداخل حيث وضعت حاويات حديدية بها كوة خصصت لشراء تذاكر الدخول، المكان شبه مهجور ويبعث على الشك والقلق، بعد لحظات يطل مستخدم برأسه لمنحنا التذاكر قبل أن تبدأ رحلة البحث عن الحيوانات في الحديقة. على بعد 8 أمتار، إستوقفنا حارس بلباس رسمي تابع لمندوبية المياه والغابات، فأخذ منا التذكرة، ليضعها في فتحة صندوق حديدي، يشبه صندوق ماسحي الأحذية. بعد ذلك سنجد في استقبالنا لوحة كبيرة مكتوب عليها باللغة العربية والفرنسية، «الموانع» التي يجب على الزائر تجنبها، وإلا تعرض لعقوبة أداء ذعيرة، بل قد يصل الأمر إلى المحكمة، مثل عدم استعمال السيارات والدراجات النارية للتجول وسط الحديقة، ومنع إطعام الحيوانات، لأن ذلك قد يسبب لها الإسهال. الحيوانات مختفية هنا لا وجود للزوار فقط ثلاثة أشخاص صادفناهم بعد أن مشينا لدقائق رأينا فيها عجولا في قفص وضعت فوقه لافتة كتب عليها حيوان الأروي ؟ البداية كانت بأقفاص زجاجية معظمها فارغ ومليء بالقاذورات قبل أن ندقق النظر جيدا لنتمكن من رؤية مجموعة من السناجب ارتمت في أحضان بعضها كما لو أنها تناولت سما في عملية انتحار جماعي. منظر الأفاعي بدوره يبعث على الشفقة بعد أن توارت خلف جذع شجرة لتخفي جسمها النحيل بفعل الجوع، فالطرائد قليلة رغم أن الحديقة تعج بالفئران والجرذان. بداية الجولة كانت غير مشجعة خاصة بعد أن شاهدنا غوريلا وضعت داخل قفص حديدى وحاجز زجاجي وهي تتثاءب عشرات المرات، تمسك بالقضبان الحديدية وترسل نظرات حزينة كأنها تقول «أخرجوني من هنا». الأزبال في كل مكان ولا وجود لمن يرشدك داخل هذه المتاهة التي تشبه المعتقلات السرية، فيما أصوات آلات البناء ترتفع بين الفينة والأخرى في إطار مشروع لتشييد مئات الشقق السكنية . أغرب حديقة في العالم ليست هناك حديقة في العالم يمكن أن تجد فيها النعام الإفريقي يتعايش مع حيوان اللاما القادم من البيرو بأمريكا اللاتينية، فالمكان ضيق، ولا يتسع للجميع بعد أن التهم مشروع سكني نصف المساحة المخصصة للحديقة في صفقة أثارت الكثير من الجدل، لذا كان الحل هو إقناع الحيوانات بالتخلي عن صراعها الذي تعودت عليه داخل الغابة، وتوقيع اتفاقية للسلام تضمن التعايش في قفص واحد. العديد من الحيوانات ارتاحت من هذا الجحيم وفضلت الموت على البقاء حبيسة أقفاص وسخة في حديقة لم يعد يزورها أحد، والسبب بسيط فالإنسان يرغب في رؤية حيوانات البرية من أجل المتعة، أما أن يتحول الأمر إلى الاشفاق عليها والإحساس بالذنب تجاهها، فالمغاربة لديهم من المشاكل ما يكفي وليسوا مستعدين لإضافة هم الحيوانات الموجودة بالحديقة إلى همومهم. البغال تنقذ الأسد من الموت الأسد ملك الغابة الذي تهتز البراري لزئيره، يتناول في كل وجبة ما يناهز 24 كيلو غراما من قائمة تضم فرائس مختلفة، غير أنه تحول في هذا المكان إلى حيوان يسير بصعوبة وكأنه يعاني من الروماتيزم ويحاول جاهدا النوم حتى ينسى ما حل به في هذه الحديقة التي مرغت بها كرامته في التراب وأجبر على تناول لحوم بغال أفنت حياتها في جر «الكراريس» قبل أن تنتهي في بطنه. بعض الزوار توقفوا للحظات أمام هذا المخلوق الشرس، وهم يشاهدون كيف أهين هذا الحيوان وأصبح يلعق كتف بغل مجهول الهوية فيما فضلت اللبؤة النوم والحفاظ على رشاقتها. القردة تخلت عن شغبها فالجوع كافر و«خيزو» الذي يتم منحه لها بسخاء عوض الموز، الفاكهة المفضلة لديها، جعلها تعافه، لذا لم تعد تتردد في قبول أي شيء يرمى إليها حتى ولو كان قطعة ورق تمسكها بيدها بلهفة قبل أن تعيد رميها. هنا يمكن بكل بساطة أن تشاهد القردة وهي تأكل الخبز اليابس أو تبحث عن قشور «الزريعة» من أجل إعادة مضغها من جديد. أحد المستخدمين قال إن المبلغ المخصص لتغذية كل قرد يناهز 1000 درهم شهريا، قبل أن يضيف بعدما لاحظ اندهاشنا من هذا الرقم «هاد الشي لي كالو، ويلا كان هاد الشي بصح راه بحالي بحال القرد حيت كيعطوني 24 ألف ريال فالخلصة». كان ياما كان الحديقة التي أنشئت في السبعينيات وكانت تضم 2000 صنف حيواني وأنواعا مختلفة من الطيور والزواحف والبرمائيات والحيوانات المفترسة كما كان يشرف عليها 200 عامل أصبحت الآن في عهدة أعوان الحراسة «السكيورتي» التابعين لشركة خاصة الذين يعانون بدورهم من عزلة ووحدة قاتلة، لذا يسارعون كلما بدا لهم زائر قاده حظه العاثر الى التفكير في زيارة الحديقة إلى الاقتراب منه، وتبادل أطراف الحديث لكسر الروتين، فالجميع هنا يعاني من حالة اكتئاب مزمن. الحديقة كانت في السابق تستقبل أزيد من 600 ألف زائر سنويا، أما اليوم فعدد الزوار لم يعد يتجاوز 60 شخصا يوميا يجدون أنفسهم مضطرين بعد انتهاء الزيارة للبحث عن وسيلة نقل بعد أن اختفت عربات «الكارو» التي كانت تمنح للزوار فرصة لاكتشاف محيط الحديقة، لكن ذلك تحول إلى جزء من الماضي في هذا الزمن الذي وئدت فيه كل الأشياء الجميلة. قرب حفرة عميقة وضعت لافتة تشير إلى أن الحيوان الموجود بالقفص نادر جدا، ويسمى الكركدن الإفريقي الأبيض، لكنه غير موجود، ربما مات كما حصل للغزالة والنمر ولائحة طويلة من الحيوانات التي قضت بسبب «الفقصة» وانعدام التغذية بعدما تم حشرها في أمكنة ضيقة ومتسخة في انتظار الانتهاء من الحديقة الجديدة التي ستكون بحاجة إلى جلب حيوانات أخرى بمبالغ مالية طائلة، أما تلك الموجودة حاليا بما يسمى مجازا «الحديقة الوطنية» فتستحق عرضها على أطباء نفسانيين لإقناعها بأن الحياة جميلة، وأن ما مرت به من معاناة أمر عادي في أجمل بلد في العالم. الفيل وجيرانه الفيل الذي وجد نفسه محاصرا بأوراش البناء وعشرات العمال بدا في حالة سيئة، وهو يحاول جاهدا تجاوز الحاجز الإسمنتي الذي يحول بينه وبين أغصان صغيرة لم يصل إليها إلا بعد جهد جهد، وبعد أن احتك جسمه الضخم بالإسمنت، لكن ذلك لا يهم في سبيل الحصول على قليل من العشب يطفئ به نار الجوع، قبل أن يتدخل بعض الأطفال من أجل قطع الأغصان ورميها بعد أن أحزنهم منظر هذا الحيوان الذي تعودوا على طيبوبته في أفلام الرسوم المتحركة، لدرجة جعلت أحد الصغار يرمي بالغصن ويقول «هاكا اعمي الفيل». التمساح الحيوان الماكر الذي يطفو مثل قطعة خشب قبل أن يفاجئ ضحيته يبدو هنا مثل «بوبريص» كبير تم تحنيطه، حيث يتقاسم المكان المخصص له مع تماسيح أخرى تتناوب على «سلق» نفسها في بركة وضعت بها كمية قليلة من المياه التي ارتفعت درجة حرارتها بفعل القيظ، مما يحرم هذه الزواحف التي تعشق النساء التباهي بجلودها من فرصة تلطيف أجسامها، لتضطر إلى فتح أفواهها كسبيل للتهوية. فرس النهر الذي يصل وزنه إلى 3000 كيلو غرام يسبح في بركة سوداء كما لو كانت تنبع من قناة للصرف الصحي في حين يبدو آخر كما لو كان ميتا. أحد المواطنين قال وهو ينظر بحسرة إلى فرس النهر «والله يلا حشومة وعار كانوا يقتلوهم بالقرطاس، وما يبقاوش فهاد الحالة»، قبل أن يضيف «لقد أحضرت أطفالي معي من أجل قضاء يوم ممتع لكني عجزت أن أشرح لهم لماذا تبدو هذه الحيوانات مختلفة كثيرا عن تلك التي يشاهدونها في التلفاز». الخنازير تتقاسم الحيز المخصص لها مع عشرات الجرذان الضخمة التي تتسع بحرية، فيما طفت على مياه بركة قريبة جثث طيور نافقة، أما الطاووس فتخلى عن «العياقة» التي يتمز بها بعد أن وجد نفسه جنبا إلى جنب مع الدجاج وحده الحمار الوحشي يبدو غير آبه بما يحدث حوله، «حمار وبيخير». وعود انتخابية خاصة بالحيوانات عبد العظيم الحافي، المندوب السامي للمياه والغابات، أكد في تصريحات صحافية سابقة، أثناء تشييد الحديقة الجديدة للحيوانات،» أن الرباط لم تكن تتوفر على حديقة حيوانات «بالمعنى الاصطلاحي العالمي» وإنما على «نوع من العرض لبعض الأنواع الحيوانية»، مؤكدا أن الزائر سيستمتع عند زيارته للحديقة الجديدة التي تبنى بطريقة عصرية، حيث روعيت فيها المعايير الدولية في تصنيف الحيوانات ووضعها في أماكن تليق بها»، وأكد بأن الحديقة الجديدة ستقام على مساحة 50 هكتارا، بغلاف مالي قدر بنحو 430 مليون درهم، وستضم أصنافا من الحيوانات الإفريقية والمغربية، بالإضافة إلى أخرى مستوردة من أمريكا الشمالية وأستراليا، وأوربا، بتصميم حديث، مرفق بمشاهد تسلسلية تعريفية للحيوانات، وثقافية، مصحوبة بمناظر تحاكي الطبيعة. كل هذا جميل لكن في انتظار تحقق هذه الأحلام، فإن المجاعة والحصار المفروض على ما تبقى من الحيوانات سيؤدي لا محالة إلى موتها. أحمد التازي، رئيس جمعية الدفاع عن الحيوانات بالرباط، قال ل«المساء» إن الوضع الحالي للحديقة الوطنية، «جد مزر»، حيث تعاني من الإهمال إلى درجة كبيرة، مؤكدا أن المسؤولين عنها رفضوا التعاون مع جمعيته، حيث اكتفوا بترديد خطاب خشبي، حول أهمية الحديقة الجديدة، التي توجد في طور الإنجاز قرب مدخل الحزام الأخضر، والتي ستبنى بمواصفات علمية، وعلى يد خبراء متعددي الاختصاصات، إذ ستراعى جمالية الحديقة، وفي نفس الوقت، ستمنح للحيوانات جميع حقوقها من سكن لائق، وتغذية غنية بالفيتامينات، وغيرها من الأمور. وعبر التازي عن استيائه من الإزعاج الذي سببته أشغال بناء دور السكن، مؤكدا أنه كان على المسؤولين بناء الحديقة الجديدة ونقل الحيوانات إليها بالطرق العلمية المعروفة، ثم بدء الأشغال في مكانها القديم، معربا عن أمله في أن يتدارك المسؤولون الأمر في أقرب فرصة . لاقدرة للحيوانات على الاحتجاج القناعة التي تترسخ في ذهن الزائر وهو يغادر هذه الحديقة التي تستحق الزيارة، ولو على سبيل التضامن مع ما تبقى من حيوانات، تجعله متيقنا بأن المعاناة في هذا البلد ليست حكرا على البشر، بل تطال أيضا عشرات المخلوقات التي انتزعت من مواطنها الأصلية في الكاميرون وغينيا والغابون وأمريكا اللاتينية وغيرها، لينتهي بها المطاف في سجن قذر، تدفع فيه ثمن مشاريع عقارية تسير وتيرة إنجازها بسرعة صاروخية في الوقت الذي لم نشاهد فيه أي عامل بناء في مشروع الحديقة الجديدة، لأن المسؤولين يعلمون جيدا بأنه «لا قدرة للحيوانات على الاحتجاج». «كريان» الحيوانات بدون ماء في انتظار إعادة الإسكان لا وجود لأي مرفق بالحديقة يمكن للزائر أن يشتري منه طعاما إذا أحس بالجوع، لذا من اللازم أن يحضر معه طعامه، كما أن الماء غير متوفر، وحتى إذا فكر المواطن في دخول المراحيض، التي يبدو منظرها مخيفا، من أجل إرواء عطشه، فإنه سيصاب بالغثيان بفعل الروائح الكريهة والناموس والذباب المنتشر في أرجائها. ألعاب الأطفال التي كانت موجودة بالحديقة، تحولت بدورها إلى ركام من القطع الحديدية الصدئة وهو ما يحرم الصغار الذين يزورون الحديقة من فرصة اللعب، حيث تم نقل مجموعة من الجمال إلى المكان الذي كان يضم عددا من الأرجوحات وكلما تقدمت الأشغال في المشروع السكني كلما تم حشر العديد من الحيوانات داخل قفص واحد . أكثر ما يؤلم بالحديقة هو منظر الذئاب التي تبدو بفعل الهزال والأوساخ مثل الكلاب الضالة التي تتجول في شوارع عدد من المدن المغربية، إضافة إلى الثعلب الوحيد الموجود،والذي تقلص حجمه كثيرا نتيجة سوء التغدية، وفضل الاختباء تحت ظل شجرة هربا من الحر. أحد العاملين بالحديقة أكد بأن موت الحيوانات أصبح أمرا مألوفا وهو يشير بيديه إلى «قردوحة» (فصيلة من القردة) فقدت شريكها منذ مدة بعد إصابته بمرض غامض، قبل أن يضيف «أحيانا يصبح الموت نعمة» وهو فعلا ما يتهدد جميع الحيوانات في الحديقة قبل انتهاء الأشغال بالحديقة الجديدة وترحيلها إلى هناك.