مسرح يفكر في ذاته، وفي قتامة الحياة العربية انطلق مهرجان المسرح العربي الثالث ببيروت خلال هذا الأسبوع، وهو المهرجان الذي تنظمه الهيئة العربية للمسرح. وتكتسي هذه الدورة الثالثة أهمية خاصة بعد أن تم إلغاء تنظيم الدورة الثانية في تونس الموسم الفارط بسبب ضعف المسرحيات المقترحة. لهذا، اعتبرت دورة بيروت استئنافا جديدا لمسيرة المهرجان الذي جمع مسرحيات من مختلف البلدان العربية. لحد الآن تميزت العروض المقدمة بنوع من التفكير في المسرح العربي وفي إكراهاته كما في رهاناته المستقبلية. ففي حفل الافتتاح، وفي كلمته خلال حفل تكريمه، شكر أنطوان ملتقى مبادرة تكريمه من الهيئة العربية للمسرح، وألقى شكرا خاصا للدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم الشارقة على رعايته للمسرح، معبرا عن واقع غير مريح لممارسة المسرح في بلده لبنان. ولكن موجة التفكير في المسرح ستبرز منذ المسرحية الأولى، وهي مسرحية «حقائب» من تونس التي فازت بالجائزة الأولى لمهرجان المسرح التجريبي في القاهرة، واستمر التفكير في المسرح من خلال مسرحية «فيفا لاديفا» اللبنانية. قلقٌ بيّنٌ اشتركت فيه المسرحيتان من جهة انشغالهما بواقع المسرح العربي وشروط ممارسته. «حقائب» مسرحية تونسية اختارت موضوع فرقة مسرحية يتناوب أعضاؤها على الكشف عن قلقهم بوضعيتهم، أحيانا يتعلق بقلق كاتب مسرحي وصعوبة استمراره في الكتابة المسرحية، ومرة بهموم ممثل في علاقته بالأدوار المسرحية، ومرات أخرى بالحالة النفسية أو الاجتماعية بالممثلين أو بالظروف التي يجدون أنفسهم فيها خلال مشاركاتهم المسرحية. وكان لاستعارة البحر وصوت أمواجه دلالات عميقة على ما يلف المسرح التونسي وربما المجتمع التونسي برمته من توترات بين الداخل والخارج. واعتمد الإخراج المسرحي على تقنية تعاقب اللوحات المستقلة والمترابطة فيما بينها في الآن نفسه، معتمدا بشكل أساسي على لغة جسد الممثلين محمولة بلغة إضاءة قوية التأشير على الوضعيات المسرحية، والتي تتداخل فيها هموم المهنة بهموم المجتمع وهموم الذات. بنفس الانشغال بالمسرح، ستنقلنا رندا أسمر في مسرحية «فيفا لاديفا» بنص عميق لهدى بركات وإخراج نبيل الأظن في دهاليز نفسية ممثلة تعيش خريف حياتها. بدأت ممثلة عادية تسخر من الحياة ومن المجتمع، وشيئا فشيئا، بدأت تغوص في الذكريات وفي الانشغال بواقع المهنة المسرحية، بتفاصيل حياة مثقلة بالخيبة، ومجتمع معوق. في أعمق لحظات المسرحية، سيتماهى المسرح مع المجتمع، وستكشف الممثلة عن خيبة حياتها وهي تخاطب نفسها من خلال حوار مفترض مع الملقن، وستسير بهدوء نحو لحظة سقوط الأقنعة. فبعد سقوط الستارة الخلفية، تظهر الممثلة منعزلة في شبه قبو مسرح مهجور، وقد دمرتها الحرب والانتظار. مقابل مقدمة الخشبة العارية إلا من ملقن وبضع أكسسوارات، سيظهر عمق الخشبة مستعمرا بشاشات التلفزة، وستضطر الممثلة ذات الماضي العريق إلى قبول دور دبلجة مسلسل مكسيكي في إشارة عميقة نحو تردي ظروف مهنة المسرح في لبنان وفي العالم العربي. بين «حقائب» و»فيفا لاديفا» برز قلق رهيب بواقع المسرح العربي، وانشغل ممثلو حقائب بالتعبير الجمالي والحركي عن هذا القلق، فيما انشغلت رندا بالتعبير عنه شعريا نصا وسينوغرافيا. وفي المسرحيتين كلتيهما، حضرت المسرحيات الكلاسيكية الإغريقية والإليزابيثية، وحضرت مقاطع منها في ثنايا الفرجة المسرحية تعبيرا عن ارتباط قوي بحركة المسرح العالمي. ولكن مسرحيات أخرى اختارت الانشغال بقتامة الحياة العربية بدل قتامة المسرح العربي وشروط تحققه. فقد أرسلت المسرحية السورية «راجعين» من إخراج أيمن زيدان إشارات قوية حول تجربة الشام في تدبير المجتمع تحت شعارات الثورة والقومية والتحرر. فالشيخ كبير السن سيخبر أهل القرية بأنه رأى حلما بعودة الشهداء إلى الحياة، مما سيخلق اظطرابا كبيرا بين الناس، وبين أساطين السلطة. وبأسلوب إخراجي يمزج الدراما مع الأغاني الشامية سنكتشف عبثية حقيقية بالنظر إلى طرافة الموضوع، حيث بدأ الجميع يتملص من عودة الشهداء، لا السلطة راغبة في عودتهم، ولا الحزب يريد ذلك، ولا حتى عائلاتهم، لأنها عائلات استفادت من امتيازات بفضل استشهاد أبنائها. وهكذا لم يبق غير الشيخ وحيدا أمام أجهزة المخابرات في تحقيق حول إشاعات عودة الشهداء ليلفظ أنفاسه شهيدا من الشهداء. وفيما اختارت المسرحية المصرية «عجايب» معالجة مسألة المثقف من خلال شخصية كاتب يتهم بانتمائه مرة للشيوعية ومرة أخرى للأمبريالية، ويقاسي تعذيب أجهزة الأمن لكي يختار الهجرة في أوروبا، قبل أن يقتل بعد رفضه للجنسية الأمريكية واعتزامه العودة إلى بلاده، ستذهب المسرحية العراقية «كامب» من إخراج مهند هادي بعيدا في البحث عن لغة تجريبية مختلفة وجديدة مستفيدة من تقنية الصورة والمونتاج داخل سينوغرافيا هندسية برز فيها اشتغال رهيب على الإضاءة وعلى تعاقب المشاهد المتوالية بدقة عالية مثل تعاقبها في فيلم سينمائي. والمسرحية في النهاية تتخذ من المخيم فضاء لاستقراء صور متعددة من الحياة العراقية الجديدة، حرب ودمار وتفسخ للعلاقات وغياب للتواصل وهجرة وسفر واندثار للحب، كلها حالات شخصية تراجيدية تبحث عن أصالة في محيط منهار. ولم تخرج المسرحية السودانية عن مسلك البحث عن الأصالة في محيط حياتي قاتم ومنهار، قدمت مجموعة أشخاص يمكن اعتبارهم فرقة مسرحية أو مقيمين في قبو أو مجموعة مهمشين، يستعيدون ذكرياتهم ويقدمون حالات إنسانية متتالية يهيمن فيها إحساس بالقهر والتبعية والخوف، وتتوالى عليهم حالات القلق والحرب والاضطهاد... ومثل انشغال المسرحية اللبنانية بالواقع اللبناني، ستنشغل المسرحية السودانية بهذه القتامة المهيمنة على الحياة العربية. قتامة تهيمن على المسرح العربي بسبب غياب شروط مهنية مريحة، وتهيمن على الحياة العربية بسبب كثرة مناطق الصراع والحرب، وتهيمن على الخطاب النقدي حيث لم تنفك خطابات نقاد المسرح وباحثيه في الندوة الفكرية عن الحديث عن أزمة المسرح العربي، وغياب أي أفق ممكن له. وربما لهذه الأسباب، بدأ المشاركون في التفكير في تحديد عناصر استراتيجية للنهوض بالمسرح العربي، واقتراح عناصر الخروج من الأزمة انطلاقا من مبادرات عملية. وفي كل الأحوال، يشكل مهرجان المسرح العربي لحظة للتجمع المسرحي بدون إعادة نفس مواصفات المهرجانات المسرحية، باحثا عن التميز، تشهد مسرحياته إقبال جمهور كثيف ومنقطع النظير، وتجمع ندواته ولقاءاته مهتمين كثر بالمسرح، في مدينة أسطورية مثل بيروت، عاشقة للحياة، نائمة على ضفة ساحرة للمتوسط، يقلقها بمتعة شغب المسرحيين وهم يسيرون في الشوارع فرحين بالحياة والمسرح... منشغلين بقتامة الأخبار التي نزلت عن استقالة الحكومة اللبنانية.