شخصيات مجروحة في عالم دمره الفراغ العاطفي و.. السياسي إن «دموع بالكحول»، لمؤلفها عصام اليوسفي، ومخرجتها أسماء هوري، رسم بدموع ترتدي اللون الأسود كواجهة للقص والمسرحة، تحاول رسم انثيالات هطول المطر الأسود، في حياة أربعة شخصيات، اجتمعت فيهن صور متقاطعة للعالم الذي نحاول أن نعيش فيه. عالم تتناوب فيه الحوارات، والاسئلة، والشخصيات في سرد ممنتج، احتوته كتابة مسرحية ركحية معاصرة، حاولت في شكلها ومضمونها، الحفاظ على علاقة حميمية مع مفهوم السرد، وشروطه، مع مختلف الأخيلة السردية المرئية منها وغير المرئية، وجعلت من الميكرفون أداة للبوح الفردي والجماعي في آن واحد. إن هذا العرض الذي نحن بصدد الحديث عنه، يشبه إلى حد كبير الشعر في صوره الاستعارية وإيقاعاته الموسيقية المتواترة، وتقاطعاته مع الواقع المعاش والمتخيل، التي نقلت لنا أحداث مسرحية «دموع بالكحل» بنوع من التشذر، والأداء الغير مستمر، الذي أخذ شكله وطبيعته الدرامية وحضوره المتميز، من كل ما هو متجزئ، في زمكانية مجردة، لا تركز بالضرورة على واقعية الدراما نفسها كأساس، وإنما سلطت الضوء على التطور الجمالي للأداء الذي أنشأ بدوره علاقة خاصة ما بينه وبين متن النص، والخشبة والجمهور، كان الهدف منها، عقد علاقة وتأثير متبادل مع المشاهدين أكثر من التزامه بالتسلسل الدرامي للنص، وذلك من خلال تفاعل الممثلين والجمهور الذي زجت به المخرجة أسماء هوري، باللعبة المسرحية منذ الوهلة الأولى للعرض، من خلال مشهد تمهيدي اتسم بحركات إحمائية تقوم بها الشخصيات الأربعة قبل بدء العاصفة. ثم تصطف فجأة، في خط واحد أمام الجمهور، وبعد صمت وترقب وتبادل في النظرات بين الطرفين، تنفجر الموسيقى التي كانت حاضرة في العرض كطرف مشارك وفعال شأنها شأن الممثلين الأربعة، في فضاء العرض بشكل صاخب معلنة عن بدء الجولة، وهنا تقوم الشخصيات بأداء حركات تعبيرية عنيفة تجسد رغبتها في الهروب، والتخلص من حالة الحصار الذي تعاني منه، والسجون الذاتية التي تعيشها، معبرة عن خوفها من الآخر الذي يقابلها بصمت مطبق، لا سيما «أن الجحيم هم الآخرون». تهرع الشخصيات الأربعة، نحو الخلف / العمق، بحركات راقصة سريعة، فتصطدم بجدار عال وصلب، يفترض أن يكون لهم مخرجا في هذا المكان المغلق، ولكن بلا جدوى، فالجدار هو الجدار، والحبس هو الحبس، وعلى الرغم من محاولات الهروب المتكررة نحو الخارج، وبأشكال تعبيرية مختلفة، ولكن بلا فائدة، فتنهار على الأرض، منهكة تعبة متضايقة، معلنة عن حالة استسلامها للأمر الواقع، إذ لم يعد هناك أمل للخروج، خاصة عندما يبقى الإنسان زمنا طويلا حبيس حالة أو وضع. وهكذا لم يبقى أمامهم سوى إعادة بناء سلسلة من الطقوس، داخل الأماكن والأجسام، لإعادة خلق الخارج الذي فقدوه. وهكذا ينصهر الزمان والمكان في عملية نسيان الجدار / الحاجز، ويصبحان أمكنة للحداد والحنين. وبهذه الطريقة تصبح الشخصيات الأربعة محاصرة من الخارج والداخل، وتعيش تجربة سجن حقيقي، حيث لا أحد بإمكانه أن يُخرج أو يُخلص أحدا. ومثلما كان للعرض مشهده الاستهلالي، كان للنص أيضا مشهده، «حيث تدخل الممثلات الثلاثة والممثل، يتقدمون نحو الجمهور، كل واحد يقف على مسافة من الآخر، ويتداولون الكلام». في هذه المقدمة المنطقية للنص، نكتشف الشذرات الأولى لحياة الشخصيات الأربعة من خلال رغباتهم وتسابقهم على البوح، الذي يضعه المؤلف في اللوحة الأولى تحت عنوان برولوج: «شكون حنا؟»، نكتشف من خلاله، أن لدى شخصية الممثلة الأولى: «ندى» ما تقوله، فهي امرأة متزوجة من إنسان ليس بإنسان، وكلمة وحش قليلة في حقه، ولديها منه طفلان وهما توأم، وهي أستاذة لمادة الفلسفة في إحدى المدارس، كانت دائما تفضل الآخرين عليها، وتعطي مكانها للآخرين، على امل أن يأتي اليوم الذي يأتي فيه الشخص الذي سيترك لها مكانه كما تفعل هي مع الآخرين، ولهذا فهي تنام دائما مبتسمة متفائلة بغد جديد، ولكنها عندما تفيق تجد نفسها دائما في مكانها، تبتسم مثل المجنونة، ولهذا تقرر أن تتخلى عن الظرافة والابتسامات التي توزعها على الغير مجانا. أما الممثلة الثانية «صوفيا»، أختها الصغيرة، لا تحب الكلام الزائد، والسؤال والجواب والتفسير، تدرس الطب من أجل ان تربح راتبا مناسبا، وأن يحترمها الناس، عمرها ثلاثة وعشرون عاما، وأختها ندى تكبرها بثمانية سنوات، فلسفتها في الحياة، أن الساعات التي تمر لن ترجع ثانية، ولهذا تأخذ كل ما يعجبها في ساعته إن استطاعت. تعيش علاقة حب مع رجل متزوج ولديه أطفال ويكبرها بثلاثين عاما، وهذا الفارق يبدو للآخرين كبيرا جدا، «ولكن هذا شغلهم وليس شغلي... ثم لماذا لا ينشغل الإنسان بنفسه، بدلا من الانشغال بغيره». الممثلة الثالثة «نورة»، صاحبة ندى وبنت خالتها، وقد كبرتا معا، جنبا إلى جنب، في عمارة ومدرسة واحدة، «عزيز عليها» مشاهدة التلفزيون، لدرجة أنهم كانوا يقولون لها في يوم من الأيام سوف يبتلعك التلفاز، وهذا ما حدث. في البداية درست اللغات، ثم انتقلت إلى الصحافة، لكي تصبح صحفية تلفزيونية. في معهد الصحافة كانت مناضلة ومغنية سياسية، ولكن بعدما ولى النضال لم يبق لها إلا الغناء.. «علاش مشا النضال؟» وتجيب: من أجل أن يصل الإنسان إلى ما يريد لابد له من أن يسحق الذي وراءه، والذي إلى جانبه، والذي أمامه. وهذا ما يحدث في أي مكان، في الدراسة، بالعمل، بالحب، وحتى في السياسة ...»صديقاتي يقلن لي بأنني أملك قلبا طيبا ولكنني عصبية بعض الشيء.. ربما، إن ما يثير عصبيتي هي العائلة وكذالك العمل قليلا، ها اللي مضارب عالورث، ها اللي قاعد بلا خدمة، ها اللي قابط الدين عوج وكيجاهد فيك، ها اللي كتسنا الراجل، ها اللي مصدعك بمشاكل ولادو. لقد دخلت التلفزيون لكي تكون مقدمة برامج ثقافية وسياسية،.. ولكن، ماذا سأقول لكم عن التلفزيون..من الأفضل أن أحدثكم عنه فيما بعد عندما يحين الحين...». الممثل الثالث «أحمد»، يقطع السرد الحكائي بمخاطبة الجمهور مباشرة وكأنه يشكي همه وعزلته وهو واقف بين ثلاثة نساء. «مساء الخير... صعيب عليا نهدر من بعد ثلاثة ديال العيالات ولكن غادي نحاول». فهو طبيب عيون مختص، وأستاذ في كلية الطب، ولديه فيلا فاخرة في العاصمة، الكل يحترمه لمكانته الاجتماعية، إلا امرأته وبعض أعضاء الحزب الذي ينتمي إليه. ولديه من امرأته فتاتان، وإنه يتخاصم مع زوجته ثلاثة مرات في الأسبوع، ولم يجد راحته إلا في الكلية، وهو مشتت بين الجامعة والحزب ومشاكل العائلة، وعندما انفصلا عن فراش الزوجية، وأصبح لكل منهما بيت وتلفزيون، بكى ونزلت عليه كل هموم الدنيا، ولكن شيئا فشيئا اعتاد على الأمر، وبات يرى الأمر شيئا طبيعيا، ولا ضير من إعادة التجربة، لماذا لا؟!. نلاحظ من خلال هاتين المقدمتين، النصية والركحية، أن الزمن يكاد أن يتوقف في هذه الشخصيات، التي تعيش ذاكرة شبه اجترارية، وضائعة في مفترق الطرق، لا تعرف من أين تبدأ، أو تنتهي وإلى أين تذهب، ولا نفهم سبب وجودها هنا أو لماذا هي تنتظر، أو لماذا لا تستطيع ترك المكان، أو لماذا لم تستمر!. وربما لهذا السبب فهي تختفي من حين لآخر خلف الميكرفون بشكل فردي أو جماعي، ربما لكي تتسلح بالشجاعة عندما تتكلم، وربما لكي تجعل من صوتها مسموعا بشكل مضاعف، وربما لكي تخفي ملامحه الحقيقة. لا سيما أن التجمع / الجوقة ليست وليدة اليوم، وإنما هي من تفكير المجتمعات القديمة، التي كانت بحاجة لشعورها بالقوة والصلابة، والشجاعة في اتخاذ القرار، وربما، لهذا السبب قد سبقت الجوقة ظهور الشخصيات الرئيسية في الدراما القديمة، وربما لهذا السبب أيضا، حاول عصام اليوسفي أن يرسم الملامح الأولى للجوقة من خلال المتكلمة الأولى «ندى» في لوحة: «شكون حنا؟»، عندما تقول: «ندى، ندى الصباح... هادي هي اسميتي أنا... طلبتهوم نبدا لهدرا أنا الأولى وقبلوا كاملين». من الذين طلبت منهم الكلام ندى، وقبلوا؟. الجوقة، التي صارت تتشكل شيئا فشيئا منذ الحركات الكوريغرافيه الأولى، التي ابتدأت العرض فيها المخرجة أسماء هوري، وصورت من خلالها الملامح الأولى لمعاناة شخصياتها. بسبب كل هذا الاضطراب، تجد الشخصيات (ندى، نورا، صوفيا، وأحمد) نفسها محاصرة في وجودها وتاريخها الخاص. وقد عالجت المخرجة، هذا التشكل النصي بوضع شخصيات العرض، في عالم مغلق ينشدون من خلاله الخلاص، بالتجائها إلى الأداء المتجزئ، والانقطاع، والغير مستمر، لأجل إنقاذ شخصياتها من الانتكاسة، وعدم سقوطها في هوة الميلودراما والأداء التقليدي في تصويره للحالات، التي جاءت على هيئة لوحات متداخلة، وضعتها بدراية عالية في فضاءات تكاد أن تكون منفصلة، لا تتتابع بالضرورة مع بعضها البعض، بحيث صار علينا من أجل متابعة القصة أو الحكاية، أن ننظر بعمق إلى كل جزء من الأجزاء ومحاولة تركيبها وإكمال قطعها كما لو أنها لعبة لحل الألغاز المعقدة. وهكذا صار لدينا فضاءات متعددة ويمكن ملاحظتها، بموجب مختلف الأبعاد، في نفس الوقت، مثلما يمكن للحدث أن يكون هنا وهناك، أو في أي مكان آخر، لا سيما أن المكان كان يرسمه الممثل بحركته وأدائه، أو كان يرسمه الممثلون معا كجوقة من خلال أدائهم الكوريغرافي أو أدائهم الجماعي، الذي استخدمته المخرجة أسماء هوري في أكثر من مرة لكي تعطي للحالات المسرحية بعدا بلاستيكيا معبرا. ونستنتج من ذلك، أن الممثل في هذا العرض، لم يكن مجرد حقيقة أولية فحسب وإنما كان عنصرا أساسيا، من غيره لا يمكن أن تكتمل الرؤية الإخراجية. ولقد شعرنا بأهمية هذا الإحساس، من المكانة والوظيفة التي أعطتها المخرجة إلى الممثل، ومن مختلف التدخلات التي اقترحها هو كممثل والتي اقترحت عليه. وبهذه الطريقة استطاعت المخرجة أن تفجر الفضاء وتشظيه في قطع لا تفصل بينها سوى بعض الإكسسوارات، وليس قطع الديكور، بحيث وجد الممثلون أنفسهم في مثل هذه الظروف الزمكانية الخاصة، أكثر حرية واسترخاء في انتقالاتهم من حالة لأخرى، وهذا ما ساعدهم على مقاومة جميع التصرفات والقوالب السلوكية التي يمكن أن تفرضها عليهم الشخصية المكتوبة على الورق؛ مثلما جعلتهم يفهمون قوانين الحركة والتعبير المسرحي وحرية الجسد، وأن يستطيعوا في النهاية أن يتكلموا ببلاغة وارتياح ويصبح لديهم (جسد متكلم أو حاكٍ) بموجب مايرهولد، و(الجسد القابل للتمدد والاتساع ، وفقا ل «اوجين باربا» هو جسد في حالة تمثيل). لم نعد نحسب حسابا لا للبداية، ولا للنهاية، ولا للتسلسل الدرامي التقليدي. لا سيما أن الزمن أصبح، في هذا العرض مجزأ وهجينا، والماضي حاضرا، ويطالب من خلال صداه، معرفة معناه الصحيح، وإن المستقبل يكاد أن يكون غير موجود، مثلما أصبح بإمكان الحاضر أن يمتد إلى الأبد. وإن عدم القدرة على الخروج من المأزق، عمل على انتشار الماضي، الذي جعل من الحاضر لا يطاق، والمستقبل غير متخيل. وكأن الزمن قد توقف، ودخل في دائرة كارثية ميؤوس منها وبلا مخرج، بسبب تراكم الضغوط الشخصية والاجتماعية والسياسية على الشخصيات. أما فيما يتعلق بحواراتها، فهي لم تكن دائما متسقة أو أنيقة, ويمكننا أن نسمع من فم نفس الشخصية الشيء ونقيضه، فضلا عن أنها تتحدث بأكثر من موضوع في نفس الوقت، أما عن طريق المناجاة أو الدردشة مع الآخرين أو تتكلم لكي لا تقول شيئا في النهاية، لأنها لا تُسمع في الغالب من قبل هذا الذي تريد أن يسمعها. وهذا ما يجسده بشكل مجازي ورائع، مشهد قضم التفاحة وبصقها في آن واحد. حيث قلبت المخرجة في هذا المشهد، فعل الغواية المتعارف عليه منذ قديم الزمان، الذي يقول إن حواء هي التي دفعت آدم لقطف التفاحة لها، وهذا هو سبب نزولهما إلى الأرض، وعدم بقائهما في أعالي الجنة الإلهية، إذ نرى أن الرجل «أحمد» يقدم التفاحة للمرأة «ندى»، وبدلا من أن ترفض هذه الأخيرة الطعم الذي يقدم لها، تقبله، بل تقوم بالتهامه بشراهة مبالغة، ولكنها تبصقه، وتقذف به خارج فمها قبل أن يتسلل إلى أحشائها، وهي تشكي ألمها وهمومها. وهنا يتحول البكاء والشكوى إلى فعل تقيء للرجل نفسه، الذي هو سبب مأساتها وتعاستها. وهذه صورة استعارية ذات دلالة مازوشية، تثير التساؤل حول علاقة الرجل والمرأة التي باتت شائكة، ومع ذلك فهي قائمة ولا يمكن للعالم أن يستمر من دونها. ومن الأشياء الرائعة في هذا العرض، أن جميع العناصر كانت مؤتلفة بشكل قوي على الرغم من اختلافها واستقلاليتها، وتفرد كل واحدة منها بنفسها، لكي تعطينا في النهاية صورة جمالية متكاملة. نص عصام اليوسفي له حضوره الذي لا يمكن تجاوزه على الرغم من كل التغيرات التي أحدثتها المخرجة أسماء هوري، على النص، وكتابتها له، بالطريقة التي تليق برؤيتها لمفهوم تقديم العرض بشكل حديث، باعتمادها على التداعي الحر الذي خلق زمكانية خاصة، اعطت للأحداث بعدا جماليا واعيا، دون أن تنسى دور المتفرج فيه. هذا بالإضافة، إلى البحث السينوغرافي لعبد المجيد الهواس، الذي ساهم بكتابة العرض بطريقته البصرية، من خلال تجريده لمكان اللعب، ورسمه لبعض الإيحاءات اللونية واللغوية التي جعلت من المكان نقيضا لنفسه، لا سيما أن الكلمات المكتوبة على الجدار الخلفي للفضاء، كانت تشير بشكل واضح للخروج والإنقاذ، لم تكن سوى كلمات، تختلف مع نفسها، ومع رغبة الشخصيات المسجونة خلفه، وتشبه إلى حد كبير كلمات الرجل ووعوده للمرأة. أما موسيقى رشيد البرومي، فقد كانت بمثابة جوقة ثانية في العرض، لم تكتف بالتعليق على الحدث ومرافقته، وإنما ساهمت باتخاذ موقف مما يجري حولها، وليس صدفة أن تأتي العلاقة الوحيدة والمباشرة مع جوقة الممثلين في نهاية العرض، أي بعد أن تغير كل شيء، واختلفت الكتابة النصية مع الكتابة الركحية، وبدلا من أن تسافر الشخصيات مع هذياناتها، جعلت منهم، المخرجة أسماء هوري، أن يتخذوا قرارا جماعيا انتصرت فيه للبقاء واستمرار الكفاح، بالتنازل عن فكرة السفر، والهروب إلى عوالم مجهولة، ربما تكون أكثر قسوة. أما تمثيل كل من: هاجر كريكع، ووسيلة صابحي، وزينب الناجم، ومحمد الحر، فقد كان أكثر من رائع، ومعاصر، حيث استطاع هؤلاء الأربعة أن يخاطبوا عقولنا وخيالنا وعواطفنا، وأن يجعلونا على مسافة مما كان يدور في أعماقهم من أحزان وآلام وخيبات، مسافة أعطت للعرض، وللتمثيل، حضورا جدليا، لا يمكن أن ينتهي بمجرد ما ينتهى منه الممثلون؛ حضور ظل متواصلا معنا أو بالأحرى، بدأ فينا واستمر لغاية هذه اللحظة، وأعتقد أن كل من شاهد العرض بإمكانه أن يشعر بهذا الإحساس. عندما نقرأ هذا النص / العرض، تواجهنا في بعض الأحيان صعوبة تحديد أي شخصية من هذه الشخصيات، تقول النص مثلما كتبه المؤلف عصام اليوسفي، وأيها خضعت لكتابة ركحية من قبل المخرجة أسماء هوري، ولكن يبدو أن هذا الأمر ليس بالمهم كثيرا، طالما يتأسس الفهم فيه على ما هو بصري ومحكي في آن واحد، وطالما أن العرض يتعامل مع المتفرج بطريقة واعية تجعل منه، في نهاية المطاف، مفكرا عضويا، يحلم بشكل جمعي، ويقود كل متفرج إلى تصور جديد للعالم؛ وطالما أن جميع الشخصيات فيه مجسدة تقريبا، بصورة الأجسام المجروحة، والتعبة، والمعذبة، مثلما نراها تائهة وهائمة على وجهها في عالم دمره فراغ الكلام العاطفي والاجتماعي والسياسي، من خلال تفكيك اللغة ودفعها إلى أبعد ما يكون، وتقسيمها وتجزئتها وإحالتها إلى عناصر صوتية، إيقاع، صخب، تشويش، يتدفق من خلالها المعنى. إن هذا الوصف الذي حاولنا تقديمه بشكل موجز جدا، يجعلنا نفكر في أزمة الدراما الحديثة، وأزمة العرض في عاصفة الحداثة. وهذا هو السياق الجمالي الذي سنحاول بحثه ربما في مقال آخر، وبشكل تفصيلي.