جائزة أفضل إخراج وأفضل ممثلة، في مهرجان بغداد الدولي إن عرض مسرحية كامب لمؤلفها ومخرجها الفنان مهند هادي، ليس بعرض عادي أو مألوف، لأنه وبكل بساطة، قد استعار في شكله ومضمونه من كل الفنون تقريبا: المسرح، السينما، فنون الحركة، القص، وكل ما هو بصري، وحاول الهرب من الكلمات، والحوارات الطويلة، بالتجائه إلى الصورة الشعرية كبديل موضوعي. فالصورة فيه تستمر، وتتقاطع، من خلال المساقط الضوئية القريبة في الكثير من الأحيان، من طريقة هذياننا وأحلامنا، هذا بالإضافة إلى مناظره الخارجية والداخلية، التي حصرها المخرج المؤلف، في سينوغرافيا تكاد أن تكون ضيقة ولكنها عارية ومفتوحة على الاتساع، الذي راح يؤثث، شيئا فشيئا، إلى كثافة الأحداث وصورها وأبوابها ونوافذها، لكي تمتلئ مرة بالحقائب، وأخرى بالكراسي، والشخصيات، وأصوات العويل، والصراخ الذي تتسبب فيه الحروب بكل أنواعها، وكأننا أمام سيناريو سينمائي، أو أبيات شعرية تحاول اصطحابنا في رحلة ضوئية متحركة ومتسلسلة من الأحاجي، والألغاز، إلى مكان يخرج منه اللاوعي دون سابق إنذار، لكي يثير ويستفز المشاهد، ويذكره بحجم المأساة والأشياء والكوابيس، التي مرت على المجتمع العراقي. إذن، نحن أمام شاعر من شعراء الركح، الخشبة بالنسبة إليه مكان للكتابة المباشرة، ولتفجير الفعل، ورسم الحركة، وتشكيل الفضاء الذي تتشظى فيه الصورة، وتنفلق، وتنقسم على نفسها، لكي يتوهج فيها الإيقاع، ويتمنتج وتضبط رناته، بالطريقة التي تليق بالممثل، وحالاته المسرحية المعاشة والمتخيلة، لكي تنتج لنا، في النهاية، الفن، ذلك الجرح الذي يصبح ضوءً، مثلما يقول جورج براغ. إن جراح شخصيات هذا العرض جميعها، تعيش متاهة الوجع العراقي المتغير، وتزيح التراب عن مساحات من التراكم الاجتماعي والسياسي والتاريخي. شخصيات تبحث عن وجودها المهدد بالانقراض والعدم، تحاول أن تخرج من جحيم متاهاته المستمرة، ومن أنفاقه الطويلة التي لا تؤدي إلى مخرج، أو بقعة ضوء، دون أن تعرف بأن الخروج، في نهاية المطاف، هو دخول نأخذه في الاتجاه الآخر، في حقيقة الأمر. أبواب ومنافذ، مفتوحة على بعضها البعض، من يعيش داخلها أو خلفها يعيش نفس مأساة هذا الذي يعيش خارجها، ولكن بشكل مختلف. مأساة معاصرة ترسم خطوط لعبة عبثية للهرب من عالم خرب، إلى آخر أكثر خرابا، حيث «الحقيبة تصبح وطنا». عرض تلتقي شخصياته الرئيسية في أحد مكاتب الأممالمتحدة، لكي تختصم مع نفسها، ومع الآخر الذي يشاركها المأساة. فشخصية الرجل، تعشق تراب الوطن، وتتمنى أن يستقر حاله لكي يعود إليه ثانية، في حين أن شخصية «المرأة «، تود الابتعاد عن جهنمه الحمراء، قدر ما يمكن. وهكذا، يتحول الحب ويصل أعلى مرحلة من مراحل الكراهية. إذن، إن فكرة العرض تلقي بنا مباشرة أمام شيزوفرنية الشخصية العراقية وتطرفها في الحب والكراهية. وهذا هو سر أحد سجونها الذاتية الأبدية، إن جاز لنا القول. في هذا العرض، نكتشف بذاءة الحب وبذاءة الكراهية، وبذاءة السياسة والتقاليد، والحروب، والهجرة، وسلطة الأب، وتطاول الابن وتمرده، وقسوة الشرطي، وغرف التحقيق السرية، وبذاءة النظام السابق والحالي، وبذاءة الوطن الذي لم يعد قادرا على حماية أبنائه، وخاصة، وفوق كل شيء، بذاءة الغرب الذي يدعي الحرية والديمقراطية والتمدن. أحلام وكوابيس وأشياء كثيرة يسلط الضوء عليها العرض، وفق إيقاعات مدروسة، تسافر بنا من مكان إلى آخر، أكثر سخونة واشتعالا. إن شخصيات هذا العرض، تجد نفسها فجأة، محكومة بمغامرة تكاد تكون خارج الزمن العادي، وعلى حافة حدود مجهولة؛ شخصيات هاربة من نفسها وما يحيط بها، غارقة في حالات تحول دائم، مثل المشاعر، والمزاجية التي تمر على أجسامنا. أبواب تفتح وتغلق، حركة دخول وخروج، وتتبع غير مجدي. المرأة لا تريد أن ترجع إلى الوطن نهائيا، في حين أن الرجل الذي قضى نصف عمره فيه لا يمكن إلا أن يعود إليه، رغم أن البلد مليء بالموت. ولكن لماذا يحدث لنا كل هذا؟! تساؤل عبثي!. ولماذا صار ينشر العراقيون غسيلهم الوسخ على مرأى ومسمع من الجميع؟!. هناك أيضا، في هذا العرض، علاقات حب فاشلة، محاصرة ومغتصبة، قضت عليها الحرب وأحالتها إلى قطرات من ندى، مثلما هناك غزل عراقي، وخجل تتطاير منه شرارات الرغبة المكبوتة والجرأة المنفلتة، لتتحولن في نهاية المطاف، إلى تحرش جنسي. كبت وحرمان يعيشه المواطن والبلد بشكل عام، حيث كل شيء فيه حرام، وممنوع، ويدعو إلى الخوف. الأب يمارس سلطة مطلقة، خاصة، عندما يعرف أن خطيب ابنته مجرد جندي، يرفضه، لأن هذا الأخير، وبكل بساطة مشروع موت مستقبلي مؤجل، وإن الفاتحة لم تعد تقرأ على العرسان وإنما على الموتى فقط. فنحن في زمن الموت، وليس الفرح. الرجل تتركه زوجته لأسباب غامضة، فيحاول الهرب من عيون وكلام الناس، فالجحيم هم الآخرون، على حد قول سارتر. فجأة، يمتلئ المسرح بالحقائب، ويقتحمه صوت الموسيقى والصور التذكارية لزواج قديم، وتداعيات لماضي مؤلم. في بيت الزوجية، كل شيء ممنوع، فتح باب الدار ونوافذه، فتح جهاز التلفزيون، الجحيم الزوجي يمتزج بجحيم الحرب. الرجل كان يتمنى أن تلد له زوجته ولدا بدلا من البنت، شعور بالخجل والانطواء على النفس، ورغبة للهرب من كل شيء، ومع ذلك لم يسلم المرء بجلده، فالتقاليد والحرب والاحتلال والجنود المتعطشون لهتك الأعراض، آلة جهنمية لا تعرف العواطف والمشاعر الإنسانية. إذن، كل شيء كذب وزيف، وإن الجندي الذي جاء على متن دبابة لكي ينقذ البلد، ليس إلا لصا، ومغتصبا للبلد ونسائه ورجاله. المرأة تشكو من تغول ابنها العاق، وانضمامه إلى الآلة الجهنمية، التي جلبها المستعمر الجديد بحجة تطهير البلد، ومن التقارير التي يكتبها على الجيران، لمجرد اعتقاده بأنهم المسؤولون عن الذي حصل لأبيه فيما مضى، ولهذا يجب أن يطبق عليهم قانون الشريعة. ما العمل؟! وكيف السبيل للخلاص من العار الذي لحق بها من جراء أفعال ابنها؟. كوابيس وأحلام وماض تعيس ومؤلم يطارد جميع الشخصيات بلا استثناء. إذن لا بد من الهرب، والهجرة، ولكن الذهاب إلى مدينة أين؟، مثلما يقول الشاعر العراقي سركون بولص. في هذا العرض أيضا، هناك اعتراف وبوح مؤلم، لا يترك النفس وأوجاعها والزمان الجريح في سكينة وهدوء. المرأة تحمل حزاما ناسفا، أجبرت على حمله، وهي لا تريد أن تتسبب في موت أحد، فتسلم نفسها للسلطات المعنية، ومع ذلك، تتهم بالإرهاب أثناء التحقيق، وتشير لها اللغة الإنجليزية بأصبع الاتهام، وعليها أن تعترف، وإلا سيكون التعذيب مصيرها. وهنا يختلط الأمر، ويصبح الخطأ صوابا، وبالعكس، والسيئ شريفا، والوحش إنسانا، والخائن مواطنا صالحا، فتضطر المرأة للاعتراف، فتقول: أنا امرأة قد سرق منها عمرها، لماذا، وكيف، لا أعرف ؟! كنت أتمنى أن أنجب طفلا فولدت طفلة، وأعترف بأن واحدا زائد واحد يساوي: اثنين، ولهذا أريد الاعتراف على الإثنين معا. الأول، سرق عمري وخلف لي الكثير من الأمراض، والثاني، أردت أن أقضي العمر كله معه، فذهب ولم يعد، أما الحزام الناسف، فحملته مثلي الكثير من النساء، منهن من انفجر فيهن وتشتتن معه، ومنهن من لم ينفجر، مثل حظي العاثر. أما الرجل، فيعترف بأنه كان يحلم بأن يكون لديه بيت باسمه، يبنيه بنفسه، ولا يدفع إيجاره في نهاية كل شهر، فيسألونه أثناء التحقيق «كم كانوا يدفعون لك؟»، فيجيبهم بتهكم ساخر، بأن كنوز الأرض كلها لا تساوي قطعة صغيرة من هذا الذي كسرتموه وعبثتم به، وإن الحقائق سوف لن تتغير، وإن الأساطير والملاحم هي التي سوف تخرجكم من حياتنا، فيضحكون منه ويتلاشون في ظلمة المسرح... ماذا تريد أن تقول مسرحية كامب؟ لا شيء يمكن أن يقال أو يكتب، فهو عرض للرؤية والشعور قبل كل شيء، حيث التخيل يتفوق على الواقعية الحياتية. إنها تدوين للحياة التي تكاد أن تفقد جوهرها، دون أن تؤثر على تجانس العرض مع هذا الذي يشاركه حياته المسرحية. إن عوالم مسرحية «كامب» لا تحكى وإنما تعاش في اللحظة. سفرها يتحرك في عالم من الوجع الذي تعرض له بلدا بأكمله. فهو يقذف بشخصياته بين وحل الحرب وبشاعة الحياة اليومية. إن هذه الشخصيات تظهر لكي تختفي وتختفي لكي تظهر، من أجل أن تَبدع وتخلق نفسها، دون أن تسيطر تماما على العناصر التي تحيط بها. ليس هناك معنى واقعي في هذه الصور المتسلسلة، والحركات، والمشاعر المتناقضة. تماما كما يحدث في كوابيسنا اليومية، التي تزعزعنا وترعبنا على الرغم من عدم منطقيتها. وهنا يكمن الجدل الكبير بين النص المسرحي، والأشياء، والأجساد. فهل كان النص عنصرا أساسيا في العرض؟ وهل أن كل هذه الصور والحركات والحالات والموسيقى والغناء، التي يستخدمها المشهد المسرحي أكثر أهمية من الكلمات؟ بلا شك أن الكلام كان موجودا، ولكن بشكل قليل إذا ما قيس بصوره وتحولاته واستعاراته الدائمة، لقد كان الكلام يعمل تقريبا مثل الموسيقى والمساقط الضوئية، والمونتاج السينمائي، ويظهر في مجموعة من المقتطفات اللغوية التي تجزئ الحدث إلى درجة يفقد فيها الإحساس بالفضاء والحدود. إن مهند هادي، قد خلق في هذا العمل، لغة كابوسية شعرية، إن جاز التعبير، غير قادرة على العيش في مكان آخر غير خشبة المسرح، وبهذه الطريقة، جعل من المسرح مكانا فريدا من نوعه. بلا شك أننا أمام مسرح يتوفر فيه كل شيء تقريبا، الحركة الراقصة، التمثيل، والتمثيل الصامت، الفنون البلاستيكية، الموسيقى، الغناء، المونتاج السينمائي، الإضاءة وإلخ.. أي القليل من كل شيء. وأعتقد عندما نشاهد هذا العرض، لا يمكن نسيانه بسهولة، على الرغم من أن المسرح يعتبر فنا زائلا، وينتهي بمجرد ما تسدل الستارة عليه، لكي يبدأ من جديد في مخيلة المشاهد وشعوره الباطني. وأقول لا يمكن نسيانه، لأنه يحتوي على الكثير من الصور القوية التي تنحت لنفسها مكانا في الذهن، والذاكرة الجمعية للمشاهدين، وحينما قلت في المقدمة إنه يشبه الشعر إلى حد كبير، ربما ترددت قليلا، ووجدت فيه نوعا من السهولة، ولكن بعد تأمل، ومسافة اتخذتها مع العرض وزمنه، وجدت أن عوالم «مهند هادي» المسرحية قريبة جدا من الشعر، وهذا يعني أن قولي ما زال قائما. لا سيما أن كل واحد منا يمكن أن يراه بالطريقة التي يتمنى أن يراه فيها. بالنسبة لي، أشعر أن في هذا العرض، يوجد أمران: الأول، الازدواجية التي يحملها كل فرد بداخله، ومن ثم الحب، واستحالته، وصعوبة وجوده، في أي حال من الأحوال. إن الازدواجية، تكمن في لعب الممثلين، وفي التناقضات الإنسانية التي كانت حاضرة منذ بدء العرض، في تجسد الشخصيات. حيث نرى أن لكل شخصية على المسرح قرينا واحدا، أو اثنين وأحيانا ثلاثة، هذا بالإضافة إلى الأعباء التي تحملها، وثقل المشاكل، التي يتوجب عليها حملها، بطريقة أو أخرى. وما بين الشخصية وقرينها، هناك نوع من التواطؤ، والتوأمة تقريبا، التي تدفع المشاهد إلى التخيل... وكذلك الحب المزدوج، مع النفس، أولا، ومن ثم مع الآخر، الحب الذي سرعان ما نعثر عليه، ولكن بمجرد ما نرجع قليلا، أو كثيرا، الى الوراء بعض الخطوات، نكتشف أنه انتهى، وهذا في رأينا ليس بالأمر السهل أو الهين. وباختصار شديد، مهما كان الموضوع، ومهما كان الوضع، إن هناك في هذا العرض، شكلا من لامعقولية الحياة يرافق كل لحظاته. وهذا بحد ذاته ما يصحبنا إلى هذيانه وأوهامه، وإلى هندسته المعمارية المبنية بشكل جيد ومحكم. إن الجمالية التي توفرت، تدفعنا نحو الحلم واليقظة في آن واحد، من خلال أساليب جد بسيطة، مثل، التلاعب في المساقط الضوئية، والديكور الذي يبدو خفيفا وثقيلا في نفس الوقت، وقد سمح لنا هذان العنصران، برؤية لعبة الظهور والاختفاء السحرية، والمفاجئة. مثلما جعلانا نعوم في أروقة العرض ومنعطفاته، وأن ننزلق وننصهر فيه مثل ممثليه. كل شيء في هذا العرض كان يتحرك بسلاسة حقيقية. كان فيه نوع من التدفق الدائم الذي يهدهدنا، على الرغم من مشاهده الحيوية والجسدية الديناميكية جدا. وخاصة التحولات الدقيقة للغاية، والانتقال من فضاء لآخر، ومن مزاج إلى ثان، ومن دون أن نعرف دائما، لماذا وكيف، ولكن هذا كله ليس بالمهم، طالما أن القادم من القصة كان موجودا أمامنا، وينبض بالحياة. وبمجرد ما نوشك أن نفهم ماذا يحدث، نجد أن القصة راحت تتسلسل أمام أعيننا، وهذا ما ينسينا بأن هناك تغيرا بالمشاهد. الكلمة الثانية التي أود استعمالها بنوع من التردد: أن العرض كان «ساحرا «، وترددي هذا ينبع من كون أن هذه الكلمة سوف ترسلنا مباشرة نحو «الكليشة أو النمذجة» التي لا تتلاءم ولا تتوافق مع هذه المغامرة المسرحية الخاصة جدا. ولهذا يبقى نعتي له «بالتجربة الشعرية»، هو الكلمة الأخيرة، وشكرا لمؤلف ومخرج العمل «مهند هادي»، وللبوة عرب، التي فازت بجائزة أفضل ممثلة، ومرتضى عرب، وجمع فريق العمل.