«... علاش مشا النضال؟ لأن بان ليا بنادم حاضي غير كيف يوصل ويطلع، الشغل ولا باين... باش يوصل الواحد خصو يطحن لي موراه، اللي حداه واللي قدامو. فين ما مشيتي هكا دايرة، فالقراية، فالخدمة، فالحب وحتى فالسياسة...» (نورة، دموع بالكحول) تندرج مسرحية «دموع بالكحول» (1) (نص عصام اليوسفي، وإخراج أسماء الهوري، إبداع مسرح أنفاس 2013) ضمن التجارب المغربية المعاصرة التي تسعى لتغيير تدريجي للأشكال الدراماتورجية السائدة بالمغرب، وهي إيذان بكون الحراك المسرحي مرتبط بشكل قوي بالمجال العمومي. يبدأ العرض بكوريغرافيا اختزالية minimalist تعكس مدى تصدع «الشخصيات» الأربع (صوفيا/ نورة/ أحمد/ ندى)، والتي قذف بها إلى الوجود في عالم شديد الانغلاق والانكفاء غير المحتمل؛ لم يتبق لها سوى البوح والدموع لارتياد أفق المصالحة مع الذات، أولا، والآخر، بعد ذلك: «دموع صوفيا ونورة وأحمد وندى»، يذكرنا كاتب المسرحية عصام اليوسفي، «ليست حزينة وتراجيدية، بل ثورية وشاعرية ولكنها في نفس الوقت نابعة من حياتنا العادية... كل شخصية من هؤلاء تعيش أزمة ممتدة في الزمن يتداخل فيها العاطفي بالاجتماعي والمهني بالسياسي... كل رغبة هي مرآب لرغبات متعددة تتجلى وتختفي لتتجلى مرة ثانية وثالثة بألوان ونبرات حادة تارة وخافتة أخرى...» (2) دراماتورجيا نص «دموع بالكحول» تكاد تكون «شذرية»، كما ألمح لذلك بذكاء الفنان رشيد البرومي في عتبته للنص المنشور، ولكنها ليست «شذرية» بالكامل. إنها تنذر أكثر بأن تكون كتابة «مفصولة الأجزاء»، ومتناثرة المفاصل، ومنفلتة عن الدراماتورجيا الكلاسيكية الجديدة من خلال سعيها لتفكيك الحبكة الدرامية لكن دون التخلي عليها نهائيا ودون إحداث تصدع في الخطاب المسرحي برمته. لذلك يمكن اعتبار أسلوب كتابة الدراماتورج عصام اليوسفي في «دموع بالكحول» متشذرا من حيث الشكل أكثر من المضمون: ف «الانفصال في الكتابة الشذرية مضمونا وليس شكلا. أو قل إنه شكل – مضمون يكرس مفهوما معينا عن الزمان، وفلسفة خاصة عن الكائن، وممارسة خاصة للكتابة، ومفهوما بعينه عن النص، ورؤية معينة لتوليد المعاني، وفهما خاصا للغة، ونظرية معينة عن المؤلف.» (3) لقد اعتمد اليوسفي منطق الانفصال داخل النص كخيار استراتيجي عبر تقطيعه إلى أربع مسارات متداخلة فيما بينها، رغم كون كل واحد منها خاضعا لمنطق شخصية محددة، أو بالأحرى ظل شخصية جد قريبة منا من خلال حراكها اليومي. ومع ذلك، هذا الانفصال لا يفضي إلى تصدع الخطاب المسرحي برمته، ولا يربك بشكل نهائي ذلك «الوصل» أو الرابط الذي يؤدي إلى بلوغ المعنى بعد تجميع كل المجزوءات أو المتواليات المنفصلة عن بعضها البعض. بإمكاننا تلمس مسار صوفيا ومعاناتها مع عشيقها الأناني أحمد، ومسار ندى ومعاناتها مع زواج فاشل، ومسار نورة المناضلة والعاشقة الحالمة والمحبطة، ومسار الطبيب والسياسي أحمد الصنهاجي التائه بين الحزب والعمل والعائلة والعشيقة... لذلك يمكن القول بأن النص يسعى بشكل مكثف لإبراز تصدع الذات، و»البحث في أسلوب يقتنص ويحتضن كل ما هو منفلت في ثنايا الذات.» (4) ومع ذلك، تبقى الشذرة متجلية في البناء الدراماتورجي للنص والذي يتشكل بمنأى عن تنامي الحبكة وتطورها من حيث هي سلسلة من الأحداث المرتبطة فيما بينها، رغم وجود تقاطعات بين المآزق الأربعة التي تتخبط فيها الشخوص. من جهة أخرى، ونظرا لتشابه مصائر أو معاناة الشخصيات الأربع، فقد أصبحت كل واحدة منها تعكس صورة الأخرى... لقد وظفت المخرجة أسماء الهوري بذكاء هذا الوصل بين الشخصيات أثناء توظيفها للجوقة... ولعل هذا الارتباط القوي بالذات هو ما دفع باليوسفي لاعتماد خيار «المونولوغ التذكري» من حيث هو نقطة تقاطع بين «المونولوغ السير ذاتي والقص التذكري». مهم جدا في هذا المقام الإشارة إلى كون العودة إلى «المونولوغ» و»الجوقة» في الدراماتورجيا المعاصرة تكتسي دلالات عميقة. يعود استعمال المونولوغ إلى المسرح الكلاسيكي، وهو وسيلة الكاتب الدرامي للكشف عن اضطرابات وأحاسيس وحالات نفسية ونوايا الشخصية وهي تفكر بصوت مرتفع، صوت مسموع لدى الجمهور... والحال أن النقد المسرحي لم يطور آلياته النظرية والنقدية في اتجاه التعاطي مع هذه الظاهرة كما هو شأن النقد الروائي خاصة مع (Genette, 1872 ; Cohn, 1981)... يقول باتريس بافيس في ذات السياق: «نحن إذن في مرحلة ما بعد السرد الدراماتوجي. وبالموازاة مع ذلك، نسجل من داخل الكتابة الدرامية المعاصرة منذ 1990 عودة إلى السرد، والحكي، ومتعة سرد القصص. ومع ذلك، فإن الدراماتورجيا، سواء كانت كلاسيكية، أو ما بعد كلاسيكية، لا تمتح تقريبا أبدا من النظريات ما بعد الكلاسيكية لعلم السرد، تاركة مع الأسف هذا العلم السائر في طريق التجديد في الظل.» (بافيس، دراماتورجيا وما بعد الدراماتورجيا، ص. 8) في ذات السياق، يقر هانس ليمان بأن مبدأ السرد قد أصبح من أهم مرتكزات مسرح ما بعد الدراما، «ذلك أن المسرح أصبح بؤرة للفعل السردي.» (5) إن تركيز المسرحية على التعبير عن دواخل الشخصية والتسريد يجعلها تبدو وكأنها لا تزال هنالك ثقة في بنية اللغة والتي تسعى أحيانا لنقل واحتواء الحقائق الكونية بمعزل عن مساءلة الممارسات المادية التي أدت إلى بروز تلك اللغة... «وإذا كانت الأحداث في الأخبار التاريخية تسرد حسب تسلسل وقوعها.. أحداث المونولوغ التذكري تسرد بشكل شظري، إذ ما يهم أثناء عملية التلفظ هو وصف الأثر الذي تركته تلك الحكاية في ذاكرة الشخصية.» (6) إن مونولوغات «دموع بالكحول» هي عبارة عن تسريد استيعادي بالغ الأثر على ذاكرة الشخصيات الأربع، وموضوعه الأساس هو معاناة تلك الشخصيات. أهم ما يميز مونولوغات «دموع بالكحول» بالإضافة إلى اعتمادها كعلامات ترقيم تضبط الإيقاع الداخلي لدراماتورجيا العرض، إلغاء طريقة التقديم الواقعية ورفض اللجوء إلى «وضعيات تبرر مصدر المادة المروية من قبيل العثور على مخطوط.» (القاضي، 436) تتدافع الشخصيات الأربع في بداية العرض (تحديدا في برولوغ «شكون حنا») في تدفق مفاجئ ومثير لدواخل الذات... من خلال همسات وهلوسات متزامنة بالكاد يسمعها الجمهور، يتضح جليا أن البوح هو السبيل للخروج من عنق الزجاجة... لقد أدت كثافة اللحظة إلى حالة من الامتلاء plethora على مستوى دراماتورجيا العرض المسرحي. كما أن الكلام المتناثر والمبهم أدى إلى التباس هذه الحوارات المنتشرة في الزمان والمكان دون الحاجة لمن ينصت إليها... والحال أن هذا التكثيف الملتبس يعتبر من أهم أساليب الدراماتورجيا ما بعد الدرامية... يزداد هذا التدافع بين الشخصيات وهي تتجه نحو الميكروفون من أجل تحقيق وهم ذلك التدفق المفاجئ لدواخل الذات ومعاناتها وانكساراتها... وهنا تحديدا يصبح الميكروفون الآلية التي تمكن من تحقيق عملية البوح، من جهة، ووسيلة الانفتاح على الآخر، من جهة ثانية. وهو في نهاية الأمر أداة وسائطية تذكر مستعمليها بأنهم بصدد مخاطبة أناس آخرين عبر أثير ما... ومع ذلك، يجب الإقرار بأن التوظيف واسع الانتشار للميكروفون في المسرح ما بعد الدرامي له تأثيره هنا ونحن بصدد الحديث عن «دموع بالكحول». فالميكروفون هو جهاز يحول الموجات الصوتية إلى طاقة كهربائية. وبالتالي فهو يخلق قناعا صوتيا إلكترونيا يحجب الصوت الحقيقي للمؤدي. وهنا تحديدا نكون إزاء قطيعة مع التمثيل الطبيعي والاندماج. كما أن نص المونولوغ، غالبا ما يقدمه الممثلون/ المؤدون وهم في وضعية جسدية ثابتة لا تعكس تعبيرا معينا، وهي وضعية أشبه بالقناع المحايد لدى جاك لوكوك؛ وهذا القناع يزيح الاندماج الكلي في الشخصية. ولكن أيضا، هناك انتقالات لتمثيل حالات ووضعيات إنسانية بالعودة إلى «الجوقة» والدراما. تبرر المخرجة أسماء الهوري هذا الاختيار كما يلي: «يؤسس الممثلون، ضمن روح تقنية الجوقة للغة جسدية وأيديولوجية خاصة دون اللجوء إلى بناء الشخصيات من خلال طريقة أداء بمرجعيات نفسية وذاتية.» (7) فالجوقة، إذن، هي «القلب المحرك للمسرحية»، واستعمالها من حيث هي اختيار جمالي يعمق الكتابة الشذرية على مستوى الدراماتورجيا الركحية. بتحول الشخصيات الأخرى إلى جوقة أثناء مونولوغ معين فهي أيضا تتقمص دور المجتمع بضميره وتناقضاته... إنها تقنية تؤدي إلى فصل الممثل عن الدور؛ وبالتالي، إدراك جسد الممثل كنص ثقافي وذاكرة حية لجروح وندوب من الماضي... هكذا أصبح الممثل/ المؤدي شخصية تناصية بامتياز؛ يجمع بين هويته، جسده، ومقاطع من الدور تبنى وتقوض في الآن نفسه كما لمسنا ذلك في دراماتورجيا عرض «دموع بالكحول» (خاصة العرض الأول بالمسرح الوطني محمد الخامس، يناير 2013). هناك تناص أدائي من نوع آخر، فمشهد «التفاحة» بكثافته الغروتسكية قد يحيلنا لسونيتة شكسبير رقم 66 كما هي ممثلة من طرف بوب ولسن في رائعته «سونيتات شكسبير»... من الواضح أيضا أن عودة «الجوقة» تزيد من حدة الشذرة وتسعى لتقويض البنى الأساسية للتمثيل الدرامي. وهنا تحديدا لا بأس من الاستئناس برأي هانس ليمان وهو يعيد قراءة كتابه المؤسس «مسرح ما بعد الدراما» بعد عشر سنوات من صدوره؛ إذ نجده يقول بخصوص عودة الجوقة ما يلي: «منذ القدم اعتمدت الجوقة من حيث هي حقيقة مسرحية تفتح وتفكك كوسموس الأسطورة المتخيل أو السرد الدرامي. فالجوقة تستحضر حضور الجمهور هنا والآن في المسرح –theatron . (ولعل هذا من الأسباب التي جعلت الجوقة غير حاضرة في شعرية أرسطو، إذ كان هم أرسطو الأساس هو انغلاق العمل الفني واكتماله).» (8) كما أن توظيف الفرقة الموسيقية في جانب من الفضاء الفرجوي تشكل في حد ذاتها جوقة أخرى بالإضافة إلى العزف والغناء. والحضور الملفت للفرقة الموسيقية بقيادة الفنان رشيد البرومي يذكرنا بحضور جون جاك ليميتر Jean-Jacques Lemetre الباريسي في زاويته المعتادة على خشبة مسرح الشمس بآلاته الموسيقية المثيرة للفضول. لقد تغنت الفرقة بألحان رشيد البرومي وغناء خديجة العامودي ليس من أجل خلق تفريغ عاطفي أو التعبير عن دواخل الشخصيات، بل طورت دراماتورجيا موسيقية موازية ومستقلة عن تدفق المسرحية. نفس الشيء قام به السينوغراف عبد المجيد الهواس الذي لم يتعمد خلق وهم مكان ما بقدر ما ألمح تصميمه الاختزالي للفضاء الركحي بانسداد الأفق ووضعية «اللا خروج» No Exit. باختصار، تتميز دراماتورجيا فرجة «دموع بالكحول» بنزوع نحو إلغاء التراتبية بين مكونات العرض المسرحي. لقد تم توظيف كل من النص الدرامي، والممثل، والفضاء، والزمن، والإضاءة، والملابس، والموسيقى الحية، والمنجز السينوغرافي... بطريقة متساوية وبمعزل عن مركزية أو هيمنة لمكون ما... وهذا في حد ذاته اختيار ذكي من طرف المخرجة أسماء الهوري. إنه أسلوب ما بعد درامي فيما يخص دراماتورجيا الفرجة وتعاطيها مع مكونات العرض المسرحي... الآن أيضا، نعيش منعطفا آخرا في تطور الدراماتورجيا، وهو ما يمكن نعته ب «سردنة الدراماتورجيا»narrativisation of dramaturgy... بالعودة إلى السرد في تجربة «دموع بالكحول»، انفتحت دراماتورجيا العرض أيضا على أسئلة مغرب اليوم متحولة بذلك إلى وسيط لإثارة القضايا السياسية والاجتماعية من خلال إدراجها للمتفرج في تجربة فيزيقية ونفسية مكثفة... - 1 «دموع بالكحول» هو العرض الفائز بالجائزة الكبرى بالمهرجان الوطني للمسرح الاحترافي بمكناس سنة 2013: نص عصام اليوسفي، إخراج أسماء الهوري. - 2 عصام اليوسفي، "دموع بالكحول" (الرباط، إيسكيك، 2013) ص. 9. - 3 عبد السلام بنعبد العالي، «في الكتابة الشذرية»: (last access in March 2014) http://www.alawan.org/article194.html - 4 عصام اليوسفي، دموع بالكحول (الرباط، .إيسكيك، 2013) ص. 9. - 5 Hans T. Lehmann, Postdramatic Theatre, 109. - 6 Cohn ، نقلا عن القاضي وآخرون، معجم السرديات، (المغرب: دار الملتقى، 2010) ص. 435. - 7 نص دموع بالكحول (الرباط، إيسكيك، 2013) ص. 11/ 12. - 8 Hans-Thies Lehmann, "Postdramatic Theatre: a Decade Later", in Ivan Medenica (ed), Dramatic and Postdramatic Theatre Ten Years After (Belgrade: faculty of Dramatic Arts, 2011) p. 36.